البحث

عبارات مقترحة:

المؤخر

كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...

العليم

كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...

المليك

كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...

قصة ذي النون عليه السلام

العربية

المؤلف سليمان بن حمد العودة
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أعلام الدعاة
عناصر الخطبة
  1. استعراض قصة يونس عليه السلام مختصرة .
  2. يونس مغاضبا لقومه .
  3. يونس في السفينة ثم في بطن الحوت .
  4. الدروس والعبر من قصة يونس .
  5. أهمية الالتجاء إلى الله في الكربات .
  6. عظم دعوة يونس عليه السلام . .
اهداف الخطبة
  1. استعراض قصة يونس عليه السلام
  2. بيان الدروس والعبر من قصة يونس عليه السلام .

اقتباس

إنه يونس بن متى صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء، عاش في أرض الموصل، وبعثه الله إلى أهل نينوى، وسمَّي في القرآن سورة باسمه، وذكره في معرض قصص الأنبياء؛ فقال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) الأنبياء:78-88.

 

 

 

 

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد:4].

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فضله بالنبوة، وعلمه بالرسالة ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيماً.

اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35].

عباد الله: في القصص بشكل عام سلوةٌ وعبرة، وأحسنُ القصص قصص القرآن: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111].

وسأورد لكم –في هذه الخطبة- طرفاً من قصة نبيٍّ رسول دعا قومه فلم يستجيبوا له أول الأمر، فذهب مُغاضباً لهم، وركب البحر وشاء الله أن تقف به وبمن معه السفينة في لجِّ البحر، أو تهيج بها الرياحُ العاتية، مما أحوج إلى الاقتراع وإنزال أحدِ ركابها، فوقع السَّهم على هذا النبي، فكان من المدحضين، فالتقمه الحوتُ وهو مليم، ولذا نُسب إلى الحوت فيقل له: (ذو النون)، وعاش فترة في بطن الحوت، لا يهشم له لحماً، ولا يكسر له عظماً، لكنه في ظلمات موحشة، وأنقذه الله منها – وإن خرج سقيماً ضعيفاً – بسبب تعرُّفِه على الله في الشدة كما كان يعرفه في الرخاء، وإذا احتمى الأنبياءٌ بحمى الله واعترفوا له بالخطيئة، ودعوه بالفرج فغيرهم أولى بذلك.

إنه يونس بن متى صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء، عاش في أرض الموصل، وبعثه الله إلى أهل نينوى، وسمَّي في القرآن سورة باسمه، وذكره في معرض قصص الأنبياء؛ فقال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:78-88].

وفي "الصافات" عرضٌ وتفصيلٌ لبعض ما أجمل في قصته، وفي سورة "القلم" تذكير لمحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقصة يونس، وأخذ العبرة منها. وفي قصة يونس –بشكل عام- درس وعبرة للأمة التي نزل عليها القرآن، وفيها حكمٌ وآداب ودعاءٌ مستجاب يتجاوز يونس إلى غيره من المؤمنين –كما سيأتي البيان.

أيها المسلمون: وقبل أن أقف على شيء من دروس قصة يونس عليه السلام، أسوق لكم تفصيلاً أكثر لقصته وردت في السنة، رواها ابن أبي شيبة في "مصنفه" وعزاها صاحب "الدرر المنثور" إلى أحمد في "الزهد"، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم وغيره، ونقل الحافظ ابن حجر مقطعاً منه وحكمَ بصحة رواية ابن أبي حاتم كما في "الفتح" وصححها غيره. والرواية بنصها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إن يونس عليه السلام كان وعد قومه العذاب، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام، فتفرقوا بين كل والدةٍ، وولدها، ثم خرجوا فجأروا إلى الله واستغفروه، فكف الله عنهم العذاب، وغدا يونس عليه السلام ينتظر العذاب فلم ير شيئاً، وكان مَنْ كَذَبَ ولم يكن له بيِّنة قُتل، فانطلق مغاضباً، حتى أتى قوماً في سفينةٍ، فحملوه، وعرفوه.

فلما دخل السفينة ركدت، والسفن تسير يميناً وشمالاً، فقال: ما بال سفيتكم؟ قالوا: ما ندري. قال: ولكني أدري، إن فيها عبداً أبِقَ من ربه، وإنها والله لا تسير حتى تُلقوه، قالوا: أما أنت والله يا نبي الله فلا نلقيك.

