السيد
كلمة (السيد) في اللغة صيغة مبالغة من السيادة أو السُّؤْدَد،...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - الأديان والفرق |
فإذا لم يكن الشاب ذا علم صحيح، وعقل رشيد يضبط حماسه، وإذا لم يكن له مرجع علمي تربوي يقصده في المشورة؛ فإن الشبهات تتسلل إلى قلبه بكل سهولة، فتؤثر فيه كلمات أولئك الغلاة الذين يظن أنهم الوحيدون في رفع راية الجهاد فيتابعهم فيسقط في فكرهم، ومن ذلك فكر الخوارج. ومن أسباب تسلل هذا الفكر: الفجوة بين الجيلين؛ ومن ذلك سوء العلاقة بين الشباب والمجتمع، والمقصود بالمجتمع كل مكوناته العرف السائد الفكر العام، أسلوب الحياة ومفهوم التدين، الواقع السياسي داخليًّا وخارجيًّا، وكذلك الأعيان كالوالدين والمعلم وولي الأمر، فإما أن تكون العلاقة علاقة قمعًا وحرمانًا، وإما أن تكون علاقة إهمال وغفلة، وقليلٌ يوازن بين هذا وذاك...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ذكرنا فيما مضى أن فكر الخوارج له جذوره العميقة القديمة، ودللنا على ذلك بما حدث في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة من بعده من أذاهم، وبدأنا في تبيان أسباب تسلل هذا الفكر، ومن ذلك الصحبة والمعاشرة، وذكرنا المبالغة والغلو في العبادة بلا علم، وذكرنا الواقع المر الذي تعيشه الأمة الإسلامية في كثير من نواحيها من قتل للمسلمين واضطهاد لهم؛ من قتل وقهر وتشريد وظلم واغتصاب، وهذا يثير الشباب كثيرًا، فكثير من الشباب المتحمس فيه خصلة المغامرة والقتال.
تأملوا حماس الشباب فيما جاء في مجمع الزوائد في حادثة بيعة العقبة الثانية، وبعد إبرامها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له العباس بن عبادة بن نضلة في تلك الساعة وكانوا شباب قلة يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا"؛ يريد أن يهجم على قريش في تلك المرحلة الباكرة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لم أُومَر بذلك".
فإذا لم يكن الشاب ذا علم صحيح، وعقل رشيد يضبط حماسه، وإذا لم يكن له مرجع علمي تربوي يقصده في المشورة؛ فإن الشبهات تتسلل إلى قلبه بكل سهولة، فتؤثر فيه كلمات أولئك الغلاة الذين يظن أنهم الوحيدون في رفع راية الجهاد فيتابعهم فيسقط في فكرهم، ومن ذلك فكر الخوارج.
معاشر الإخوة: من أسباب تسلل هذا الفكر: الفجوة بين الجيلين؛ ومن ذلك سوء العلاقة بين الشباب والمجتمع، والمقصود بالمجتمع كل مكوناته العرف السائد الفكر العام، أسلوب الحياة ومفهوم التدين، الواقع السياسي داخليًّا وخارجيًّا، وكذلك الأعيان كالوالدين والمعلم وولي الأمر، فإما أن تكون العلاقة علاقة قمعًا وحرمانًا، وإما أن تكون علاقة إهمال وغفلة، وقليلٌ يوازن بين هذا وذاك.
فالأب القاسي الذي يقمع ويريد أن يفرض رأيه وأسلوبه على أهل بيته وأبنائه الراشدين، دون أن يكون لرأيهم أدنى قيمة عنده إذا رأى الجميع صامتين ظن أنه على خير وهو في الحقيقة خلاف ذلك؛ لأنه سيخالفون أمره من وراء ظهره، وبدون علمه، بل قد ينحرفون إما إلى الغلو أو إلى الفساد بسبب صلفه وتسلطه بدون أن يشعر.
فالقمع خلاف هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع أصحابه؛ كان يستشيرهم -صلى الله عليه وسلم-، ويفهم مشاعرهم، ويقدّر احتياجاتهم، بل إن الله تعالى أمره بذلك حين قال: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران: 159]، وقال (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر: 88].
