السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | إبراهيم سلقيني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - السيرة النبوية |
يكاد أحد المطاردين اللاهثين على المال أن يدرك رسول الله وصاحبه وهو في طريقه إلى المدينة بعد خروجهما من الغار، فتغوص قدم فرسه..، وهكذا -أيها الإخوة- في كل زمان تُرصَد الجوائز الضخمة والأموال المغرية لكل مَن يستطيع أن يأتي بداعية حق أو بمظلوم فيسلمه إلى الطغاة والظالمين والباغين.. وهذا النموذج من الناس نرى منهم آلاف الآلاف في كل زمن وفي كل بلد، نراهم على استعداد تام لأن يبيعوا مبادئهم وشعاراتهم، بل أوطانهم في سبيل حفنة من المال، أو في سبيل موقع من الجاه
الخطبة الأولى:
الحمد لله آناء وأطراف النهار، ملء السماوات وملء الأرض حيثما توجه إنسان وأينما استقر، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوب إليه، ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة وكشف الله به الغمة، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى أهل بيته، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: يقول تبارك وتعالى في محكم آياته (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30].
روى ابن سعد في مغازيه عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن أشراف القبائل اجتمعوا في دار الندوة، وقالوا: انظروا في أمر هذا الرجل؛ ليوشكن أن يظهر عليكم، فقال قائل: احبسوه في وثاق حتى يهلك كما هلك من كان قبله فتستريحون منه.
فقالوا: ما هذا برأي، قال قائل:" أخرجوه من بين ظهرانيكم فتستريحون منه. قالوا ليس هذا برأي، قام أبو جهل فقال: أعرض عليكم رأيًّا لا أرى رأيًا غيره؛ تختارون من قبيلة شابًّا جَلدًا نهدًا، ويُعطى كل واحد منهم سيفًا صارمًا، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيضيع دمه بين القبائل، ولا يقوى بنو هاشم على محاربة القبائل كلها، فيرضون بديته وينتهي أمره".
فأنزل الله -تبارك وتعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلم (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].
فيجمعون على رأي أبي جهل، ويخططون لتلك المؤامرة الخبيثة للقضاء على دعوة الحق بقتل نبي الحق، لكنهم لا يعلمون أن الحق -تبارك وتعالى- قد تكفّل بنصرة دينه ونصرة أهل الحق إلى يوم القيامة.
وهكذا أوحى الله -تبارك وتعالى- إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- وعرّفه بما يمكرون، وفعلاً في ذلك اليوم الذي أجمعوا فيه على تنفيذ مؤامرتهم، يختار سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك الشاب الجلد الشجاع يختار سيدنا عليًّا -رضي الله عنه- لكي ينام في فراشه، وفي مكان نومه -صلى الله عليه وسلم-.
وفعلاً يختارون من كل قبيلة شابًّا ويسلمونه سيفًا صارمًا، وأحاطت تلك السيوف التي تبرق بالموت بمكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان همّ رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ليس نفسه، وإنما همّه تلك الودائع، وتلك الأمانات، وتلك الحقوق، كيف يردها إلى أصحابها؟!
ولذلك استخلف سيدنا عليًّا -رضي الله تعالى عنه- ليقوم بهذه المهمة.
ويخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستخلفًا عليًّا -رضي الله تعالى عنه- يخرج من بين هؤلاء الذين تبرق سيوفهم -كما قلت- بصواعق الموت؛ يخرج من بينهم فيرمي على وجوههم حفنة من التراب (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) [يس: 9].
طمس الله -تبارك وتعالى- على أبصارهم كما طمس على بصائرهم، ويخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه مستخفيان متوجهان إلى المدينة المنورة عن طريق غير طريق المدينة المنورة، ويدخل هؤلاء المطاردون فيجدون سيدنا عليًّا -رضي الله عنه-، ويعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أفلت من سيوفهم فيعلنون مكافآت مغرية لكل من يأتي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيًّا أو ميتًا.
وهكذا -أيها الإخوة- في كل زمان تُرصَد الجوائز الضخمة والأموال المغرية لكل من يستطيع أن يأتي بداعية حق أو بمظلوم فيسلمه إلى الطغاة والظالمين والباغين.
ويكاد الطلب أن يدرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه من قِبل أولئك؛ فيدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغار، ويصل الطلب إلى فم الغار، ويكاد الطالبون الملاحقون أن يدركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإذا بأبي بكر -رضي الله تعالى عنه- يقول: يا رسول الله -وهو يضطرب لا على نفسه أبو بكر وكل الصحابة يفدون هذا الرسول وهذه الدعوة بنفوسهم وأولادهم وأموالهم وكل ما يملكون، ولكن خوفهم عظيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم- .
فيقول: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا؟!، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا"، فأنزل الله -تبارك وتعالى- على رسوله: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:40].
