القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | خالد بن سعود الحليبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - فقه النوازل |
لقد كان مساء الاثنين المنصرم العاشر من المحرم لعام ألف وأربعمائة وست وثلاثين لهجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، مساءً استثنائيًّا في تاريخ الأحساء، البلدة الطيبة بأهلها، المتآلفة في بحبوحة واحتها، المتعايشة بين مذاهبها، المتعاونة بين فئاتها، حين اعتدت مجموعة متطرفة الفكر، جاهلة التصرف، مجرمة السلوك، على مجموعة من الأطفال والمواطنين العُزّل، فسُفكت دماء بريئة، وانتُهكت حرمة شهر حرام، ورَوّعت الناس، وأقلقت الأمن، وزادت بعد ذلك بالاعتداء على رجال الأمن، فقتلت، وجرحت، وطغت، وتجبرت.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله وطاعته، فقد أمركم بذلك الله -جل وعلا- فقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:1.2].
أيها الإخوة المؤمنون: إن حال الأمة اليوم يتطلب من المجتمع المسلم تماسكًا لا يتحمل الخلل، وقوةً في البناء لا تتحمل الضعف، وترابطًا بين الحاكم والمحكوم لا يقبل اهتزاز الثقة، ولا القعود عن المشاركة في تدعيم الأمن، ونشر أجنحته الظليلة الوارفة.
والأمن هو النعمة الكبرى التي امتن الله بها على عباده، فقال -عز وجل-: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [القصص:57].
ونحن في هذه البلاد قد امتن الله علينا بهذه الجوهرة الثمينة، والنعمة العظيمة، فأَمِنَا حين يخاف الناس، وشَبِعْنَا حين يجوع الناس، وسَكَنَا حين يُشرد الناس، وشرفنا بالوقوف مع إخواننا في أنحاء المعمورة في كل عادية مرت عليهم، أوَيكون جزاء إحسان الله إلينا إلا الإحسان والشكر الجزيل على هذه النعمة الكبرى شكرًا عمليًّا وقوليًّا؟.
إن التفريط في هذا الأمن، وزعزعته في هذه البقعة المباركة التي تُعد معقل الإسلام الأول، ومأرزه الأخير، لهو عدوان على الإسلام والمسلمين في كل أنحاء الأرض، مهما كانت نيات من خالف ذلك، واشترك -ولو بكلمة- في إشعال فتيل الفوضى والقلق الأمني، فكيف بمن تطاول على النفوس البريئة فقتلها، وعلى المجتمع الآمن فأقلقه، وعلى حدود الله -تعالى- فانتهكها؟!.
لقد كان مساء الاثنين المنصرم العاشر من المحرم لعام ألف وأربعمائة وست وثلاثين لهجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، مساءً استثنائيًّا في تاريخ الأحساء، البلدة الطيبة بأهلها، المتآلفة في بحبوحة واحتها، المتعايشة بين مذاهبها، المتعاونة بين فئاتها، حين اعتدت مجموعة متطرفة الفكر، جاهلة التصرف، مجرمة السلوك، على مجموعة من الأطفال والمواطنين العُزّل، فسُفكت دماء بريئة، وانتُهكت حرمة شهر حرام، ورَوّعت الناس، وأقلقت الأمن، وزادت بعد ذلك بالاعتداء على رجال الأمن، فقتلت، وجرحت، وطغت، وتجبرت.
إن الأحساء بنَت علاقة أبنائها على الألفة والتعاون المشترك فيما يتفقون عليه من أمور الحياة والتجارة والزراعة، ولا يزال مصطلح الشريك حيًّا إلى الآن، وهو يعني شراكة اثنين؛ كثيرًا ما يكونان من مذهبين مختلفين في عمل زراعي واحد، وتبنى هذه الشراكة على الثقة والأمانة، بل إن أندية الأحساء ومنتدياتها الثقافية والأدبية، وجامعاتها ومجالسها العلمية كثيرًا ما تجمع المختلفين في توجهاتهم، ولكن يستمع بعضهم إلى بعض، ويتحاورون دون أن يؤدي ذلك إلى أية مفارقات تهدم هذا الأمن الوارف.
عبثًا يُحاولُ خَطفَكِ الأعداءُ | يا حُلوةَ العينينِ يا حَسناءُ |
يا نخلةً ما اسّاقطت إلا هُدًى | لما بجذعكِ هَزّكِ الجُهلاءُ |
خابت ظنونُ العابثينَ أما دَروا | ما ورّثت أجيالَها القُدماءُ؟ |
حِلمٌ لهم يَزِنُ الجبالَ رزانةً | ومع الأناةِ إذا بدت نكباءُ |
بِيضُ الوُجوهِ نقاوةً وبشاشةً | لا تستطيبُ قلوبَهم شَحناءُ |
هذي جِبلّةُ أهلِها خُلقوا بها | فُرقاءَ تُبصرهم، وهُم رُفَقاءُ |
زمنٌ مضى ما فرّقتهم فتنةٌ | في كلِّ ما ينتابهم شُركاءُ |
تأبى النخيلُ وظلّلتهم عُمرَها | والعيشُ يأبى بينهم والماءُ! |
يا أنتَ، حَسبُكَ لن تنالَ مِنَ التي | غنّى أصالةَ أهلِها الشعراءُ |
اِرجع - عدمتُكَ- إنَّ بيعَكَ خاسرٌ | أو ما علمتَ بأنهّا الأحساءُ! |
إن هذا الحادث الإجرامي اعتداء آثم وجريمة بشعة يستحق مرتكبوه أقسى العقوبات الشرعية، لما انطوى عليه من هتك للحرمات المعلومة بالضرورة من هذا الدين، وما أبشع وأعظم جريمة مَن تجرأ على حرمات الله، وظلم عباده، وأخاف المسلمين! فويل له من عذاب الله ونقمته، ومن دعوة تحيط به!.
نسأل الله -تعالى- أن يكشف سترهم، وأن يفضح أمرهم، وأن يمكِّن منهم، والظن في جميع المواطنين والوافدين في مملكتنا الكريمة، أن نمتثل أمر الله –تعالى- في أن نكون صفًّا واحدًا تجاه هؤلاء المجرمين الخونة؛ لتفويت الفرصة على أعداء هذا الدين وهذا الوطن الذين يطمعون في النَّيْل من وحدته واستقراره.
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت: 67].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العاملين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن النار تبدأ بعود ثقاب، فإن أطفئ، وإلا فلا حدَّ لها، وكم غابة كالمحيط المتدافع استحالت كتلاً من اللهب لا تُبقِي ولا تذر.
وإن نار الفتنة لا تأكل صاحبها فقط، بل تأتي على الظالم والمظلوم؛ ولذلك، فإن الواجب علينا جميعًا أن نشارك في إخمادها، لينطفئ فتيل التنازع الذي لا يُعقب إلا فشلاً، يفرح به أعداء الإسلام؛ (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: 46]، هكذا نادانا ربنا -عز وجل-، فكم سيسرهم أن ننقسم، وكم سيسرهم أن تُهدَر دماؤنا، وتضيعَ أموالنا، وتُنتهك حرماتنا كما حصل في عدد من بلاد المسلمين، حتى هذه الساعة لم تبرد لهم نار، ولم يقر لهم قرار.
إن المسلمين اليوم في أشد الحاجة إلى التعايش فيما بينهم؛ حتى مع اختلاف مشاربهم، وتنوع مذاهبهم، وتعدد رؤاهم، وإن هذا التعايش داخل إطار الوطن الواحد، وتحت مظلة الإسلام الواسعة، كفيلٌ بأن يوحّد صفّهم، ويعلي كلمتهم، ويجمع شملهم، ويقوي بلادهم، وتنتظم به معايشهم، ويوفر الأمن والاستقرار لهم، ويحول دون ضياع الدين والدنيا، ويغيظ عدوهم المشترك، ويسد منافذ الخبثاء ومسالكهم في التفريق بينهم، ولو أن كل مجموعتين من المسلمين اختلفتا اقتتلتا، لما بقي بين المسلمين وشيجة ولا رابط، فأين الدين والعقل وروابط الدم وحرمة الأوطان؟!.
عباد الله: إن ما وقع في الأحساء خلال هذا الأسبوع جريمة وحادث بشع وغريب على نسيج المجتمع في الأحساء، الذي يتعايش فيه السُنة والشيعة في سلام منذ عصور طويلة وأزمان مديدة، ويحرص كل طرف منهم على الوئام مع شركاء الوطن والأرض والمصالح المشتركة، ولقد علمنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أن نحسن الجوار، ونزور المريض، ونحفظ الدماء، ونصون الأعراض، ونؤدي الحقوق، وقد جاوره من يدينون بغير دينه، فسالَم مَن سالمه، وحالف مَن حالفه، وعاهَد من عاهده، وحارب من حاربه.
ولسنا في حاجة إلى التأكيد على أن التعايش لا يعني التنازل عن عقيدة، أو الرضا بغير الحق، ولكن يعني إقامة الحقوق والواجبات، والتعاون على عمارة الأرض، وحفظ الضرورات الخمس، فالمسلم الحق هو الذي يسلم منه الجميع، من شجر وحجر وبشر وحيوان، ويستشعر الناس معه الأمان، حتى وإن خالفوه، فإن هذا من مبادئ ديننا الحنيف.
إن القتل العشوائي والتفجير والتدمير فضلاً عن حرمته، وأنه من كبائر الذنوب، فإنه عمل خبيث خسيس، يشعل أوار الفتنة بين الآمنين، ويقطع حبال الود وحُسن الجوار بين المسلمين، ويؤدي بهم -لو ترك الأمر للجهلاء، ولم يتدخل العقلاء- إلى نزاع يهلك الحرث والنسل، تتضرر به البلاد والعباد، لا قدر الله.
ولقد خاب هؤلاء وخسروا، فها قد توحد موقف الدولة مع العلماء والمواطنين من الجانبين، فجاء من يمثلها على مستويات عالية إلى الأحساء ليضعوا أيديهم في أيدي شعبهم الوفي، ليقولوا للتطرف والغلو: لا، لن تستطيع أن تفتَّ من وحدتنا، ولا من تعايشنا، وصدرت بيانات كبار العلماء والمثقفين وكأنها من مشكاة واحدة، ولا تجد على لسان عاقل يفقه دينه وواقعه إلا إنكارًا لهذه الجريمة النكراء.
هذا، وإن تحقيق الأمن لا يكون فقط بنبذ الغلو والتطرف فحسب، بل بنبذ التفريط في دين الله -تعالى- وإهمال الشريعة وأحكامها، ولن تُمكن الأمة إلا بعد أن تستقيم على شريعة الله تعالى، وتقيم حدودَه.
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، اللهم من أرادنا وأراد بلادنا وسائر بلاد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره.
اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم رد عنا كيد الكائدين، وعدوان المعتدين، واقطع دابر الفاسدين والمفسدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفّقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.
اللهم انصر إخواننا في كل مكان، وبارك لهم في عتادهم وأرزاقهم، واحفظ عليهم أمنهم وأعراضهم ودينهم، وردّهم إلى بيوتهم سالمين غانمين، ومكّنهم من عدوك وعدوهم.
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.