الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
وكأني بالعامل وقد هالته المفاجأة، وانبهر وهو يرى قطعانَ الماشيةِ ورعاتَها ويقارن أجرته الزهيدة بما عرض عليه صاحب العمل من مال كثير.. وزاد انبهاره أن صاحب العمل لم يطلب منه نسبة على تنميتها، مما جعله يقول بانبهار: "اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَهْزَأْ بِي"!! ولكن صاحب العمل أكَّد أن ما يراه حقه، ولهول الموقف لم يقدم لصاحبِ العملِ شكراً ولا دعاءَ واستاقَ القطعان، ومع ذلك رضي صاحب العمل؛ لأنه يتعامل مع رب كريم يجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى مائة ضعف..
الخطبة الأولى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أما بعد أيها الإخوة: ديننا لم يدع مجالاً من مجالات العلاقة بالله أو العلاقة بين عباده إلا نظمها ورتبَها وبين ما لكل طرفٍ من حق وما عليه من واجب، ومن أكثر العلاقات التي تمر بنا جميعاً العلاقة بين العامل وصاحب العمل، ولقد رتبها ديننا خير ترتيب.
أحبتي: نبدأ هذه العلاقة بصورة فذَّة من صور الوفاء من أصحاب العمل لنقتدي بها. ذكرها الصادق المصدوق -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمن كان قبلنا، وقد وردت في أصح الكتب بعد كتاب الله -تعالى- صحيحي البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى-، سمعها ورواها رجلٌ صالحٌ من أصحاب رسول الله؛ إنه عَبدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-.
قَالَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مُحَدِّثاً عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ؛ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ صَالِحَةً فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا عَنْكُم.. وفي رواية: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ.
فَقَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ – وفي رواية أن أُجْرَتَهُ فَرَقُ أَرُزٍّ [قال في القاموس: مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع أو يسع ستة عشر رطلاً، أي: ما يزيد على سبع كيلو جرام قليلاً]- فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي. فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ. فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَسْتَهْزِئُ بِي؟! فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ. فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا.. اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ".
أيها الإخوة: لو احتفظ صاحب العمل بمال الأجير أمانة عنده، وأداه إليه كاملاً عندما طلبه منه لكان موضع ثناء وشكر من الناس فما بالك به وقد نماه له ورعاه؟!
نعم! لقد نَمَّى صاحبُ العمل فَرَقَ الأرز للعامل حتى صار قِطْعاناً مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَرُعاتَها من الرَّقِيقِ، ولما جاء العامل لطلب أجرته قال: "لَهُ كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ" فهي لك.!!
وكأني بالعامل وقد هالته المفاجأة، وانبهر وهو يرى قطعانَ الماشيةِ ورعاتَها ويقارن أجرته الزهيدة بما عرض عليه صاحب العمل من مال كثير.. وزاد انبهاره أن صاحب العمل لم يطلب منه نسبة على تنميتها، مما جعله يقول بانبهار: "اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَهْزَأْ بِي"!!
ولكن صاحب العمل أكَّد أن ما يراه حقه، ولهول الموقف لم يقدم لصاحبِ العملِ شكراً ولا دعاءَ واستاقَ القطعان، ومع ذلك رضي صاحب العمل؛ لأنه يتعامل مع رب كريم يجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى مائة ضعف..
أيها الإخوة: أين هذا الرجل من واقع بعض الناس اليوم لينظر صورَ الظلم لهؤلاء الأجراء والعمال، وما يقوم به الكفلاء نحو مكفوليهم من جحود لحقوقهم! حتى إن بعضهم ربما أخَّر مرتب عامله شهورًا عديدة، أو لم يعطه إلا جزءًا منها، وماطل في الجزء المتبقي، فيتذلل هذا العامل لكفيله، ولربما سابقت دموعُه كلماتِه، لكن دون جدوى، فأين هؤلاء من هذا الرجل الصالح وكيف حفظ مال هذا العامل ونماه..
أحبتي: من استطاع منكم أن يكون مثل صاحب فرق الأرز فليكن مثله.. ومن لم يكن مثله فلا أقل من أن يستجيب لأمر النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَولِه: "أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ" (رواه ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وصححه الألباني).
وليحذر أن يكون ممن عناهم المُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله فيما يرويه عن ربه: قَالَ اللَّهُ: "ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -وزاد أحمد بسند حسن- وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ- رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ [أي: العمل الذي استأجره من أجله] وَلَمْ يُعْطِه أَجْرَهُ" (رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ).
تخيل أيها الجاحد لأجر العامل الضعيف أنك تُقَاضى في محكمة العدل الربانية، وخصمك فيها الله -جل جلاله-.. ونص الدعوى أنك استوفيت منفعتك من العامل بغير عوض واستخدمته بغير أجرة فكأنك استعبده.. أما مكان المحاكمة فإنه في ساحة العدل الإلهية، أما موعدها فهو في يومٍ (...تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:2] في يومٍ قال الله -تعالى- عنه (...وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا* يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا* يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:108-111].
