البحث

عبارات مقترحة:

الرحيم

كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...

الخبير

كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...

التواب

التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...

الكوثر إيجاز وإعجاز

العربية

المؤلف صالح بن مقبل العصيمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه - التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. تأملات في سورة الكوثر .
  2. من هو الشخص الأبتر؟ .
  3. تفسير الآيات الثلاث .
  4. استخلاص أهم الدروس والعبر من سورة الكوثر. .

اقتباس

لَقَدْ أَثْبَتَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِإِعْجَازِهَا وَبَيَانِهَا خَطَأَ مَعَايِيـرِ الْبَشَرِ وَمَقَايِيسِهِمْ، بِاِرْتِفَاعِ الذِّكْرِ وَاِنْـخِفَاضِهِ بِسَبَبِ الأَوْلَادِ، فَأَيْنَ الآنَ مَنْ عَادَوْهُ فِي حَيَاتِهِ، وَقَدْ تَرَكُوا عَشَرَاتِ الْأَوْلَادِ؟ هَلْ تُـحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَـهُمْ رِكْزًا؟ هَلْ بَقِيَ لِـمُنَاوِئِيهِ فِي زَمَنِهِ مِنْ بَاقِيَةٍ؟ لَا وَرَبِّي فَقَدْ اِنْطَفَأَ ذُكْرُهُمْ، وَاِنْقَضَى مِنَ الْـخَيْـرِ اِسْـمُـهُمْ.. إِنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْعُو إِلَى اللهِ، مُـخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، لَا يَكُونُ أَبْتَـرًا؛ وَلَوْ خَلَا مِنَ الذُّرِيَّةِ؛ طَالَمَا أَنَّ لَهْ آثَارًا مِنَ الْـخَيْـرِ بِاقِيَةً، فَانْظُرُوا إِلَى عُلَمَاءِ الإِسْلَامِ: هَلْ رَفَعَ اللهُ ذِكْرَهُمْ بِأَبْنَائِهِمْ أَمْ بِأَعْمَالِـهِمُ الطَّــيِّــبَــةِ؟..

 

 

 

الْـخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إنَّ الـحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ.

 

 وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ- صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ،وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

 

أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ-عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثُاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

 

عِبَادَ اللهِ، حَدِيثُنَا الْيَوْمَ عَنْ سُورَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيـمِ، حَوَتِ الْعَجَائِبَ، مَعَ قِصَرِهَا وَقِصَرِ آيَاتِـهَا؛ إِنَّـهَا سُورَةٌ الْكَوْثَرِ، أَقْصَرُ سُورَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ؛ تَـحَقَّقَ بِـهَا مِنَ الإِعْجَازِ وَالبَيَانِ وَالإِيـجَازِ بِثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ مَا لَا يَسْتَطِيعُ الْبَشَرُ إِيضَاحَهُ وَلَوْ كَتَبُوهُ فِيمَا شَاءُوا مِنَ الصَّفَحَاتِ.

 

عِبَادَ اللهِ، نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تَسْرِيَةً وَتَسْلِيَةً مِنَ اللهِ لِنَبِيِّهِ مُـحَمَّدٍ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، لَمَّا أَصَابَهُ الْـحَزَنُ مِنْ جَرَّاءِ وَصْفِ الْعَاصِ بنِ وَائِلِ لَهُ بِأَنَّهُ أَبِتَـرٌ، حَيْثُ كَانَ الْعَاصُ إِذَا ذُكِرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ قَالَ: دَعُوا ذِكْرَهُ، فَإِنَّهُ أَبْتَـرٌ لَا وَلَدَ لَهُ، فَإِذا مَاتَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ، وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ. فَبَيَّـنَ اللُه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لِنَبِيِّهِ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّ الأَبْتـرَ هُوَ الْعَاصُ أَمَّا أَنْتَ يَا مُـحَمَّدُ؛ فَذِكْرُكَ مُسْتَمِرٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ فَلَقَدْ أَعْطَاكَ رَبُّكَ نَـهْرَ الْكَوْثَرِ، سَيَسْمَعُ بِهِ الْـجَمِيعُ، فَيَرْتَفِعُ ذِكْرُكَ بَيْـنَ الأَنَامِ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَاِنْـحَرْ لَهُ تَقُرُّبًا وَشُكْرًا عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ.