فقال لهم يونس عليه السلام: اقترعوا فمن قرع فليقع، فاقْتَرَعوا، فقرعهم يونس عليه السلام ثلاث مرار، فوقع وقد وُكِّل به الحوت، فلما وقع ابتلعه فأهوى به إلى قرار الأرض، فسمع يونس عليه السلام تسبيح الحصى:(فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87] قال: ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر، وظلمة الليل.

قال: (لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) [القلم:49].

قال: كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، فكان يستظل بها أو يصيب منها فيبست، فبكى عليها حين يبست، فأوحى الله إليه: أتبكي على شجرة أن يبست، ولا تبكي على مئة ألف أو يزيدون، أردت أن تهلكهم؟!

فخرج فإذا هو بغلام يرعى غنماً، فقال: ممن أنت يا غلام؟ قال: من قوم يونس، قال: فإذا رجعت إليهم فأقرئهم السلام، وأخبرهم أنك لقيت يونس.
فقال الغلام: إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم يكن له بينة قتل، فمن يشهد لي؟ قال: تشهد لك هذه الشجرة، وهذه البقعة.

فقال الغلام ليونس: مُرْهما، فقال لهما يونس عليه السلام: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالتا: نعم.

فرجع الغلام إلى قومه، وكان له إخوة، فكان في منعة فأتى الملك، فقال: إني لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام، فأمر به الملك أن يقتل، فقال: إن له بينة، فأرسل معه، فانتهوا إلى الشجرة والبقعة، فقال لهما الغلام: نشدتكما بالله هل أشهدكما يونس؟ قالتا: نعم، فرجع القوم مذعورين يقولون: تشهد لك الشجرة والأرض! فأتوا الملك، فحدثوه بما رأوا، فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في مجلسه، وقال: أنت أحق بهذا المكان مني، وأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة.

إخوة الإيمان! ومن دروس القصة: أهمية الصبر والحاجة إلى التواصي به، إن في دعوة النفس إلى الخير وترويضها عليه أو دعوة الآخرين بذلك، ولهذا جاء تأنيس محمد صلى الله عليه وسلم به، وتذكيره بقصة يونس في سبيل دعوة قومه:(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القلم:48-50].

ثانياً: وما قدَّره الله على يونس لحكمةٍ بالغة، لا يقلّل من شأنه ولا ينبغي لأحدٍ أن يقولَ عنه أنه أفضل منه، ولذا ورد في "الصحيحين" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى".

قال الحافظ ابن حجر: وقيل: خصَّ يونس بالذكر، لما يُخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيصٌ له، فبالغ في ذكر فضله لسدَّ هذه الذريعة.

ثالثاً: قدرةُ الله عظمة في كل شيء، وهي واضحة المعالم في قصة صاحب الحوت، فيونس يظل حياً، وإن غيب في ظلمة البحر وظلمة بطن الحزت وظلمة الليل، والحصى يسبح الله في قاع البحر، والله أقدر الشجر والحجر وأنطقهما على الشهادة للغلام المخبر بخبر يونس عليه السلام، والله وحده هو الذي يسكن الرياح فتظل السفن رواكد على ظهر البحر، أو يهيجها فتضطرب، وربما غرقت وأغرقت من فيها، ولا خير فيمن يدعو ربه مخلصاً إذا رأى الهول في البحر، فإذا نجاه الله إلى البر إذا هو من المشركين الجاحدين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً) [الإسراء:67-69 ]

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، جعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، كاشف الضر، ومزيل الغمِّ والهم، ومُنجي المؤمنين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ترك الأمة على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

إخوة الإسلام وما أحوج الأمة المسلمة في ظروفها الراهنة، وكروبها المتلاحقة والظلمات المحيطة بها، أن تعي الدرس في قصة صاحب الحوت، وفتتجه إلى الله وحده، وترغب إليه وتدعوه دعاء المكروب، دعاء المعترف بخطئة الواثق بنصرة خالقه، واللهُ لا يخيب الرجاء، ولا يقطع حبل السماء، والله قريبٌ لمن دعاه: وكم هو عظيم دعاء ذي النون؟ وأعظ منه سماع النجوى واستجابة الله للنداء:(فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:87-88].

عباد الله: كم تغيب عنا هذه الدعوة واسم الله الأعظم وهما مفتاح للإجابة وسبيل للنجاة.

وروى الإمام أحمدُ والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دعوة ذي النون: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فإنها لا يدعو بها مسلم ربَّه في شيء قط إلا استجاب له". ورجال أحمد رجال الصحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

وفي رواية: "اسم الله الذي إذا دعوي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، دعوةُ يونس بن متّى"، قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: "هي ليونس بن متّى خاصة، ولجماعة المؤمنين عامة، إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله عز وجل:(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) "؟.