فما ظنك أيها الجاحد لحق العامل والظالم له في هذه المحكمة والخصم والحاكم والموعد!! هل تظن أنك ستفلت من الحكم ثم العقوبة؟ وقد أتيت حافياً عارياً لا مال ولا جاه ولا فداء..! لا إخالك إلا مخصوماً ملوماً معاقباً، وتعض على يديك ندماً لأنك لم تؤد حقوق عباده.
إذاً الويل كل الويل لمن أكل حق العامل أو غمطه حقه، وعليه أن يعد للسؤال جواباً وللجواب صواباً.. فهو أمام (اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) [الحشر:22] أمام (اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) [الحشر:23].
أيها الكفلاء: أعطوا مكفوليكم أجورهم كاملة في وقتها، وإياكم ثم إياكم بالمتاجرة بعرقهم.. فإنهم لم يتركوا أهليهم وديارهم إلا طلباً للرزق.. تغربوا ورضوا بالكفاف في عيشهم ومسكنهم وملبسهم من أجل أن يفروا لأهليهم عيشاً يغنيهم..
ولم أر رجلاً يغمط العمال حقوقهم ويتفنن بالحسم عليهم إلا سلط الله عليه ما يهلك تجارته ويفسدها..
حري بنا معاشر الإخوة أن نسعى جاهدين لبراءة ذممنا من حقوق الناس، والعاملين معنا خصوصاً فعملهم معنا جعل لهم علينا حقوقاً وجعل لنا عليهم حقوقاً أخرى سنذكرها..
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، في الدنيا والآخرة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا..
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الإخوة: ديننا دين عدل وإنصاف، وكما أنه فرض للعامل حقوقاً على أصحاب العمل وهم الكفلاء.. فقد أوجب عليهم واجبات وتوعدهم بالعقوبة عند تقصيرهم وخيانتهم.. ومن أول واجبات العاملين إتقان العمل الذي جاءوا من أجل أدائه قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-: «إِنَّ الله يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ» (رواه أبو يعلى وغيره وصححه الألباني عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا).
والتفاني في أدائه.. والشعور بالمسؤولية تجاه العمل؛ فلا يهمل عمله ولا يقصر فيه.
ومنها الأمانة والإخلاص، وعدم الغش؛ فالغش خيانة ليست من صفات المؤمنين، ومن العار علينا معاشر المؤمنين أن ينتشر عند الناس من خلال التجربة أن الكفار أكثر إخلاصاً وأمانةً في أعمالهم منا.. وأن الغش من صفتنا نحن وقد نهانا عنه رَسُولُنا اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقَالَ: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا وفي رواية فَلَيْسَ مِنِّي» (رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).
وأخذ الرشوة، وتضييع الأوقات كل ذلك خيانة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال:27]، فمن أدى الأمانة استحق من اللّه الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل، وصار خائنا للّه وللرسول ولأمانته، منتقصاً لنفسه بكونه اتَّصفت نفسه بأخس الصفات، وأقبحِها وهي الخيانة.. مفوتًا لها أكملَ الصفاتِ وأتمها، وهي الأمانة.
ومما يجب على العامل أو المكفول طاعة الرؤساء في العمل في غير معصية، وأن يلتزم بقوانين العمل التي تضعها الدولة أو صاحب العمل.
ومما يجب على العامل أو المكفول التعفّف من استغلال الوظيفة أو النفوذ للنفع الشخصي أو لنفع غيره من أهل وده.. قَالَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُحَذِّراً مِنْ ذَلِكَ: "مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ". (رواه أبو داود عَنْ بُرَيْدَةَ بن الحصيب وصححه الألباني).
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ عُمِّلَ مِنْكُمْ لَنَا عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِنْهُ مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ فَهُوَ غُلٌّ يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَسْوَدُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ؛ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ.. قَالَ: وَمَا ذَاكَ.!؟ قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَأَنَا أَقُولُ ذَلِكَ مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَأْتِ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَهُ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى". (رواه أبو داود عَنْ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ الْكِنْدِيُّ رضي الله عنه وصححه الألباني).
وقال عياض بن غنم -رضي الله عنه- وكان عاملاً لعمر -رضي الله عنه- على حمص: "فوالله! لأن أُشقَّ بالمنشار أحبُّ إليَّ من أن أخون فلساً أو أتعدَّى!".
أسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يوفِّق كلَّ موظف وعامل من المسلمين إلى أداء عمله على الوجه الذي يُرضي الله -تبارك وتعالى-، ويعود عليه بالثواب والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة.