الإسراف .. الداء المقيت

الخطبة الأولى:

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) [الكهف: 1]، وجعله هدى للناس، وضمَّنه بينات وحُجَجًا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، جعل لكل أمةٍ منهجًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، مُزَكَّى الخلائِق، جميلُ الصفات، المُرسَلُ بالحجة البالغة، والنعمةِ السابغة، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن من يتق اللهَ يجعل له مخرجا، ويرزُقْه من حيثُ لا يحتسب.

وإن خيرَ ما أُلقِي في الضمائر يقينٌ بالله، وطُمأنينةٌ بذكره، ومهابةٌ لجلالِه، وشوقٌ إلى لقائِه؛ وما كان ليس كذلك ولا من قَبِيلِه فليس من النفعِ والخيرِ في شيء، ومن نَدِمَ في ساعةِ المهلةِ وقَرَع سنَّه؛ كان خيرًا ممن يؤخَذُ على حينِ غفلةٍ وسِنَة، والأناةُ خيرٌ إلا في عمل الآخرة- ونعوذُ بالله أن نعمى والعيونُ ناظرة-، ومن نقصت دنياه، وزادت آخرتُه خيرٌ ممن نقصت آخرتُه، وزادتْ دنياه، والكَيِّسُ الفَطِنُ من تتبَّعَ آثارَ من فرَّطوا، أيَّ شيءٍ آثروه، وأيَّ أمرٍ أورثُوه، فاللهم اهدنا صراطك المستقيم: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّين) [الفاتحة: 7].

عبادُ الرحمن المتقون هم الذين اشتاقت نفوس العارفين لئن يكونوا منهم، وكم تطَلَّعَت أفئدةُ العارفين إلى اللَّحاقِ بركْبِهم! كيف لا وربنا -تعالى- يقول فيهم: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [الفرقان: 75- 76].

فلا عجبَ إذنْ أن تتطَلَّعَ أفئدةُ مَنْ منَّ الله عليهم بالحياةِ والهدى إلى تلمُّس صفاتهم، وتبيُّنِ خلالِهم، وتحرّي أخبارهم.

والذي يعنينا مِنْهَا في هذا المقامِ القصيرِ هو ما عناه اللهُ -سبحانه بقوله-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67] إنه خُلُقُ جديرٌ بالإشادةِ به، والإثابةِ عليه؛ فَحَالُ عبادِ الرحمن هو القَوامُ بين الإسرافِ والتقتير.

أجل -أيها المؤمنون- فالإنسان في هذه الحياة لا يعيشُ بدونِ عَصَبِهَا الذي مَوَّلّهُ اللهُ إياه واستخلفه فيه، فنهى الله -تبارك وتعالى- عن التقتير؛ إذ هو جحودٌ للنعمة، وخِسَّةٌ في الطبع، وإهمالٌ للحُقوق، وإفسادٌ للنفوس، وإيغارٌ للصدور، وامتناعٌ عن الطيِّبات، ونهى عن الإسراف، الذي هو نذيرُ شؤم، ومُؤْذِنُ هلاك؛ لأنه يفضي إلى الفاقة، ويَنْزِلُ بذويه إلى طبقة المُقِلِّين، والملومين المَحسُورين، ناهيكم عما يُنْبِتُهُ في النفوس من أخلاقٍ مرْذولة، كالجُبْنِ والخَوَر، وضعفِ الأمانة، والإمساكِ عن البذلِ في وجوهِ الخير، والغرورِ والتعالي.

الإسراف داعٍ مُسِمِعٌ إلى الجُبن؛ لأن شدةَ تعلقِ النفوسِ بالزينةِ واللذاتِ يقوِّي حرصَها على الحياة، ويحْمِلُها هذا الحرصُ على تجنُّبِ مواقعِ الشرف.

وكيف لا يكون سبيلًا مبينًا إلى الجور؛ والمنغمِسون في الترفِ يحرِصون على المال لإشباعِ شهواتِهم؛ فلا يبالي أن يكتسِبَه من أي طريق كيفما وقع بيده؟! وَلَبِئْسَ الإسرافُ ذاهبًا بالأمانة؛ فَرُبَّ مسرِفٍ دفعته شهواتُه إلى أن يخونَ من ائتمنه؛ لِيُلبِّيَ داعيَ الشيطانِ في تبذيرِه، وشأنُ من هذه حاله قبضُ يدِه حيثُ بُسِطتْ أيدي المُنْفِقين؛ فهو مَقْطَعَةٌ لحبلِ التعاطُفِ والتوادِّ بين أبناءِ الأُمَّةِ الواحدة.

