البحث

عبارات مقترحة:

الرفيق

كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...

النصير

كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...

الوهاب

كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...

فضل مكة والمسجد الحرام

العربية

المؤلف عبدالمحسن بن محمد القاسم
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه - الحج
عناصر الخطبة
  1. فضائل مكة أم القرى .
  2. مكانة المسجد الحرام .
  3. آيات الله في الحرم .
  4. نصائح للحجيج. .

اقتباس

هي أمُّ القُرى، وما سِواهَا تبعٌ لها، أقسَم الله بها إشارةً لعظَمَتِها فقال: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)، ومع القَسَمِ سمّاها البلدَ الأمين، فقالَ: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) مسجِدُها أشرفُ المساجِد، وهو أولُ بيتٍ وُضع في الأرضِ مُباركًا وهدايةً للناس، (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)، قال أبو ذرٍّ - رضي الله عنه -: يا رسول الله! أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرضِ أوَّل؟ قال: «المسجدُ الحرام»، قال: قُلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «المسجدُ الأقصَى» (متفقٌ عليه).

الخطبة الأولى:

إن الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرور أنفُسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتَّقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروة الوُثقى.

أيها المسلمون: تَفرّد اللهُ بالخلقِ والتدبيرِ والاصطِفاء، واختيارُه دالٌّ على ربوبيَّته تعالى ووحدانيتِه، وكمالِ حكمتِه وعلمِه وقُدرتِه، وقد فاضَل - سبحانه - بين الأمكِنة والذواتِ والأعمالِ والشهورِ والليالِي والأيام:

فخيرُ الخلقِ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وأفضلُ الأعمالِ توحيدُ الله وإفرادُه بالعبادة، وأشرفُ الشهورِ شهرُ رمضان، وأعزُّ الليالي ليلةُ القدر، وأفضلُ الأيامِ يومُ النَّحر، وخيرُ البِقاعِ عندَ اللهِ وأحبُّها إليه مكَّة، قال - عليه الصلاة والسلام -: «واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى الله، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خَرجتُ» (رواه أحمد).

هي أمُّ القُرى، وما سِواهَا تبعٌ لها، أقسَم الله بها إشارةً لعظَمَتِها فقال: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) [البلد: 1]، ومع القَسَمِ سمّاها البلدَ الأمين، فقالَ: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين: 3].

مسجِدُها أشرفُ المساجِد، وهو أولُ بيتٍ وُضع في الأرضِ مُباركًا وهدايةً للناس، (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) [آل عمران: 95]، قال أبو ذرٍّ - رضي الله عنه -: يا رسول الله! أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرضِ أوَّل؟ قال: «المسجدُ الحرام»، قال: قُلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «المسجدُ الأقصَى» (متفقٌ عليه).

هدَى الله إبراهيمَ لبناءِ البيتِ فيها، (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) [الحج: 26]، فرفَعَه مع ابنه إسماعيل، ودعا الخليلُ بمحبَّةِ قلوبِ الناسِ لمكةَ، وفرحهِم بالقُدُومِ إليها، فقال: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم: 37].

اختارَها الله لأكرمِ رُسُلِه، ففيها وُلد نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -، وفيها نشَأ ومنها بُعِث، وبدأَ نُزُولُ الوحي والقرآن عليهِ فيها، وعاشَ - عليه الصلاة والسلام - فيها أكثرَ من خمسين عامًا، ومنها انطلَقت الدعوة، وفيها نشأَ خيرُ رجالٍ وهم الصحابة بعد الأنبياء، ومنها أُسرِيَ - عليه الصلاة والسلام - إلى المسجدِ الأقصى.

أحبَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حبًّا جَمًّا وأُخرِجَ منها مُكرَهًا، ولما نَزلَ المدينةِ كان يدعو: «اللهمَّ حَبِّبْ إلينَا المدينةَ كما حَبَّبتَ مكةَ أو أَشَدَّ»؛ متفقٌ عليه.

بلدٌ آمِنٌ دعا إبراهيمُ له بالأمنِ فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) [البقرة: 126]، فامتَنَّ الله بذلك وقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67].

قال القرطبيُّ - رحمه الله -: "إن مكَّةَ لم تزَل حرَمًا آمنًا من الجبابرةِ، ومن الزلازل، وسائرِ المثُلات التي تحُلُّ بالبلاد".

والداخِلُ إلى مسجدِها يشعُرُ بأمنِها، قال - سبحانه -: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 97].

حرَّمها الله منذ خلق السمواتِ والأرض، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إنَّ اللهَ حرَّم مكةَ يومَ خلق السمواتِ والأرضَ, فهي حرامٌ بحرام اللهِ إلى يومِ القيامةِ»(رواه البخاري).

وأظهرَ إبراهيمُ - عليه السلامُ - للخلقِ حُرمَتَها، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إنَّ إِبراهيمَ حرَّم مكّةَ» (متفقٌ عليه).

وكان نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - مُعظِّمًا لها، قال يومَ الحديبية: «والذي نفسي بيدِه؛ لا يسألُوني خُطَّةً يُعظِّمُون فيها حُرُمات الله إلا أعطيتُهم إياها»(رواه البخاري).

من حُرمَتها: أن سَفكَ الدم فيها بغير حقٍّ أشدُّ حُرمةً من غيرها، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا يحِلُّ لامرئٍ يُؤمِنُ بالله واليوم الآخرِ أن يسفِكَ بها دمًا» (متفقٌ عليه).

ولا يُخافُ أهلُها بحملِ سلاحٍ فيها، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا يَحِلُّ لِأَحَدِكُم أنْ يَحْمِلَ بِمكةَ السلاحَ»(رواه مسلم).

والحيواناتُ آمنةٌ بأمان الله في العَرَاء، والطيورُ سابِحةٌ في الفَضاء، وأشجارهُا تُرفرِفُ بالأمنِ فلا تُقطَع، والأمْوالُ المفقودةُ لا تُلتقَطُ كسائرِ البُلدان، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا يُختَلى خَلاها، ولا يُعضَدُ شجرُها، ولا يُنَفَّرُ صيدُها، ولا تُلتَقَطُ لُقَطَتُها إلا لمُعَرِّفٍ» (متفقٌ عليه).

شبّه - عليه الصلاة والسلام - حُرمةَ الأموالِ والأعراضِ والدماءِ بحُرمَتها، لعلوِّ منزلَتِها عند الله، فقال: «إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحُرمةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا» (متفقٌ عليه).

ومن همّ بسوءٍ فيها عذَّبَه الله، قال - سبحانه -: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25].

قال ابنُ مسعودٍ- رضي الله عنه -: "لو أنَّ رجُلاً همَّ فيه بإلحادٍ وهو بعَدَن أبيَنَ، لأذاقَه الله عذابًا أليما".

والظالمُ فيها أبغَضُ الناسِ عند الله، قال - عليه الصلاة والسلام -: «أبغضُ الناس إلى اللهِ: مُلحِدٌ في الحرمِ»(رواه البخاري).

ولعظيم حُرمَتها لا يطَأُ أرضَها مُشرِكٌ، قال - سبحانه -: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) [التوبة: 28]. والدجالُ كافرٌ بالله يفتِنُ الناسَ في دينِهم، فيمنَعُهُ الله من دخولِ مكَّةَ والمدينة، قال - عليه الصلاة والسلام -: «ليس من بلدٍ إلا سيطؤُه الدَّجَّالُ، إلا مكةَ والمدينةَ» (متفقٌ عليه).

حفِظَ اللهُ مكةَ، وستبقَى محفوظةً بحفظِ الله، ومن أرادَها بسُوءٍ أهلكَهُ الله، فأصحابُ الفيلِ أرادُوها بشرٍّ، فحبَسَهم الله عنها، وجعَلَهم عبرةً إلى يومِ الدين، «ويغزُو جيشٌ الكعبةَ، فإذا كانوا ببَيْدَاء من الأرض -أي: صحراء-، يخسِفُ الله بأولهم وآخرهم»(رواه البخاري).

وكما أحلَّ الله فيها الأمنَ، تكرَّمَ على أهلِها بالخيراتِ والثِّمار، مع أنها وادٍ بين جبَلَين غيرُ ذي زَرعٍ، والجبالُ مُحيطةٌ بها من كلِ جانبٍ، وأرضُها مظِنَّةٌ للمجاعة، فدعَا إبراهيمُ لأهلها أن يُرزَقُوا من الثَّمرات كما رزَقَ الله البُلدانَ ذوات الماء والزُّرُوع، فقال: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) [البقرة: 126]، فأجابَه الله وقال: (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا) [القصص: 57].

بل ودعَا إبراهيمُ ربَّه بالبركةِ في صاعِها ومُدَّها - أي: في شرابِها وطعامِها -، وكان من دُعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اجعَلْ بالمدينةِ ضِعفَي ما جعَلْتَ بمكةَ من البرَكةِ» (متفقٌ عليه).

وسقَى أهلَها ماءً لا يُوجدُ في الأرضِ مِثلُه، ويتمنَّى الناسُ قطَرَاتٍ منه؛ فماءُ زمزمَ مباركٌ وهو طعام، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّها مُبارَكةٌ، إنَّها طَعامُ طُعْمٍ»(رواه مسلم).

وهو شفاءٌ من جميعِ الأسقام، قال - عليه الصلاة والسلام -: «زَمزَمَ طعامُ طُعمٍ، وشِفاءُ سُقْمٍ»(رواه مسلم).

وصَدرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- شقّه المَلَكُ وغسَلَه بماء زمزم.(رواه البخاري).

وحُلُولُ الرزقِ فيها والأمنِ مُوجِبانِ لعبادةِ اللهِ وحده، قال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش: 3- 4]، والله يدفعُ السوءَ عن أهلِها بسبب تعظيمِهم البيتَ وتوحيد الله، قال تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ) [المائدة: 97].

قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "أي: يرفعُ عنهم بسببِ تعظيمِها السوء".

مكّةُ بلدةٌ مباركةٌ وخيرُها عَميم، ومن بركاتِها مُضاعفةُ الصلاةِ فيها، فـ «صلاةٌ في المسجدِ الحرامِ أفضلُ من مائةِ ألفِ صلاةٍ فيما سِواهُ»(رواه أحمد).

والطوافُ بالبيت عبادةٌ لا يُمنع عنه أحدٌ أيَّ ساعةٍ من ليلٍ أو نهار، قال - سبحانه -: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29].

مشاعِرُها مناسِكُ للمسلمين، فرَضَ الله عليهم قصدَها وجعَلَه أحدَ أركانِ الإسلام، وإلى مسجدِها يُثابُ المسافرُ إليه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا تُشَدُّ الرحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مساجد: المسجدِ الحرامِ، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومسجدِ الأقصى» (متفقٌ عليه).

وليس في الأرضِ بقعةٌ يُطافُ حوله سِوَى البيت، وليس في الدنيا موضعٌ يُشرع تقبيلُه واستلامُه غيرُ الحَجَر الأسود من الكعبة، والرُّكنُ اليمانِيُّ منها يُستلَم.

جعلَ الله البيتَ فيها مثابةً للناسِ وأمنًا، فإليه يفِدُ الخلقُ على تعاقُبِ الأعوامِ من كلِّ فجٍّ عميقٍ، تشتَاقُ له الأرواحُ، وتحِنُّ إليه النفُوس، وإن زارُوه زادَ شوقُهم إليه. قصَدَه الأنبياء؛ فحجَّ موسى ويونُسُ ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، قال - عليه الصلاة والسلام -: «كأني أنظرُ إلى موسى - عليه السلام - هابِطًا من الثنيَّةِ وله جُؤارٌ إلى اللهِ بالتلبيةِ، وكأنِّي أنظرُ إلى يُونسَ بن متَّى - عليه السَّلامُ - على ناقةٍ حمراءَ وهو يلبِّي»(رواه مسلم).

شرَّفَ الله البيتَ، فأضافَه إلى نفسهِ، وجعَلَه منارةً للتوحيدِ، وأمَرَ بتطهيرِه مما يُضادُّ ذلك من الأصنام وعبادةِ الأوثان، فقال: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج: 26].

وجعَلَ قصدَه مُكفِّرًا لما سَلَفَ من الخطايا والذنوب، قال - عليه الصلاة والسلام -: «مَن حجَّ هذا البيتَ، فلم يَرفُثْ ولم يَفسُقْ رجَع كما ولَدَتْه أمُّه» (متفقٌ عليه).

ولم يرضَ الله لقاصِدِه ثوابًا دونَ الجنة، قال - عليه الصلاة والسلام -: «العمرةُ إلى العمرةِ كفَّارَةٌ لمَا بينَهمَا، والحجُّ المبرورُ ليسَ لهُ جزاءٌ إلا الجنَّةُ» (متفقٌ عليه).

وهو قِبلةُ أهلِ الأرضِ جميعًا، يتوجَّهُ كلُّ مسلمٍ إلى جِهتِه كل يومٍ مرارًا، قال - سبحانه -: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة: 144]، ومن ماتَ من المسلمين وُجِّه قبرهُ إليه.

عَظَّم - سبحانه - حُرمَتَه، فلا تُستقبَلُ جهةُ البيتِ الحرامِ حالَ البولِ أو الغائِطِ، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا تستقبِلُوا القبلةَ بغائطٍ أو بولٍ، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا» (متفقٌ عليه).

وإليه يُساق الهديُ والقرابين، قال تعالى: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 33].

وفي البيتِ آياتٌ بيِّناتٌ أنه من بناء إبراهيم، منها مقامُه - عليه السلام - وأمرَنا الله أنْ نتَّخِذَ منه مُصلَّى، وفي بيتِ اللهِ الحرامِ الحجرُ الأسودُ «نزَلَ من الجنة أشدُّ بياضًا من اللبنِ فسوَّدَته خطايا بني آدم»(رواه أحمد).

وهو حجرٌ لا ينفَعُ ولا يضُرُّ، وإنما يُقبَّلُ امتِثالاً للسُنَّة، قال عمر - رضي الله عنه -: "إنِّي أعلمُ أنك حجَرٌ لا تضُرُّ ولا تَنفَعُ، ولولا أني رأيتُ النبي - الله صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُك ما قبَّلتُك" (متفقٌ عليه).

وفي المسجدِ الحرام الصفا والمروةُ، وهما من شعائِرِ الله، وواجِبٌ تعظيمُهما والسعيُ بينهما. وفي بيتِ الله ماءُ زمزمَ عبرةٌ وآيةٌ في كثرتهِ وبركتِهِ ونفعِهِ.

وبعدُ .. أيها المسلمون:

فبَيتُ الله إنما أُسِّسَ لعبادةِ اللهِ وحدَه لا شريكَ له، وهو من مواطِن التوبةِ والرجوعِ إلى الله، فعلى العبدِ أن يقصِدَ المسجدَ الحرام وهو خاضِعٌ ذليلٌ لله للتقرُّبِ إليه - سبحانه - وحطِّ الأوزَار، وواجِبٌ على العبادِ تعظيمَ بيتِ الله، فتعظيمُ ما عظَّمه الله من التقوَى، وبذلك صلاحُ المسلمين في دينِهم ودنياهم.

ومن خَدَمَ الحَرمين الشريفَين، والحُجَّاج والمعتمرين والزوُّار فأجرُه عند الله عظيمٌ، فكِلا المسجدَين بناهما نبيٌّ، وهما من شعائِرِ الله.

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [النمل: 91]

باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميعِ المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أيها المسلمون:

في البلد المُبارَك الآمِن يُؤدِّي المسلمون حجَّهم مُتجرِّدين عن الدنيا وأطماعِها، مُسَلِّمين أنفسَهم لله عبوديةً ورِقًّا، يجمعُهم التوحيدُ ويُؤلِّفُ بين قلوبهِم الإيمانُ، مُظهِرين الطاعةَ لله ذُلاًّ وانقِيادًا، مُفتقِرِين إليه طلبًا وسؤالاً، مُكثِرين من ذكرِ الله، إقامةً وارتِحالاً.

في مشاعِرِ الحجِّ العِبَرُ والعِظات، الكلُّ عند الله سواء، والميزانُ هو التقوَى، وفي الإحرامِ واجتماعِ الناسِ تذكيرٌ بالمحشَر، والمقبولُ من كان عملُه خالِصًا لله صوابًا، لم يَشُبْه شركٌ أو رياءٌ أو عدمُ اتِّباع، ولحظاتُ الحجِّ ثمينة، والمُوفَّقُ من اغتنَمَها بالإكثارِ من ذكرِ الله وعملِ الصالحات.

ثم اعلَمُوا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الراشِدين، الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانُوا يعدِلُون: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمُسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعَل اللهم هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا رخاءً، وسائرَ بلادِ المُسلمين.

اللهم من أرادَنا أو أرادَ ديارَنا أو أرادَ المُسلمين بسُوءٍ فأشغِله في نفسِه، واجعَل كيدَه في نَحرِه، وألقِ الرُّعبَ في قلبِه يا قويُّ يا عزيز.

اللهم سلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرِين، اللهم اجعَل حَجَّهم مبرُورًا، وسَعيَهم مشكُورًا، وعمَلَهم مُتقبَّلاً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلِح لهم النيَّات والذريَّات، وأنزِل عليهم الطمأنينةَ والسَّكينةَ والخشوعَ والذلَّ لك يا رب العالمين.

اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أمِّن حدُودَنَا، اللهم اربِط على قلوبِ جنودِنا، اللهم سدِّد رميَهم، اللهم انصُرهم نصرًا مُؤزَّرًا يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفِّق إمامَنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك.

اللهم وفِّق العامِلِين لخدمة الحرمَين الشريفَين، وارفَع أجورَهم، واجعلَهم من عبادِك المُحبَّبيِن إليك يا ذا الجلال والإكرام.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

عبادَ الله:

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].

فاذكُروا الله العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكرُوه على آلائِه ونعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.