المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - المنجيات |
ثلاثُ وصايا قصيرةٌ.. فيها المعاني الكثيرةُ.. والأهمُّ من ذلكَ والأعظمُ أنَّ فيها النَّجاةُ وما أدراكَ ما النَّجاةُ. "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ".. أتعلمونَ لماذا؟.. لأنَّ الفِتنَ إذا جاءتْ اختلطتْ الأمورُ.. وغابتْ العقولُ وانطفأَ النُّورُ.. "فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ".. فينظرُ أمامَه فلا يرى شيئاً.. وينظرُ خلفَه فلا يرى شيئاً.. وينظرُ عن يمينِه فلا يرى شيئاً.. وينظرُ عن شِمالِه فلا يرى شيئاً.. عندها لا ينبغي للإنسانِ أن يتكلمُ بغيرِ عِلمٍ مع الجاهلينَ.. ولا يخوضُ بغيرٍ تَثبُّتٍ مع الخائضينَ.. بل عليه أن يُمسكَ لِسانَه من الخوضِ في الأعراضِ والدِّماءِ.. فقدْ لا يُصيبُ الحقَّ فيظلمَ المظلومَ ويتَّهمَ الأبرياءَ.. وقد قالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ"..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أمَّا بعد:
وصفةٌ نبويَّةٌ.. وهِدايةٌ ربانيَّةٌ.. لمن أرادَ النَّجاةَ والْفَكَاكَ.. في أيامِ الفِتنِ والهَلاكِ.. فعندما سمعَ عقبةُ بنُ عَامرٍ -رضيَ اللهُ عنه- أحاديثَ الفِتنِ العَديدةَ.. وأن الإنسانَ قد يبيعُ فيها دينَه ببضاعةٍ زهيدةٍ.. كما في حديثِ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا".. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟..قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ".
ثلاثُ وصايا قصيرةٌ.. فيها المعاني الكثيرةُ.. والأهمُّ من ذلكَ والأعظمُ أنَّ فيها النَّجاةُ وما أدراكَ ما النَّجاةُ.
"أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ".. أتعلمونَ لماذا؟.. لأنَّ الفِتنَ إذا جاءتْ اختلطتْ الأمورُ.. وغابتْ العقولُ وانطفأَ النُّورُ.. "فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ".. فينظرُ أمامَه فلا يرى شيئاً.. وينظرُ خلفَه فلا يرى شيئاً.. وينظرُ عن يمينِه فلا يرى شيئاً.. وينظرُ عن شِمالِه فلا يرى شيئاً..
عندها لا ينبغي للإنسانِ أن يتكلمُ بغيرِ عِلمٍ مع الجاهلينَ.. ولا يخوضُ بغيرٍ تَثبُّتٍ مع الخائضينَ.. بل عليه أن يُمسكَ لِسانَه من الخوضِ في الأعراضِ والدِّماءِ.. فقدْ لا يُصيبُ الحقَّ فيظلمَ المظلومَ ويتَّهمَ الأبرياءَ.. وقد قالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ"..
فما أعظمَ خطرَ اللِّسانِ.. فبكلِمةٍ واحدةٍ من الإنسانِ.. قد يحصلُ غضبُ الرَّحمنِ.. "وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ".. وقد يَهوي بها في لهيبِ النِّيرانِ.. "وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ".
يقولُ ابنُ القيِّمِ -رحمَه اللهُ تعالى-: "وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَهُونُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ وَالِاحْتِرَازُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالظُّلْمِ وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنَ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ مِنْ حَرَكَةِ لِسَانِهِ، حَتَّى تَرَى الرَّجُلَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَاتِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَنْزِلُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَكَمْ تَرَى مِنْ رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ، وَلِسَانُهُ يَفْرِي فِي أَعْرَاضِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَلَا يُبَالِي مَا يَقُولُ".
واسمع إلى نصيحةِ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- لحبيبِه معاذِ بنِ جبلٍ -رضيَ اللهُ عنه- بعدما علَّمَه بعضَ شرائعِ الإسلامِ.. قالَ له: "أَلا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟"، قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ.. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، وقَالَ: "كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا".. فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ، فَقَالَ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟".. وإذا كانَ هذا في أيامِ السَّعةِ والرَّخاءِ واليُسرِ.. فكيفَ بأيامِ الفِتنِ التي تموجُ كموجِ البَحرِ؟
إِنْ كَانَ يُعْجِبُكَ السُّكُوتُ فَإِنَّهُ | قَدْ كَانَ يُعْجِبُ قَبْلَكَ الأَخْيَارَا |
وَلَئِنْ نَدِمْتَ عَلَى سُكُوتِكَ مَرَّةً | فَلَقَدْ نَدِمْتُ عَلَى الْكَلامِ مِرَارًا |
"وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ".. فالبيتُ في أوقاتِ الفِتنِ يصبحُ جنَّةً من الجنَّاتِ.. ويقيكَ بإذنِ اللهِ كثيراً من الشُّرورِ والآفاتِ.. لأن كثيراً من الخُلطةِ والاجتماعاتِ في أيامِ الفِتنِ.. يَغلبُ عليها اللَّغو والإشاعاتُ والقولُ بغيرِ علمٍ.. فيكثرُ الجِدالُ والمِراءُ والخِصامُ.. وتشتبهُ الأمورُ على الكثيرِ فهم في حِيرةٍ وأوهامٍ.. والمصيبةُ من يقتنعُ بالباطلِ ويعتقدُ أنه الحقُّ المبينُ.. فيوالي ويعادي ويبذلُ الجُهدَ فيه وهو من الخاسرينَ.
يقولُ الشَّيخُ ابنُ عثيمينَ -رحمَه اللهُ-: "واعلمْ أن الأفضلَ هو المؤمنُ الذي يُخالطُ النَّاسَ ويَصبرُ على أذاهم، هذا أفضلُ من المؤمنِ الذي لا يُخالطُ النَّاسَ ولا يصبرُ على أذاهم، ولكن أحياناً تَحصلُ أمورٌ تكونُ العُزلةُ فيها خيراً من الاختلاطِ بالنَّاسِ.. ولهذا صّحَّ عن النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أنه قَالَ: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ اَلْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتبع بِهاِ شَعَفَ اَلْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ اَلْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ اَلْفِتَنِ.
فهذا هو التَّقسيمُ، تَكونُ العُزلةُ هي الخيرُ إن كانَ في الاختلاطِ شَرٌّ وفتنةٌ في الدِّينِ، وإلا فالأفضلُ أن الاختلاطَ هو الخيرُ، يختلطُ الإنسانُ مع النَّاسِ فيأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكرِ، يدعو إلى حَقٍّ، يُبيُّنُ السُّنَّةَ للنَّاسِ فهذا خيرٌ، لكن إذا عَجزَ عن الصَّبرِ وكَثَرتْ الفِتنُ، فالعُزلةُ خَيرٌ، ولو أن يَعبدَ اللهَ على رأسِ جَبلٍ أو في قَعْرِ وادٍ". انتهى كلامه رحمَه اللهُ.
ولذلكَ كانَ البيتُ في الفتنِ أفضلَ لمن أرادَ السَّلامةَ.. يحفظُ نفسَه ويأنسُ بربِّه.. قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَه اللهُ-: "إذا اسْتغنى النَّاسُ بالدُّنيا فاستغنِ أَنْتَ بِاللَّه، وَإِذا فَرِحوا بالدُّنيا فافْرحْ أَنْتَ بِاللَّهِ، وَإِذا أَنِسوا بأحبابِهم فَاجْعَلْ أُنسَكَ بِاللَّهِ، وَإِذا تَعرَّفوا إِلَى مُلُوكِهمْ وكبرائهم وتَقَرَّبوا إِلَيْهِم لينالوا بهم الْعِزَّةَ والرِّفعةَ فتَعرَّفْ أَنْتَ إِلَى اللهِ وتَودَّدْ إِلَيْهِ تنَلْ بذلكَ غَايَةَ الْعِزِّ والرَّفعةِ".
وانتبهوا إلى خُلطةٍ حديثةٍ قليلٌ من ينتبهُ إليها.. يعتقدُ الإنسانُ أنه اعتزلَ الفِتنَ وهو منغمسٌ فيها.. وهي خُلطةُ مواقعِ الإنترنت ووسائلِ التَّواصلُ الاجتماعي.. فهو في بيتِه ولكنه لا يزالَ يُشاركُ النَّاسَ خوضَهم.. فيُرسلُ لهذا، ويردُّ على هذا، ويُويِّدُ، ويستنكرُ، وينصرُ، ويُنكرُ، ويوالي، ويُعادي، فبدنُه في البيتِ للنَّاظرِ.. ورأيُه في المجالسِ حاضرٌ.
"وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ".. وذلك لأنه في أيامِ الفِتنِ تظهرُ عيوبُ الكثيرِ وأخطاؤهم.. ويظهرُ الخللُ في أقوالِهم وأحكامِهم.. فقد يشتغلُ الإنسانُ بعيوبِ النَّاسِ عن عيوبِه.. وبأخطائهم عن أخطائه.. فيُزكِّي نفسَه ويتَّهمُ غيرَه.. وقد تكونُ كلمةٌ واحدةٌ في الحُكمِ على الآخرينَ فيها هلاكُه.. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضيَ اللهُ عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَقُولُ: "كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ، فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا، وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ.
إذا شئْت أنْ تحْيا سَليماً من الأذى | وَحَظّكَ مَوْفورٌ وعِرْضُكَ صَيّنُ |
لسانُكَ لا تذْكُرْ به عَوْرةَ امرئ | فكُلّكَ عَوراتٌ وللناسِ ألسُنُ |
وعيْنُك إنْ أبدتْ إليكَ معايباً | لقومٍ فقل يا عَيْنُ للناسِ أعْيُنُ |
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ تعالى بشيراً ونذيراً وسِراجاً منيراً، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبه البررةِ الأخيارِ، وسلم تسليماً كثيراً..
أما بعد: من منكم يُريدُ أن يَحصلَ على أجرِ هِجرةٍ إلى رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-؟.. فيكونُ لهُ مثلُ أجرِ المُهاجرينَ اللذينَ تركوا الأهلَ والأوطانَ.. وهو في وطنِه وبيتِه ومعَ أهلِه في أمنٍ وأمانٍ.. عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسارٍ -رضيَ اللهُ عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم- قَالَ: "العِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ".
واللهِ إننا نحتاجُ أن نستشعرَ هذا الحديثَ.. عندما نرى انشغالَ النَّاسِ بالأخبارِ والتَّحليلاتِ السِّياسيَّةِ في أيامِ الفتنِ.. فيغفلونَ عن كثيرٍ من العباداتِ.. وينسونَ أن تلكَ الأيامَ لا يسلمُ فيها إلا من اعتصمَ باللهِ –تعالى-، والتجأَ إليه.. ولذلكَ أوصى اللهُ –تعالى- عبادَه المؤمنينَ.. وقتَ لقاءِ العدوِ وهو من مواطنِ فتنةِ الهالكينَ.. بذكرِه تعالى، فقالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: 45].
فالمؤمنُ مأمورٌ بالعبادةِ قبلَ الفتنِ.. "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ".. وبالعبادةِ أيامِ الفتنِ "العِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ".. وجاءَ الأجرُ العظيمُ على ذلكَ.. كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ"، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟، قَالَ: "بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ".. وبالعبادةِ حتى الموتِ (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].. ولذلكَ خُلِقَ اللهُ الجِنَّ والإنسَ.. (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 45].
وهكذا يا عبدَ اللهِ لا تنسَ نفسَك في أيامِ الفتنِ من أنواعِ العباداتِ.. التي تُنجيكَ بإذنِ اللهِ –تعالى- من الوقوعِ في المُهلكاتِ.. "وأَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ".. ورَدِّدْ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله؛ فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صل وسلم وبارك...