الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن محمد السعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أعلام الدعاة |
جمع من العلم والعمل ما أدهش العلماء والعاملين، وقام من الحد في السياسة والعدل ما أعجز الولاة والسلاطين، وأضاف إلى ذلك من الزهد والصبر ما يلح دونه أهل العزم من الملوك والزاهدين...
الخطبة الأولى:
كان في إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عز للإسلام والمسلمين؛ كما قال ابن مسعود: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر".
وقال صهيب بن سنان -رضي الله عنه-: "لما أسلم عمر -رضوان الله عليه-: ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غَلَظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به".
واستبشر بإسلامه أهل السماء كما استبشر به أهل الأرض.
ولقوة إيمانه وصلابته في الحق كان الشيطان يفر منه، قال صلى الله عليه وسلم له: "فو الذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك" [رواه البخاري].
وأوّل صلى الله عليه وسلم ما رآه في المنام في شأن عمر بالعلم والدين والقوة في الحكم، فكان كذلك، قال ابن مسعود: "إذا ذكر الصالحون فحيهلاً بعمر، إن عمر كان أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله". وقال: "لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان ووضع علم أحياء الأرض في كفة لرجح علم عمر بعلمهم".
وفي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرت غيره عمر، فوليت مدبراً، فبكى عمر وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أعليك أغار؟".
كان من السابقين إلى الإسلام، والمهاجرين والمجاهدين في سبيل الله، وقام في الإسلام مقام صدق مشهودا، فأدرك رضا الله، ونال موعوده، وكان أحب الرجال إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخير هذه الأمة بعد أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما-، وكان الحق يجري على قلبه ولسانه، ونزل القرآن العظيم تصويبا لرأيه في مواضع عدة، وكان أشد الأمة في دين الله، لا تأخذه في الحق لومة لائم، وكان هو وأبو بكر وزيري رسول الله من أهل الأرض، ونعم الوزيران إيمانا وأمانة، وإخلاصا وتقوى، وقوة ويقينا، مع شدة الملازمة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذي قال فيهما كما في صحيح مسلم: "إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا".
أرادته الدنيا فلم يردها، وأتته راغمة فأعرض عنها ونبذها، كان يراها كالمزبلة المنتنة، ويرى أن راحة القلب والبدن بالزهد فيها، فكان خشن العيش، خشن المطعم، يلبس الثوب المرقع وهو أمير المؤمنين، ويحمل القربة على كتفه، ويركب الحمار عُرْيا، والبعير مخطوما بالليف، ويحج ليس له خيمة ولا فسطاط، بل كان يلقي الكساء والنطع على الشجرة ويستظل تحته، وكان متواضعا لله وفي الله، زاهدا ورعا وجلا منيبا، في وجهه خطان أسودان من البكاء، ويصلي بالناس العشاء، ثم يدخل بيته فلا يزال يصلي إلى الفجر. وما مات حتى سرد الصوم، وكان يسمع الآية من القرآن فيغشى عليه، فيحمل صريعا إلى منزله، فيعاد أياما ليس به مرض إلا الخوف، تأمر على المؤمنين بعهد من الصديق -رضي الله عنهما- فأحسن في امرأته وسبق سبقا بعيدا، وأتعب من جاء بعده، وأحسن السياسة، ونصح لرعيته في الغيب، وأعانهم على الخير، وأدبهم برحمة، وعاملهم بالحلم والرفق، وقام فيهم بالعدل، وحفظ فيهم العهد، قيل له: يزعمون أنك فظ غليظ؟ قال: الحمد لله الذي ملأ قلبي لهم رحماً، وملأ قلوبهم لي رعباً".
خاف الله في رعيته فخافته رعيته، وأحبهم فأحبوه، ودعا لهم فدعوا له؛ فكان بذلك من خيار الأئمة، كما روى مسلم في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم".
وفتح الله على يديه الفتوحات العظيمة، وأقبلت على المسلمين خزائن الأرض من كل مكان، ويكفي من ذلك أن الله فتح على المسلمين في عهده أكبر مملكتين الروم وفارس، ومزق ملكي قيصر وكسرى على يديه، عاش حميدا، ومات شهيدا، وانتقل من الدنيا إلى جنة الخلد، كما بشره النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وخرج من الدنيا نقي الثوب، بريئا من العيب، غير مفتون ولا مبدل، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ذهب بخيرها، ونجا من شرها".
وفي الصحيحين: أنه قال لما توفي عمر -رضي الله عنهما-: "ما خلَّفت أحدا أحبّ إِليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منكَ، وايْمُ الله، إِن كنتُ لأظنُّ أن يجعلك الله مع صاحِبيك؛ لأني كنتُ كثيرا أسمعُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ذهبتُ أنا وأبو بكر وعمر، ودخلتُ أنا وأبو بكر وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر، فإِن كُنتُ لأرجو أن يجعَلَكَ الله معهما" وبموته كسر باب الفتنة التي تموج موج البحر، كما في الصحيحين.