فالقمع والكبت والإسكات ليس من الأساليب الرشيدة للتعامل مع الأبناء، سُوء العلاقة بين الأبناء والوالدين من أسباب تسلل هذا الفكر، وفي الوجه المقابل: الإهمال في التربية والتساهل في المتابعة من باب الشفقة ليس بشفقة، فلا ترك الحبل مرتخيًا ينفع ولا شده شدًّا يقطع الأنفاس ينفع، بل إن التقلب بين الحزم واللين بحسب الموقف هو هدي النبوية، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- لينًا وحازمًا.
ففي صحيح البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أثَّرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك -صلى الله عليه وسلم-، ثم أمر له بعطاء".
هذا هو لين النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي الوقت ذاته في صحيح الترغيب عن أبي سعيد قال: كنا جلوسًا عند باب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتذاكر ينزع هذا بآية، وينزع هذا بآية، فخرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كأنما يفقأ في وجهه حَبّ الرمان – أي: من شدة الغضب- فقال: "يا هؤلاء! أبهذا بعثتم؟! أم بهذا أمرتم؟! لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".
هذا هو حزم النبي -صلى الله عليه وسلم- فالتعامل مع الأبناء ينبغي أن يشتمل على اللين في الموقف الصحيح المناسب، وبالحزم في الموقف الصحيح، ولكل مقام مقال وحال.
معاشر الإخوة: حين الحديث عن علاج تسلل فكر الخوارج لا تستغربوا ذكر أساليب التربية، والعلاقة بين المجتمع والشباب؛ فإننا إذا أردنا بحق أن نخفّف من انتشار ذلك الفكر؛ لا بد أن يكون ذلك من خلال تعاون مجتمعي كامل، لا بد من إعداد مشروع شرعي تربوي لإغلاق جميع منافذ تسلله.
ينبغي أن ندرك أنه لا يكفي في ذلك الخطب والمواعظ والمحاضرات والمؤتمرات؛ إذ إن أولئك الأغرار ومن دار معهم قد فقدوا الثقة في مصادر الخطاب الديني لاسيما الرسمي منه، وأكثرهم لا يتلقون الفهم والفتيا إلا ممن يثقون فيهم ممن يوافقهم في أهوائهم إما مشافهة، وإما من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
كما لا يكفي في ذلك العلاج الأمني، فالعلاج الأمني بالرغم من أهميته إلا أنه علاج إسعافي علاج طوارئ بمثابة إطفاء حريق، وسرعان ما يشتعل حريق آخر في مكان آخر.
وأولئك القوم أصلاً يستمتعون بالتحدي، وقادتهم يعظمون مَن انتحر، ومن فجّر نفسه؛ ممن غرروا بهم، ولعبوا بعقولهم من الصغار، ويعتبرونه الفارس المغوار، ويسمون جريمته غزوة؛ تمامًا كما كان الخوارج يعظِّمون قاتل علي -رضي الله عنه- ويعتبرونه أتقى من في الأرض.
إذاً لا بد من معالجة هذا الفكر معالجة اجتماعية شاملة؛ من خلال مشروع وطني شرعي تربوي متكامل، ولذلك نقول: إن من أسباب العلاج أيضًا: مراجعة العلاقة بين الطالب والمعلم، لاسيما في المرحلتين المتوسطة والثانوية.
لا بد أن نعيد النظر في مدى ثقة الشاب بمعلمه، ومدى استشعار المعلم لدوره التربوي قبل المعرفي، ومدى سعيه لكسب ودّ وثقة الطالب، وضبط عقله على المفيد، وإرشاده على المنهج الصحيح؛ لكونه هو قدوةً له أولاً.
فمما يعكّر هذا المسار التربوي: إهمال بعض المعلمين؛ لهذا الدور العظيم؛ فالتعليم صياغة راشدة للأخلاق والقيم في الطالب لا مجرد حشو الذهن بالمعلومات والمعارف.
ومن أسباب العلاج: محاربة المنكرات العلنية، والارتقاء بالاحتساب بحيث يكون أكثر فاعلية مما هو عليها اليوم؛ فالمنكرات المعلنة تستفز الشباب المتدين، وقد تؤجج فيهم الغلو، وكذلك الكتب الإلحادية والمقالات الإلحادية في الصحف يجب منعها أولاً؛ لأن منعها واجب شرعًا، وثانيًا أنها تثير غيظ وغيرة الشباب.
ومن أسباب العلاج: نشر المنهج الصحيح؛ وذلك بالسماح بالدعاة الأكفاء بالوصول إلى المدارس وصولاً رتيبًا، وأن يكون خطابهم للطلاب خطابًا وديًّا قريبًا لا معنفًا شديدًا؛ فقد قال تعالى لنبيه وأفضل خلقه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].