هكذا جاء في هذه الرواية عن اسم الله الأعظم.

وورد في رواية صحيحة: "اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث سور من القرآن، في البقرة وآل عمران وطه". رواه ابن ماجه والطبراني والحاكم وسنده صحيح. فهل يتذكر المسلمون قيمة هذه الدعوة؟ وهل يدعون بها في حال كربهم وهم موقنون بإجابة ربّهم ونجاته ونصره لهم؟

إخوة الإيمان: ومن قصة يونس عليه السلام وقومه يتبين صدق التوجه إلى الله، والتضرع إليه، وبالصدق والتوبة والدعاء، يرفع الله الضراء ويكشف البلوى، وتأملوا ما خصَّ الله قوم يونس بقوله تعالى:(فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس:98].

والمعنى: لم توجد قريةٌ آمنت بكاملها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس، وما كان إيمانهم إلا تخوفاً من عذاب الله الذي أنذرهم به نبيهم يونس –عليه السلام- فخرجوا إلى الصحراء وجأروا إلى الله بالدعاء ومعهم نساؤهم وأطفالهم ودوابهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، حتى تضرعوا إلى الله وجأروا إليه، وصدقوا في توبتهم ودعائهم، ورغت الإبل وفصلانُها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها، فلما علم الله صدقهم رفع عنهم العذاب ومتعهم إلى حين.

أيها المسلمون: وفي قصة يونس من العبر: عِظَم جريمة الكذب، وقد كانت في الأمم الغابرة جريمة كبرى يستحق مرتكبها القتل. كما أنّ في القصة أن مُلك الله يؤتيه من يشاء، وهو المعزُّ لمن شاء، وقد رفع الله قدر الغلام من راعي غنم إلى ملك يسوس الناس بالحسنى فترة من الزمن.
وفي القصة: أن عظم الجزاء مع عظم البلاء، ويبتلي الله عباده على قدر إيمانهم، والأنبياء أكثرُ الناس بلاءً، ومع ما وقع ليونس عليه السلام من البلاء فقد كان في نجاته درسٌ له ورفعة وذكرى للمؤمنين من بعده، وصدق الله:(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88].

عباد الله: خلاصة دعوة ذي النون صدق في التوجه إلى الله، وتسبيح بحمده وحده، وطلب الغوث والنجاة منه، وإذا وصلت الأمة والأفراد هذا المستوى فسيأتيهم ما يوعدون.

أيها المؤمنون وتظل قصةٌ ذي النون درساً وموعظة لكل مغموم، ومهما اشتطت بالمرء الدروب، أو لاحقته الهموم، أو أحاطت به الكروب، فخلاصه الوحيد مناجاة ربه، والتضرع إليه، وسؤالهُ الفرج وصدق الله: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) [الأنعام:17].

وحاجة المرء للتوبة والاستغفار مستمرة، وفيها خلاصٌ من الذنوب، وانتقالٌ من حالٍ إلى حال: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) [التحريم: 4].

هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الأمة، فمهما أطلقت الأمة من نداءات فسيظل النداء المنقذ: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ) ، ومهما تلبست به من شعارات براقة زائفة، فيظل شعار التوحيد هو الشعار الحق.

كم تصيب الأمة من أزمات ولكنها لا تحسن المخرج منها، فتتوالى عليها النكبات، وتتضاعف الأزمات، وكم تملك من أسباب القوة الإلهية، ولكنها –مع الأسف- تهمشها وتظل تلهث وراء السراب مستجدية من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وتقرأ في كتاب ربها أن الولاء الحقّ لله ولرسوله وللمؤمنين، ثم هي تستمرئ ولاء الكافرين وتناشد المنافقين، وما لم يصح المعتقد، ويتوحد الاتجاه لله الحق، فستظل المسيرة متخبطة، والعدو غالباً، والنصر بعيداً.

ألا ويح الأمة في صدورها عن كتاب ربها، وبعدها عن هدي أنبيائها والله يقول: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) [الإسراء: 9]. ويقول: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) [يوسف: 111].

وقصة يونس عليه السلام واحدة من قصص القرآن، فهل تُقرأ للعبرة والاتعاظ أم تُهذُّ كغيرها من آي الكتاب هَذَّ الشعر.. ؟!

 

اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، اللهم علمنا منه ماجهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، وانفعنا به.