 

 فَيَا لِعَجَائِبِ القُرآنِ! كَيْفَ مَعَ قِصَرِهَا أَبَانَتْ هَذَا الْبَيَانَ، وَسَرَّتْ عَنْ خَيْـرِ الأَنَامِ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، سُورَةٌ بَيَّنَتْ لَنَا كَيْفَ أَزَالَ اللهُ عَنْ قَلْبِ مُـحَمَّدٍ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، مَا يُؤْذِيهِ بِهِ الأَعْدَاءُ، وَبَيَّنَتْ لَنَا عِنَايَةَ اللهِ بِنَبِيِّهِ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-وَتَثْبِيتَهُ وَتَطْمِيـنَهُ.

 

فَإِذَا كَانَ النَّاسُ فِي الْـجَاهِلِيَّةِ قَدْ تَفَاخَرُوا عَلَى مُحَمَّدٍ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، بِكَثْرَةِ أَبْنَائِهِمْ إِيذَانًا بِبَقَاءِ ذِكْرِهِمْ، وَمُرَادُهُمْ أَنْ يُـوجِـعُـوا قَلْبَهُ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ؛ لِتُزِيلَ عَنْهُ الْـهَمَّ، وَتُـجْلِيَ عَنْهُ الْـحَزَنَ، وَتُبَيِّـنَ لَهُ أَنَّ الْـخَيْـرَ الْبَاقِي سَيَكُونُ لَهُ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَّ الاِنْقِطَاعَ وَالْبَتْـرَ إِنَّـمَا لأَعْدَائِهِ، وَمَا عَلَيْكَ يَا مُـحَمَّدُ، -صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ-، إِلَّا أَنْ تَطْمَئِنَّ.

 

وَأَنْ تَشْكُرَ اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، مُـخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، فَتُصَلِّي مِنْ أَجْلِهِ، وَتَنْحَرُ مِنْ أَجْلِهِ غَيْـرَ عَابِئٍ بِأَقْوَالِـهِمِ. فَهَذِهِ السُّورَةُ مِنَ السُّوَرِ الدَّاعِيَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَلَقَدْ صَدَقَ اللهُ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلَا؛ فَقَدْ اِنْقَطَعَ ذِكْرُ أَعْدَائِهِ وَاِنْطَوَى، فَلَا يَشْعُرُ بِـهِمْ أَحَدٌ وَاِمْتَدَّ ذِكْرُهُ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، وَعَلَا؛ فَآمَنَ بِهِ مُنْذُ مَبْعَثِهِ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، مِلْيَارَاتٌ مِنَ الْبَشَرِ.

 

عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ أَثْبَتَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِإِعْجَازِهَا وَبَيَانِهَا خَطَأَ مَعَايِيـرِ الْبَشَرِ وَمَقَايِيسِهِمْ، بِاِرْتِفَاعِ الذِّكْرِ وَاِنْـخِفَاضِهِ بِسَبَبِ الأَوْلَادِ، فَأَيْنَ الآنَ مَنْ عَادَوْهُ فِي حَيَاتِهِ، وَقَدْ تَرَكُوا عَشَرَاتِ الْأَوْلَادِ؟ هَلْ تُـحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَـهُمْ رِكْزًا؟ هَلْ بَقِيَ لِـمُنَاوِئِيهِ فِي زَمَنِهِ مِنْ بَاقِيَةٍ؟ لَا وَرَبِّي فَقَدْ اِنْطَفَأَ ذُكْرُهُمْ، وَاِنْقَضَى مِنَ الْـخَيْـرِ اِسْـمُـهُمْ.

 

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْعُو إِلَى اللهِ، مُـخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، لَا يَكُونُ أَبْتَـرًا؛ وَلَوْ خَلَا مِنَ الذُّرِيَّةِ؛ طَالَمَا أَنَّ لَهْ آثَارًا مِنَ الْـخَيْـرِ بِاقِيَةً، فَانْظُرُوا إِلَى عُلَمَاءِ الإِسْلَامِ: هَلْ رَفَعَ اللهُ ذِكْرَهُمْ بِأَبْنَائِهِمْ أَمْ بِأَعْمَالِـهِمُ الطَّــيِّــبَــةِ؟ هَلْ عَرِفَ النَّاسُ الصَّـحَابَةَ الْأَجِلَّاءَ، والتَّابِعِينَ النُّبَلَاءَ، وَالأَئِمَّةَ الأَرْبَعَةَ، وَأَصْحَابَ الْكُتُبِ السِّـتَّــةِ، وَبَقِيَّةِ دَوَاوِينَ السُّنَّةِ بِأَبْنَائِهِمْ أَمْ بِالْـخَيْـرِ وَالْعِلْمِ الَّذِي تَرَكُوهُ بَعْدَ مَـمَاتِهِمْ؟

 

وَهَا هُوَ شَيْخُ الإِسْلَامِ اِبْنُ تَيِمِيَّةَ، -رَحِـمَهُ اللهُ-، قَدِ اِرْتَفَعَ فِي الْعَالَمِيـنَ ذِكْرُهُ، وَمَاتَ وَلَـمْ يَتْـرُكْ ذُرِّيَّـةً لَا أُنْثَى وَلَا ذَكَرَ، وَقُلْ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ الإِمَامِ النَّوَوِيِّ، -رَحِـمَهُ اللهُ-، وَغَيْـرِهِـمَا الْعَشَرَاتِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ مَاتُوا مِنْ غَـيْـرِ أَوْلَادٍ، وَلَكِنَّ ذِكْرَهُمْ لَا يَزَالُ حَتَّى الْيَوْمِ بَاقِيًا؛ فَيَا لعِظَمِ هَذِهِ السُّورَةِ! وَيَا لِبَلَاغَتِهَا! وَدِقَّةِ بَيَانِـهَا وَعُذُوبَةِ آيَاتِـهَا!

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ رَحْـمَـةِ اللهِ وَمَـحَبَّتِهِ لِنَبِيِّهِ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْكَوْثَرَ، وَهُوَ أَعْظَمُ أَنْـهَارِ الْـجَنَّةِ وَأَعْذَبُهَا؛ لِيَزِيدَ مِنْ ذِكْرِهِ، وَيُعْلِيَ مِنْ شأْنِهِ، وَيُـجْزِل لَهُ عَطَاءَهُ وَمَثُوبَتَهُ. وَانْظُرُوا لِكُلِّ مَنْ شَنَأَهُ -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ- مُنْذُ مَبِعَثِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، لَا ذِكْرَ لَهُ بَيْنَ النَّاسِ حَسَنًا، وَلَا وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا؟

 

وَلقد عَلَّقَ شَيْخُ الإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّة -رَحِـمَهُ اللهُ- عَلَى سُورَةِ الْكَوْثَرِ بِكَلَامٍ عَظِيمٍ؛ حَيْثُ قَالَ: "مَا أَجَلَّهَا مِنْ سُورَةٍ، وَأَغْزَرَ فَوَائِدِهَا عَلَى اخْتِصَارِهَا! وَحَقِيقَةُ مَعْنَاهَا تُعْلَمُ مِنْ آخِرِهَا؛ فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بَتَرَ شَانِئَ رَسُولِهِ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، مِنْ كُلِّ خَيْرٍ فَيَبْتُرُ ذِكْرَهُ.

 

 وَيَبْتُرُ قَلْبَهُ؛ فَلَا يَعِي الْخَيْرَ، وَلَا يُؤَهِّلُهُ لِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ. وَيَبْتُرُ أَعْمَالَهُ فَلَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي طَاعَةٍ، وَيَبْتُرُهُ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَا يَجِدُ لَهُ نَاصِرًا وَلَا عَوْنًا.