وخلاصة سيرته ما ذكره ابن الجوزي -رحمه الله- بقوله: "جمع من العلم والعمل ما أدهش العلماء والعاملين، وقام من الحد في السياسة والعدل ما أعجز الولاة والسلاطين، وأضاف إلى ذلك من الزهد والصبر ما يلح دونه أهل العزم من الملوك والزاهدين".
الخطبة الثانية:
هذه سيرة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في زكائها ونقائها، وإيمانها ويقينها، وما سبقه إلا سول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبوبكر -رضي الله عنه-، وبعد هذا ينشر في وسائل الإعلام بأن هناك استعدادات لإخراج فيلم على الفضائيات يجسد شخصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ولا شك أن هذه المسألة خطيرة جدا لتعلقها بمقام الصحبة، الذي هو حصن النبوة، والخط الأول للدفاع عن الإسلام ونبيه -صلى الله عليه وسلم-، واليوم يُمثّل عمر، وغدا يمثل أبو بكر، ثم تُنقل العلل التي سُوّغ بها تمثيل الصحابة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيأتي من يفتي بجواز تمثيله عليه الصلاة والسلام، بل وقع ذلك -عياذا بالله-، وبه يعلم أنه لو لم يُمنع تمثيل الصحابة لذاته فإنه يحرم لما يفضي إليه، كما أنه يؤول إلى إسقاط هيبة الصحابة من النفوس، وإذهاب حرمتهم، والحط من قدرهم، إذ إن صورة الصحابي وكلامه -الذي هو في الأصل موافق للشرع- ينطبع في ذهن المتلقي من خلال هذه الشخصية المتقمصة لدور الصحابي، وكثير منهم فساق يخرجون في أفلام الجنس والغرام، أوالجريمة والجبروت، وأقل الأحوال ممارسة خوارم المروؤة على الشاشات؛ فإذا ذكر الصحابي بعد ذلك عاد لذهن المشاهد صورة ذلك الممثل، فوضع السيء مقام الحسن، والفاجر مقام التقي، والخبيث مقام الطيب؛ ممايؤدي -ولابد- إلى نزول مكانة الصحابي في النفوس، بل ربما حصل استنقاص للصحابة وازدراء لهم.
هذا إن سلم النص من التحريف أو الوقائع غير الثابتة التي تعج بها عادة هذه الأفلام والتمثيليات، وإن زعموا أنها مراجعة مراجعة علمية فإنهم لا يصدقون؛ لأن الأصل فيهم عدم الحرص على رعاية الحدود الشرعية- ومقام الصحبة مقام عظيم يجب حفظه، وحفظ وصية الله ووصية رسوله -صلى الله عليه وسلم- في الصحابة.
لأجل هذا وغيره؛ أفتت كثير من المجامع والهيئات الإسلامية بحرمة تمثيل دور الصحابة، كالمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وهيئة كبار العلماء.
وأخطر من هذه كله: أن تتخذ هذه الأفلام وسيلة لتمرير فكر منحرف، أو تشريع بدعة، أو خروج بالأمة عن الفضيلة منسوبا إلى عمر وغيره من الصحابة -رضي الله عنهم-، الذين هم جزء من البيان التشريعي نقلا للأدلة وفهما لها وعملا بموجبها، وهو المظنون بل المؤكد؛ لصدوره عن جهات هي أحرص على الرذيلة منها على الفضيلة، كما يشهد بذلك واقعها ولا سيما أنها تنشر هذه الأمور في هذا الوقت الذي عظمت فيه الفتن، وكثرت فيه جراحات الأمة، وشغلت فيه بنفسها، والباطل إنما يُرَوج له ويروج في مثل هذه الأحوال.
وهذا كله إذا تجاوزنا تحريم التمثيل عموما، كما أفتى به طائفة من علماء العصر كالألباني وابن باز -رحمهما الله-؛ لما يشتمل عليه من الكذب وغيره من المفاسد، ثم تجاوزنا تحريم التمثيل الديني المستورد من الوثنية والرهبانية النصرانية.
وما يُدّعى من المصلحة في هذه الأفلام، فإنه قطرة في بحر المفاسد حالا ومآلا، وما فيها من المصلحة -إن وجدت- يدرك بالوسائل والأساليب المشروعة.
فعلينا جميعا أن نقف وقفة رجل واحد منكرين هذا الأمر الخطير، والخطوة البعيدة لهدم الدين، وعلى القائمين على هذا الفلم ونظائره أن يتقوا الله في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن يعرفوا لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فضلهم وقدرهم؛ فإنه لا كان ولا يكون مثلهم.