اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
إنَّ وجودَ الأهداف السامية عند شباب الأمَّة وجيلها الصاعد ووضوحها يكاد يكون معدومًا في هذا الزمان، أما من وضع له هدفًا منهم فلم يتجاوز به الأهدافَ الدنيويةَ القريبةَ، إلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ، وقليلٌ مَّا هم، وهذا هو الفرق بين المجتمع المنتج الحي الذي يربي أبناؤه على الوضوح والتطلع لمعالي الأمور، وبين المجتمع المستهلك الميت الذي ليس له هدفٌ واضحٌ يسعى إليه.
الخطبة الأولى:
الحمد لله..
أما بعد أيها الإخوة: كم هو جميل منظر السعي لدور التربية والتعليم وهو يدب في أوصال مجتمعنا المسلم الفتي من جديد..
فها هي حبات قلوبنا وأكبادنا تمشي على الأرض مشمرة عن ساعد الجد؛ منطلقة إلى دور التربية والتعليم في جميع مراحلها.. لينهلوا مِن مَعينها، إنه منظرٌ يسرُ الناظرَ لمجدِ أمته، المتطلعَ لعز دينه ووطنه، وهل أمةٌ سادت بغير التعلمِ؟!
وأعلى من ذلك وأجلّ قول المعلم والمربي الأول -صلوات ربي وسلامه عليه-: "مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة" (رواه مسلم).
أيها الأحبة: يصنع الأجيالَ في أزمنةِ مضت أمهاتٌ صالحات ومعلمون أجلاء.. وترعى الأجيال بيئة محفوظة من السوء، ومن كان من الناس ذا سوء تَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ فعله ولم يبده جهاراً نهاراً..
أما اليوم فقد اختُرق المجتمعُ وجَدَّت مؤثراتٌ سحبت جُل البساطِ من أساطين التربية إن لم نقل سحبته كاملاً! فماذا نحن صانعون هل نُسْلِمُ الأجيالَ لتلك الآلات أم ماذا نصنع؟!
إن هذه القضية معضلة من معضلات الأمة، وقضية من أهم قضاياها.. لا بل هي أم قضياها وليس حلها بالسهل.. ولن أجعل ما يسمى بالإعلام الجديد وكيفية التعامل معه وما فيه من خطر داهم للأمة محور حديثي اليوم؛ لعلمي اليقيني أن الحديث عنه حديث ذو شجون، ولن يوفى حقه في خطبة قصدت الحديث فيها عن غيره..
أحبتي: وإن التركيز على تعزيز دور المصدرين الأساسيين للتربية يحمل في طياته كثير من العلاج لآثار الإعلام الجديد..
حقٌ على كل مربٍ أن يشمر عن ساعد الجد ويبلي بلاء حسناً في دوره الذي انتدب نفسه له:
قد رشَّحوك لأمرٍ إنْ فطِنتَ لهُ | فاربأْ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ |
علينا معاشرَ الأولياء: أن نعلم بأن مهمة التربيةِ والتعليم ليست مؤجلة لحين دخول أولادنا إلى المدرسة؛ بل لنا فيها النصيب الأكبر، فنحن معاشرَ الآباء نتحمل المسئولية الكبرى في تعليم أولادنا وتربيتهم، ونحن المخاطبون أصلاً بذلك، قال عزَّ مِن قائل: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6]. قال أهل العلم: هذه الآية أصلٌ في تعليم الأهل والذرية.
وقال عليٌ -رضي الله عنه- عن قوله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ): أي: علِّمُوهم وأدِّبوهم.
وذكر ابن كثير -رحمه الله- عن مقاتل والضحاك قولهما: "حق على كل مسلم أن يُعلمَ أهلَه من قرابته وإمائه ما فرض الله عليهم، وما نهاهم عنه".
وقال السعدي -رحمه الله-: "ووقاية الأنفس بإلزامها أمرَ الله، والقيام بأمره امتثالاً، ونهيه اجتنابًا، والتوبة عما يسخط الله ويوجب العذاب، ووقاية الأهل والأولاد، بتأديبهم وتعليمهم، وإجبارهم على أمر الله، فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه، وفيمن يدخل تحت ولايته من الزوجات والأولاد وغيرهم ممن هو تحت ولايته وتصرفه". اهـ.
ويقرر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن المربي والمدرس الأول للولد وَالِداه بقوله: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَودَانِهِ أَوْ يُنَصرَانِهِ أَوْ يُمَجسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟!" (رواه البخاري ومسلم).
والمعنى: "بهيمة جمعاء"، أي: تامة الأعضاء مستوية الخَلق. "تحسون": تبصرون. "جدعاء": مقطوعة الأذن أو الأنف أو غير ذلك. أي: إن الناس يفعلون بها ذلك، فكذلك يفعلون بالمولود الذي يولد على الفطرة السليمة.
واعلموا معاشر الأولياء أن الإعداد المعنوي والنفسي للمتعلمين قبل أن ينطلقوا لدور التعلم، منذ نعومة أظفارهم من أول واجباتكم، وذلك بغرس الأهداف السامية في نفوس الناشئة، بعد وضوحها لديكم.
وبتربيتهم على محبة الله تعالى وخوفه ورجائه؛ من خلال الحديث والقدوة الصالحة، والحفظ من مؤثرات الأخلاق السيئة، وعدم إسلامهم للأجهزة الإلكترونية التي تنخر في قيم الأمة، وتثبت في الجيل مفاهيم يصعب بعد ذلك تصحيحها أو نزعها..
حقٌ لهم علينا توضيح الهدف من هذه الدراسة وأهميتها بالنسبة لهم، وتركيز مبدأ احتساب الأجر عند الله في تعلمهم، وتذكيرهم بمكانة المتعلمين التي ذكرها الباري بقوله تبارك وتعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11]، ونبين لهم فضل طلب العلم وفضل سلوك سبله: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ». (رواه ابن حبان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- وصححه الألباني).
إنَّ وجودَ الأهداف السامية عند شباب الأمَّة وجيلها الصاعد ووضوحها يكاد يكون معدومًا في هذا الزمان، أما من وضع له هدفًا منهم فلم يتجاوز به الأهدافَ الدنيويةَ القريبةَ، إلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ، وقليلