العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات |
نحن في هذه الأيام، وعبر الشهور الثلاثة القادمة، والأيام المتتالية، نعيش في أحضان أشهر عظيمة، وأيام جليلة، عمها وخصها بالفضل سبحانه، فمن النصوص العامة لهذه الأشهر الحرم القادمة، وهي الأربعة المشهورة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب،.. ولماذا سميت حرمًا؟ سميت لزيادة حرمتها، وتحريم القتال فيها، ولأن الله حرم فيها القتال بين الناس، فهي حرم، أي حرام، فيجب احترامها وتقديرها، وتعظيمها من تعظيم الله، (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العلي الأكرم، أحمده على النعم الجديدة منها والأقدم، وأشهد أن لا إله إلا الله، بيّن الأشهر الحرم، وخصها لما لها من القدر المعظم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المكرم، وعلى آله وأصحابه أهل التقى والكرم.
أما بعد، فاتقوا لله، فإنها العز والكرم، وبها المنازل والنعم، والسلامة من النار والأمم.
ألا إنما التقوى هي العز والكرم | وحبك للدنيا هو الذل والسقم |
وليس على عبدٍ تقي نقيصة | إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم |
يا رب: اجعلنا في هذه اللحظات من أهل البر والخيرات، وكفر عنا السيئات، وارفع لنا الدرجات، وأصلح لنا الأزواج والأولاد والذريات.
عباد الله: إن الله -سبحانه- يقلب الليل والنهار لحكم وأسرار، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الأَبْصَارِ) [النور: 44]، ففاوت بين الشهور والأيام، وأودعها الأسرار والأحكام، والسنة –عباد الله- مكونة من اثني عشر شهرًا، ابتداء بالمحرم، وختمًا بحج بيت الله المحرم.
ولكل شهر خصائصه ومزاياه، وما فيه من عبر الدنيا ووقائع الدهر، وعبادات منها الفرض والنفل، وتقلبات الدهر واختلاف الأيام، وتحول الشهور والأعوام، مؤذن بانقطاع الأعمار والأيام، فأول الدروس العلم الجازم، الصادق الحازم، أن الله هو الحكيم العليم، وأن الله هو الذي يدبر الأمور، ويسير الدهور، وهو الحكيم الغفور.
أيها الإخوة الأكارم: نحن في هذه الأيام، وعبر الشهور الثلاثة القادمة، والأيام المتتالية، نعيش في أحضان أشهر عظيمة، وأيام جليلة، عمها وخصها بالفضل سبحانه، فمن النصوص العامة لهذه الأشهر الحرم القادمة، وهي الأربعة المشهورة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، منها ما أشار إليه -سبحانه- في كتابه، ونوه بها في محكم بيانه، (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [التوبة: 36].
وبينت السنة هذه الأشهر وعينتها، فروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم، عن أبي بكرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب في حجة الوداع، فقال: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان".
ولماذا سميت حرمًا؟ سميت لزيادة حرمتها، وتحريم القتال فيها، ولأن الله حرم فيها القتال بين الناس، فهي حرم، أي حرام، فيجب احترامها وتقديرها، وتعظيمها من تعظيم الله، (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].
ثم نهى -سبحانه- عن محرم نزه نفسه المقدسة عنه، وهو الظلم، (وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) [ق: 29]، فنهى عن الظلم فيها، (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة: 36]، قيل: المراد جميع شهور السنة، لا تظلموا فيها أحدًا، ولا تظلموا أنفسكم. وقيل: المراد الأشهر الحرم الأربعة.
وبه قال ابن عباس ورجحه جمعٌ، فلا تظلموا أنفسكم بفعل المعصية، وترك الطاعة، ولا تظلموا غيركم، فالظلم ظلمات يوم القيامة، وهو محرم في كل زمان ومكان، وعلى كل إنسان، لكن في هذه الأشهر أشد تحريمًا، وأكبر تغليظًا.
والله -سبحانه- إذا عظم شيئًا وحرمه من جهة واحدة، كان له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات، صارت حرمته متعددة الجهات، فيضاعف فيه العقاب السيئ، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فلنحذر من الظلم عمومًا، لاسيما في هذه الأزمنة القادمة، وهذه الأشهر المحرمة، لعظم حق المخلوقين، وظلم الفقراء والمساكين، واليتامى والعاجزين، وظلم العمال وتأخير رواتبهم، وظلم الزوجات وعضل البنات، وظلم الأولاد وسوء تربيتهم، ألا فليتقِ الله سفاك الدماء، وتشريد الناس ونهبهم.
وأكد حرمة بعضها كذي القعدة في قوله سبحانه: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 194]، فالآية نزلت في حبس قريش للمسلمين عام الحديبية، عن البيت في شهر ذي القعدة الحرام، فاعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في السنة القادمة التالية في شهر ذي القعدة.
ومما خصه شهر ذي الحجة، كما في خطبة حجة الوداع، "أي شهر هذا؟"، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "شهر الحرام، فإن الله حرم عليكم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" (رواه البخاري).
وهذه الأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، حرمها العرب في الجاهلية، وسبب تحريمهم لذي القعدة وذي الحجة ومحرم، هو أداء شعيرة الحج، فكانوا يحرمون قبله شهرًا ليتمكنوا من السير إلى الحج، ويسمونه القعدة لقعدوهم عن القتال فيه، ثم يحرمون ذي الحجة، وفيها مناسكهم وأسواقهم، ثم يحرمون بعده شهرًا، ليعدوا إلى ديارهم وهو محرم، وأما تحريم رجب في وسط الحول؛ لأجل زيارة البيت والاعتمار، فيأمل قاصد البيت فيه، ومن زيارته.
ومن أوجه تحريمها: أن القتال فيها ابتداء، فقيل: لا يجوز، وهو محرم. ولم ينسخ لقوله سبحانه: (لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ) [المائدة: 2]، والشهر الحرام بالشهر الحرام؛ ولأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يغزو بالشهر الحرام إلا أن يُغزى أو يغزَّى، فإذا حضر أقام ذلك حتى ينسلخ.
وقيل: القتال فيها منسوخ. بدليل قوله: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً) [التوبة: 36].
ولعل هذا الأقرب والأشهر، فقد حاصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذي القعدة أهل الطائف كما في الصحيحين.
وأما دفع العدو وقتاله إذا قاتلنا في الشهر الحرام، فاتفق العلماء على جوازه.
ومما ينبغي علمه: أنه لم يصح في استحباب وتخصيص الأشهر الحرم بالصيام كاملة سوى محرم.
هذا وقد احتال أهل الجاهلية حيلة اليهودية والنصرانية، على الوقوع فيما حرمه بقصد الحيلة، وهو النسيء المذكور في قوله سبحانه: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [التوبة: 37]، والنسيء هو تأخير حرمة شهر من الشهور الحرام إلى غيره من الشهور، وسبب النسيء أن العرب كان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها، فكانوا ينسؤون المحرم ليقاتلوا فيه، وكانوا يلعنون ذلك في أيام الحج إذا اجتمعت العرب للموسم، ليكون ذلك بلاغًا لكل العرب.
وكانوا إذا أحلوا شهرًا من الحرام حرموا مقابله شهر في الحلال ليوافقوا العدد الذي جعله الله حرامًا، (يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ)، فاستقامت الشهور وانضبطت واتصلت وترتبت في حجة الوداع، حيث قال عليه الصلاة والسلام: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان"، فكان من جملة بدعهم الباطلة، وأهدافهم الضالة، ما رأوا بآرائهم الفاسدة، والتحايل على حرمات الله الكاسدة.
وفي فعلهم عدة محاذير، منها: أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، وجعلوه بمنزلة شرع الله ودينه. والله ورسوله بريئان منه.
ومنها: أنهم قلبوا الدِين. فجعلوا الحلال حرامًا، والحرام حلالًا.
ومنها: أنهم موهوا على الله بزعمهم وعلى عباده، ولبسوا عليهم دينهم، واستعملوا الخداع والحيلة في دين الله.
ومنها: أن العوائد المخالفة للشرع مع الاستمرار عليها يزول قبحها عن النفوس. وربما ظُن أنها عوائد حسنة، فحصل من الغلط والضلال ما حصل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله السميع العليم، خص الشهور بما شاء وهو العليم الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله اللطيف الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بالمؤمنين رؤوف رحيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وكل مؤمن كريم.
أما بعد: فمضى في الخطبة الأولى ما للأشهر الحرم جميعًا من الأحكام، وقد خصها القدوس السلام بخصائص ومميزات من بين سائر الأيام.
فأولها ذو القعدة: محل عُمَرِه -عليه الصلاة والسلام-، فقد اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة، وذو القعدة استحب بعضهم العمرة فيه تأسيًا برسول الله فيه، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21]، فأفضل الشهور بعد رمضان العمرة فيه ذو القعدة، وذو القعدة من أشهر الحج الذي يصح فيها الإحرام بالحج وينعقد، فـ(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) [البقرة: 197]، شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة، ولم يرد في ذي القعدة إلا انعقاد الحج وفعل العمرة، وما عداه فتخصيصه بدعة.
وأما شهر ذي الحجة -ثبتني الله وإياكم على المحجة-: فهو يوم الحج الأكبر، وفيه يوم عرفة، والهدايا والأضحية، وصوم يوم عرفة لغير أهل عرفة، وفيه فرض الحج ونافلته، وفيه ثاني العيدين للمسلمين، وهما عيد الأضحى وعيد الفطر، وفي شهر ذي الحجة أفضل الأيام وأشرفها، وهي عشر ذي الحجة، كما في البخاري: :"ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله من هذه العشر".
فبادر، ومنها حج بيت الله الحرام، فهذا وقته، وهذا زمانه، وهذه أيامه، فبادر إلى الحج وإلى إكمال فرضك، وإتمام شعائر دينك، فهي فرصة عمرك، فلعك لا تدركه مرة ثانية، وأزمنة قادمة، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً) [لقمان: 34].
وكثير من الناس يفرط ويهمل، ويتساهل ويكسل، ويتعذر بأعذار واهية، وحجج باردة شيطانية، فيتقدم به العمر وهو لم يؤدِ فرضه، بل ربما مات وقد فرط في أداء حجه، بيد أنه في أمور دنياه قد أداها كما تحبه نفسه وتهواه.
وأنتم –أيها الآباء- كونوا عونًا بحج أبنائكم، وترغيبهم في أداء فرضهم، وتشجيعهم، والنفقة عليهم، فالنفقة في سبيل الخير مخلوفة، أعينوهم، ساعدوهم، ذكروهم، رغبوهم بأداء هذا الحج العظيم، وهذا الركن الجسيم.
وأما شهر الله المحرم: فثبت صيامه، فـ(أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)، وفيه يومان فاضلان: وهما تاسوعاء وعاشوراء، يسن صيامهما ولم يثبت فيه سوى الصيام، وأنه شهر حرام.
وأما رجب: فآخرها، ولم يرد فيه نص، وتخصيصه بالعبادة واتخاذه طاعة وقربة، بدعة ما عدا أنه من الأشهر الحرم، وفيه وقع الإسراء والمعراج على قول لأهل العلم الكرام، فليس لتخصيصه مزية، بعمرة، أو دعوة، أو ذبيحة، أو صدقة، أو صيام، أو صلة، فتخصيصه بالصيام لا دليل عليه، وأخباره وأحاديثه موضوعة لا تصح، قال ابن تيمية: "أما تخصيص رجب وشعبان جميعًا بالصيام، فلم يرد فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء ولا عن أصحابه، ولا أئمة المسلمين". انتهى.
بل صح عن عمر، أنه كان يضرب من يصوم في رجب، ويقول: "كلوا، فإنما هو شهر كان يعظمه أهل الجاهلية" (رواه عبد الرزاق).
بيض صحيفتك السوداء في رجب | بصالح العمل المنجي من اللهب |
شهر حرام أتى من أشهر حرمٍ | إذا دعا الله داعٍ فيه لم يخب |
طوبى لعبد زكى فيه له عمل | فكف فيه عن الفحشاء والريب |
فعظموا –عباد الله- ما عظم الله، وراقبوا ربكم، واحذروا الظلم والمعاصي، ونشر الفساد بين الناس، (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
والله أعلم.