 

وَيَبْتُرُهُ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَبِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَلَا يَذُوقُ لَهَا طَعْمًا، وَلَا يَجِدُ لَهَا حَلَاوَةً. وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ شَنَأَ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، وَرَدَّهُ لِأَجْلِ: هَوَاهُ، أَوْ مَتْبُوعِهِ، أَوْ شَيْخِهِ، أَوْ أَمِيرِهِ، أَوْ كَبِيرِهِ.

 

فَهَؤُلَاءِ لَمَّا شَنَؤُوهُ وَعَادَوهُ؛ جَازَاهُمْ اللَّهُ بِأَنْ جَعَلَ الْخَيْرَ كُلَّهُ مُعَادِيًا لَهُمْ؛ فَبَتَرَهُمْ مِنْهُ، وَخَصَّ نَبِيَّهُ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، بِضِدِّ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْكَوْثَرَ؛ وَهُوَ مِنْ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَمِمَّا أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا: الْهُدَى، وَالنَّصْرَ، وَالتَّأْيِيدَ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ وَالنَّفْسِ، وَشَرْحَ الصَّدْرِ، وَنِعْمَ قَلْبِهِ بِذِكْرِهِ وَحُبِّهِ؛ بِحَيْثُ لَا يُشْبِهُ نَعِيمَهُ نَعِيمٌ فِي الدُّنْيَا أَلْبَتَّةَ.

 

وَأَعْطَاهُ فِي الْآخِرَةِ: الْوَسِيلَةَ، وَالْمَقَامَ الْمَحْمُودَ، وَجَعَلَهُ أَوَّلَ مَنْ يُفْتَحُ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ بَابُ الْجَنَّةِ. وَأَعْطَاهُ فِي الْآخِرَةِ لِوَاءَ الْحَمْدِ، وَالْحَوْضَ الْعَظِيمَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ أَوْلَادَهُ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ؛ وَهَذَا ضِدُّ حَالِ الْأَبْتَرِ الَّذِي يَشْنَؤُهُ، وَيَشْنَأُ مَا جَاءَ بِهِ".

 

ثُـمَّ قَالَ رَحِـمَهُ اللهُ: وقَوْلُهُ تَعَالَى: (إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى عَطِيَّةٍ كَثِيرَةٍ صَادِرَةٍ عَنْ مُعْطٍ كَبِيرٍ غَنِيٍّ وَاسِعٍ، وَجَاءَ الْفِعْلُ بِلَفْظِ الْمَاضِي الدَّالِّ عَلَى التَّحْقِيقِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ ثَابِتٌ وَاقِعٌ. فَالْكَوْثَرُ عَلَامَةٌ وَأَمَارَةٌ عَلَى تَعَدُّدِ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لِنَبِيِّهِ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، مِنْ الْخَيْرَاتِ، وَاتِّصَالِهَا وَزِيَادَتِهَا، وَسُمُوِّ الْمَنْزِلَةِ وَارْتِفَاعِهَا، وَأَنَّهُ أَعْظَمُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ وَأَطْيَبُهَا مَاءً وَأَعْذَبُهَا وَأَحْلَاهَا وَأَعْلَاهَا.

 

‏‏ ثُـمَّ قَالَ -رَحِـمَهُ اللهُ-: "وَدَلَّتِ السُّورَةُ عَلَى أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُ بِقَدْرِ أُجُورِ أُمَّتِهِ كُلِّهِمْ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ؛ فَإِنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي هِدَايَتِهِمْ وَنَجَاتِهِمْ؛ فَكُلُّ مَنْ قَرَأَ، أَوْ عَلِمَ، أَوْ عَمِلَ صَالِحًا، أَوْ عَلَّمَ غَيْرَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ، أَوْ حَجَّ، أَوْ جَاهَدَ، أَوْ رَابَطَ، أَوْ تَابَ، أَوْ صَبَرَ أَوْ تَوَكَّلَ، أَوْ نَالَ مَقَامًا مِنْ الْمَقَامَاتِ الْقَلْبِيَّةِ مِنْ خَشْيَةٍ وَخَوْفٍ وَمَعْرِفَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ ذَلِكَ الْعَامِلِ. ثُـمَّ قَالَ رَحِـمَهُ اللهُ: أَمَّا قوله تَعَالَى‏:‏ (‏‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏)‏‏، حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ وَهُمَا الصَّلَاةُ وَالنُّسُكُ الدَّالَّتَانِ عَلَى الْقُرْبِ وَالتَّوَاضُعِ وَالِافْتِقَارِ وَحُسْنِ الظَّنِّ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا في قَولِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏‏قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)‏ [الأنعام: 162]، وَالنُّسُكُ هِيَ الذَّبِيحَةُ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏‏ (‏إِنَّ شَانِئَكَ) ‏، أَيْ مُبْغِضُك هُوَ الْأَبْتَرُ".