أيها المؤمنون: الأمةُ المسرفةُ المتخبطةُ في مالِ اللهِ الذي آتاها؛ هي أمةٌ مخَدَّرَةٌ بالشهوات عن الفضائلِ والمكرُمات، بَنُوها إذا بَطُرُوا لا يُرْجَى خيرُهم، ولا يُؤمَنُ شرُّهم؛ فالمرءُ إذا أسرفَ ولم يعرفْ للنعمةِ قدْرَها ضعُفَت نفسُه عن العزائم، وتطلعت إلى الشهوات والرذائل، فربما بغى وأسرَفَ في إمتاعِ نفسِه بالشهوات بلا مقدار، ولذا كان الإترافُ في الحياةِ الدنيا من سماتِ أهلِ النار -أجارنا اللهُ منها-: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) [الواقعة: 41 - 45].

وقال عزَّ من قائل في قوم مُعذَّبين: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون: 33].

وقال عز وجلّ على لسانِ مؤمنِ آلِ فرعون: (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) [غافر: 43].

وكان الإسرافُ أيضًا من المكرُوهاتِ المُحَرَّمات؛ كما في قول رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حرَّمَ عليكم عقوقَ الأمهات، ووأدَ البنات، ومنعًا وهات، وكَرِهَ لكم قيلَ وقال، وكثرةَ السؤال، وإِضَاعَةَ المال" [أخرجه البخاريُّ في صحيحه].

كما أن الأُمةَ المسرفةَ أمةُ أبدانٍ وجُثَثٍ بلا أرواحٍ ولا عقول؛ إذ يقِلُّ النبوغُ والإنجازُ في محاضنِ الإترافِ وأوساطِ التبذير، فما للشهوات طلبٌ إلا أكبرُ منها.

وتلكم الأمةُ المبذِّرةُ هي محلٌّ للتحاسدِ والتدابر، وتَظهَرُ فيها الأمراضُ الفتاكة؛ فالغنيُّ يبذِّرُ في بيتِه ويمسِكُ عن جارِه، فيَكْنِزُ الغنيُّ مالًا، ويكنِزُ ذو الحاجةِ حسدًا وغِلًّا؛ مصداقًا لقولِ مَن لا ينطِقُ عن الهوى -صلواتُ ربي وسلامُه عليه-: "فواللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تُبْسَطَ الدنيا عليكم، كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم، فَتَنَافَسُوها كَمَا تَنَافَسُوها، وتُهلِكَكُم كما أهلَكَتْهُمْ" [متفق عليه].

قال الإمامُ ابنُ الجوزيِّ -رحمه الله-: "ومن البليةِ أن يبذِّرَ في النفقةِ، ويباهيَ بها ليكْمِدَ الأعداء، كأنه يتعرَّضُ بذلك لإصابته بالعين، وينبغي التوسطُ في الأحوال، وكِتْمانُ ما يصلُحُ كِتمانُه".

أيها المسلمون: الإسرافُ شَرٌّ كلُّه، حتى نهى عه الشارعُ فيما هو عبادةٌ وقُربة، كما في تحذيرِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من زاد في الوضوءِ على الحدِّ المشروع، قال صلى الله عليه وسلم: "هَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ، وَتَعَدَّى، وَظَلَمَ" [أخرجه أحمد والنسائي].

وأَمَرَ بالقصد فقال: "والقصدَ القصدَ تبلغوا" [أخرجه البخاري في صحيحه].

والسمتُ الصالح، والهديُ الصالح، والاقتصادُ -وهو التوسط في الإنفاق وغيره- جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوة، قال ربنا -جل اسمه-: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 26 - 27].

والتبذيرُ بذلُ المالِ فيما لا ينبغي، والإسرافُ مجاوزةُ الحد فيما هو مشروع، ولذا كان التبذيرُ أعظمَ من الإسراف، وكُلٌّ شرّ، وجاء في الحديث: "كُلُوا، وَاشْرَبُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا، غَيْرَ مَخِيلَةٍ، وَلَا سَرَفٍ" [أخرجه أحمدُ وابنُ خزيمةَ والحاكم"].

أيها الإخوةُ المؤمنون: وفي هذا العصر على وجه الخصوص؛ كثيرون همُ الذين يشكون من داءِ الإسرافِ الفتَّاك، ويعانون من تَبِعاتِه؛ إلا أنك إذا نظرتَ إلى الواقِعِ المُعايَنِ؛ رأيتَ شيئًا آخر من عدمِ الجرأةِ على التغيير، وحُبِّ مجاراة الناس، أيًا كانتِ الحال، ناسين أو مُتناسين أن القناعةَ مالٌ لا ينفد، وأنَّ من قًنِعَ شَبِع، ومن لم يقنعْ لم يشبع، وأن الدنيا لا دوام لها على حال، وأنَّ فقيرَ يومِها غنيُّ غدِها، وغنيُّ أمسِها فقيرُ يومِها.