ولعلنا نقف عند هذا السبب لنحذّر من رأيٍ يزعم أن التدين هو سبب ظهور مثل هذا الفكر فإن هذا رأي مرجف يتبناه الصف العلماني بأصالة، ويذهب إليه أيضًا من تأثر بهم من عوام الناس، والحقيقة أن التدين مما يمنع هذا الفكر، لكن بشرط أن يكون تدينًا مبنيًّا على منهج أهل السنة على فهم الصحابة الكرام، لا على فهم الغلاة، ولذلك لما جاء ابن عباس لمناظرة الخوارج سألوه ما جاء بك قال: "جئتكم من عند أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليهم نُزّل القرآن، وهم أعلم بتأويله".
لم يكن أحد من أولئك صحابيًّا أبداً؛ لأنهم تعلموا العلم من أصوله، لذلك نجد أن حالات عديدة تبين فيها أن الشاب الذي قام بعمله العدواني لم يكن متدينًا، بل كان إما جاهلاً وفاشلاً في الدراسة أو فاسدًا في أخلاقه، كما كان من شأن الفتاة التي فجرت نفسها في أحداث باريس الماضية؛ فإذا به بين عشية وضحاها يسبح فكره في قضايا الجهاد، وليس الجهاد على أصوله، وإنما ما ألحق بالجهاد من حركات وأحداث ليست منه، وإذ به يصبح متابعًا لتغريدات أتباع داعش وفكر الخوارج، وإذ بأخباره تنشر في قتل أو تفجير بعد أن جُنِّد مِن قِبل أولئك بشكل غامض.
فالتدين الحق لا يؤدي إلى الغلو، ولذلك نرى عشرات بل مئات الآلاف من طلاب حلق القرآن يتخرجون من دراستهم في نجابة وحسن أخلاق، وما سمعنا بأن أحدًا منهم قد التحق بأصحاب ذلك الفكر التكفيري، الانحراف هو الذي يولد الانحراف أما دين الله فلا يولد إلا الخير والسعادة.
ومن أسباب علاج هذا الفكر: شيوع العدل، العدل أساس الأمن، ولو لم يكن العدل بهذه المنزلة شرفًا ورفعة واحتياجًا في حياة المجتمعات واستقرارها وبناء الدول وازدهارها لما كان العدل من أهم ما بعث به الرسل ليحققوه بين الناس بعد التوحيد، قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد: 25]، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة".
فكلما تحرت الأمة العدل في كل مناحي الحياة؛ كلما ساد الأمن الفكري والاجتماعي والعكس صحيح. ولذلك قيل لعمر: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت".
وكتب أحد الولاة إلى الخليفة عمر بن العزيز -رضي الله عنه- يطلب منه مالاً كثيرًا ليبني سورًا حول الولاية، للحماية فقال له عمر ماذا تنفع الأسوار: "حصِّنها بالعدل، ونقِّ طرقها من الظلم".
إن الناس كثيرًا ما ينظرون إلى الأسباب المادية، ويهملون النظر إلى الأسباب الشرعية، ولذلك ترى القرآن في أكثر من مقام يذكر بهذا فيقول سبحانه: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30]، هناك أسباب شرعية ينبغي أن نفهمها، وقال سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:165].
فإن الانفتاح الكبير في وسائل الاتصال من دون تحصين القلوب والعقول يؤدي إلى الانحراف، عاداتنا تختلف عن عادت المجتمعات الأخرى، المخالطة لها ضوابطها، وإذا لم تضبط ولم يحصن أصحابها؛ فإن لها عواقبها الوخيمة، ولذا نرى النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر من المخالطة والمعاشرة على أهل الشرك: بقوله "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" (رواه أبو داود وصححه الألباني).
والآن نحن نعيش في زمان عادات البشر بمختلف أجناسهم ومللهم يمكن أن نصل إليها نخالطها ونتأثر بها بضغطة زر ونحن في بيوتنا.
حتى البلاستيشن فيه بلاويه ومشاكله، وفيه تدريب على العنف والغلو من حيث لا نعلم؛ فلنحذر ولنكن متيقظين، فالموضوع جد خطير، ويجب معالجته معالجة متأنية وشاملة.
أسأل الله تعالى أن يحفظ علينا أمننا، وأن يصلح شبابنا..