 

‏‏ ثُـمَّ خَتَمَ كَلَامَهُ -رَحِـمَهُ اللهُ- فَقَالَ: "وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِشَارَةُ إلَى تَرْكِ الِالْتِفَات إلَى النَّاسِ وَمَا يَنَالُكَ مِنْهُمْ بَلْ صَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ. وَفِيهَا التَّعْرِيضُ بِحَالِ الْأَبْتَرِ الشَّانِئِ الَّذِي صَلَاتُهُ وَنُسُكُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ".

 

وَمِنْ فَوَائِدِهَا اللَّطِيفَةِ‏ أَنَّ رَبَّك يَا مُـحَمَّدُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ، وَأَنْتَ جَدِيرٌ بِأَنَّ تَعْبُدَهُ وَتَنْحَرَ لَهُ.‏ جَعَلَنَا اللهُ مِـمَّـنْ يَتَنَعَّمُونَ بِقُرْبِهِ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-.

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ،وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ،وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ،وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.

 

 أمَّا بَعْدُ: فَاِتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.

 

عِبَادَ اللهِ: وَأَمَّا الْكَوْثَرُ وَأَوْصَافُهُ - سَقَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ وَوَالِدِينَا وَذُرِّيَّاتِنَا مِنْهُ- فَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِـيـرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، مِنْهَا:

 

عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: لَمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ، -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ-، إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: "أَتَيْتُ عَلَى نَهَرٍ، حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفًا، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الكَوْثَرُ" (رواه البخاري).

 

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ- «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟» فَقُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا، يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ، عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ، مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا تَنْطَفِئُ آيَاتُهُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، رَزَقَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ فَهْمَهُ، وَحِفْظَهُ، وَتَدَبُّرَهُ، وَالْعَمَلَ بِهِ، وَتَـحْكِيمَهُ فِي أُمُورِ دِينِنَا وَدُنْيَانَا.

 

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَـمِيلًا، وَلَا تَـجْعَلْ فِينَا وَلَا بَيْنَنَا وَلَا حَوْلَنَا شَقِيًّا وَلَا مَـحْرُومًا، الَّلهُمَّ اِصْلِحْ لَنَا النِّــيَّــةَ وَالذُّرِيَّةَ وَالأَزْوَاجَ وَالأَوْلَادَ.

 

 الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن.

الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَاِقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللَّهُمَّ وَلِّ عَلَيْهِمْ خِيَارَهُمْ وَاِكْفِهِمْ شَرَّ شِرَارِهِمْ.

 

اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ اُنْصُرِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا، وَاِرْبِطْ عَلَى قُلُوبِـهِمْ، وَثَبِّتْ أَقْدَامَهُمْ، وَانصُرْهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الظَّالِمِيـنَ وَاخْلُفْهُمْ فِي أَهْلِيهِمْ بِـخَيْـرٍ.

 

اللهُمَّ أَكْثِرْ أَمْوَالَ مَنْ حَضَرَ، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَطِلْ عَلَى الْخَيْرِ أَعْمَارَهُمْ، وَأَدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. وَقُومُوا إِلَى صَلَاتِكمْ يَرْحَـمـْكُمُ اللهُ.