ويشتدُّ النكير حينما يكونُ الإسرافُ في ضروراتِ الحياة، التي بها قوامُ حياةِ الناس العامة، والتي يشتركون في الضرر جراءَ الإسرافِ فيها، كمادة الحياةِ الأولى: الماء، والذي بات كثيرون يسرفون فيه ويبذِّرون، حتى لكأنما هم على مجاري الأنهار، وشواطئ البحار، والشارعُ الحكيمُ رغَّبّ بالاقتصاد فيه حتى في الطهارةِ الواجبة؛ فلقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ بالمد ويغتسلُ بالصاعِ إلى خمسةِ أمداد.

ومن ألوانِ الإسراف في ضرورات الحياة العامة: الإفراطُ في استهلاكِ موارد الطاقة، كالكهرباء، ووَقُودِ المركْبات، إسرافًا يعود بالضرر على المجتمع أجمع، وينتُجُ إِثْرَ هذا السَرَفِ المقيت: فسادٌ بيئيّ، ولوثٌ هوائيّ ومائيّ، ثم ضررٌ صحيّ.

وكلُّ ذلك بما كسبت أيدي الناس، وبما أتَوْا مما نُهُوا عنه، أو جَاوَزُوا الحدَّ فيما أُرشِدوا إلى الاقتصادِ فيه: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].

أقول هذا القول، وأستغفرُ الله لي ولكم...

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله الذي أنزل كتابَه فلم يكن فيه اختلاف، وصلى الله وسلم على خيرِ مَنْ أمر بالاقتصاد ونهى عن التبذيرِ والإسراف.

أما بعد:

فإن من صورِ الإسرافِ التي تشاهَد في مجتمعنا كل حين -ويا للأسف-: الإسرافَ في التسوقِ الغذائي، فربما جلب المتسوِّقُ للأسرةِ الواحدةِ ما يكفي الفئامَ من الناس، وما يعلم أو يغلِبُ على ظنه أنه يسبِقُ إليه الفسادُ قبل استخدامه.

والإسرافُ في إعداد الأطعمةِ والولائم؛ إذْ يخرجُ الأمرُ عن الحاجةِ إلى المباهاةِ ورئاءِ الناس، وكثيرٌ من أولاء المبذِّرين يمنع حقًا افترضه الله عليه، ويبذِّرُ كما أملى عليه هواه، يدعو لوليمته الأغنياء، ويدعُ الفقراء، وهاهم أولاء تحملهم قلةُ الديانة وطيشُ العقول، إلى الكشف عن هذا الخلقِ المرذول؛ بالمجاهرةِ به أيما مجاهرة، فلاكتهم الألسن، وقَلَتْهم الأفئدة، وانقلبوا غير شاكرين ولا مستترين.

وحدثوا ولا حرج عن التبذيرِ في الأسفارِ العابثة؛ التي لا مغزى لها ولا معنى، إذْ يحِلُّ عند بعضهم مان قد حَرُم من أوجه الإسرافِ والتبذير، فلا يكاد يُبقي فيمواطنِها موضعَ قدمٍ إلا وَطِئَه، وربما لم يعد من سفرِه إلا ملومًا محسورًا، متحملًا ديونًا لا يطيقُ لها وفاءً.

ومثلها حفلاتٌ فارغةُ المحتوى، ملأت فراغَ كثيرين ضجيجًا، تقام على مسرح إنجازاتٍ متواضِعة أو هي متوهَّمة، باتت تكلفُ عُشَّاقَها شططًا، وترهق الأولياءَ من أمرهم عُسْرًا، ووجودُ عينِ المباهاة والمباراة لتلكم الاحتفالات شرط صحةٍ أساس -والله المستعان-.

لقد علمنا ديننا الحنيفُ أن الاقتصادَ في المأكلِ والمشربِ والملبس وغيرِها محمودٌ في جميع الأحوال، وأمانٌ بإذن الله من الأسقام، وقَيْدٌ عن الدعةِ والخمولِ والتواكل: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].

ألا إن الحكيمَ العليمَ -سبحانه- قد جعل لكل شيء قدْرًا، وإذْ أباح الفرح بفضله ونِعَمِه، لم يُبِحْ فرحًا تُبَدَّلُ فيه نعمةُ الله كفرًا، فرحًا يُخرِجُ إلى السَّرفِ والبطر.

لقد كان خيرًا لمن أنعم الله عليهم بنعمه فأسرفوا فيها وأحسنَ تأويلا لهم: كثرةُ اللهج بذكر الله -تعالى-، ونسبةِ الفضلِ إليه في كلِّ حين، وأن لا مانعَ لما أعطى، ولا معطيَ لما منع، وأن لا حولَ ولا قوةَ إلا به.