ومرة أخرى.. أحد المطاردين اللاهثين على المال يكاد يدرك رسول الله وصاحبه وهو في طريقه إلى المدينة بعد خروجهما من الغار، فتغوص قدم فرسه، فيطلب النجدة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أيضًا -أيها الإخوة- هذا النموذج من الناس نرى منهم آلاف الآلاف في كل زمن وفي كل بلد، نراهم على استعداد تام لأن يبيعوا مبادئهم وشعاراتهم، بل أوطانهم في سبيل حفنة من المال، أو في سبيل موقع من الجاه.
فبعد ما قفل سراقة راجعًا اعترضه كثير من أمثاله من اللاهثين على المال، فيقول لهم -كما طلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم-: ارجعوا إلى طريق آخر، فقد كُفيتم من هذا الطريق.
ويدخل -صلى الله عليه وسلم- المدينة المنورة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول المصادف للثالث عشر من بعثته -صلى الله عليه وسلم-.
نعم يدخل كما دخل الأمريكان -أخزاهم الله وخذلهم ودمرهم- كما كانوا يتوهمون وكما قال لهم العملاء: أنهم يُستقبلون بالورود والرياحين.
دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالفرح والسرور والأناشيد والأهازيج:
طلع الـبدر عليـنا | مـن ثنيـات الوداع |
وجب الشكـر عليـنا | مـا دعـا لله داع |
أيها المبعوث فينا | جئت بالأمر المطـاع |
جئت شرفت المديـنة | مرحباً يـا خير داع |
ويتسابق المسلمون على استضافة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتزاحمون ولسنا هنا في معرض التفصيل، فكتب السِّيَر مليئة بتوضيحها، ولكن أشير إلى لمحات خاطفات.
أيها الإخوة الأحبة: كانت الهجرة فاصلاً بين عهدين؛ عهد الإيمان يقاتل مجردًا عن القوة ومجردًا عن المال، ومجردًا عن السلاح، ولكنه لا يضعف ولا يتخاذل ولا يتسابق إلى التبعية والذل والخضوع وبيع المبادئ والمقدسات والأوطان.
وعهد بدأ فيه تكوين الدولة الإسلامية دولة الحضارة، دولة العدالة، دولة المحبة، دولة الأخوة، دولة التسابق على الموت فداءً للحق، فداء للمبادئ، فداء للأوطان.
يتزاحمون على الموت كما يتزاحم كثير من مدّعي العروبة أو الإسلام في هذا العصر على المال والمتاع والمواقع.
نعم -أيها الإخوة- لم تكن الهجرة فرارًا من الموت، وإنما كانت نقلة ومرحلة جديدة، المرحلة الأولى مرحلة البعثة، مرحلة بناء الإنسان الذي هو أساس كل حضارة وكل تقدم وكل بناء وكل رقي، ومرحلة بناء الدولة للمحافظة على الإنسان، على الكرامة الإنسانية، على حرية الإنسان، على العدالة بين الناس، على الاستظلال بظل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13]، لا أقواكم بالمال أو بالسلاح أو بالتغطرس والتعالي وتسخير الآخرين.
أخيرًا -أيها الإخوة- في هذه الفترة يظلنا يوم عظيم هو يوم عاشوراء، هذا اليوم الذي قَبِل الله فيه توبة آدم -عليه الصلاة والسلام- ونجا فيه نوح من الغرق، وأطفأ فيه النيران التي استهدفت سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- .
وهو اليوم الذي نجا فيهم بنو إسرائيل من طغيان وظلم فرعون الذي كان يقتّل أبناءهم ويستحي نساءهم، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون ذلك اليوم، فقال -عليه الصلاة والسلام- "نحن أحق بموسى منهم"، فأمر بصيامه وصامه.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع"؛ لذلك -أيها الإخوة- من السنن المؤكدة أن نصوم التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر، والأوْلى التاسع والعاشر والحادي عشر، وأن تكون مناسبة كريمة لتجديد التوبة مع الصوم، ولمعاهدة الله -عز وجل- بأن نهاجر في سلوكنا وفي تعاملنا من الخطايا والذنوب، وأن نهاجر في بيوتنا من الأفعال والسلوك الذي تخالف نظام الإسلام وآداب الإسلام وصدق -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فاستغفروه وتوبوا إليه ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله سيد الخلائق والبشر الشفيع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المصابيح الغرر ما اتصلت عين بنظر وسمعت أذن بخبر.
أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فاتقوا الله العلي حق تقواه، وراقبوه مراقبة مَن يعلم أنه يراه، وتزودوا من دنياكم لآخرتكم عملاً يرضاه.
واعلموا أنه لا يضر وينفع، ويصل ويقطع، ويفرق ويجمع، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع إلا الله، واعلموا أن الله –سبحانه- له الأمر، أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكة قدسه فقال -عز من قائل- مخبرًا وآمرًا (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ما تعاقبت الأوقات، اللهم أيّد الإسلام والمسلمين وانصر -يا رب- كلمة الحق والدين.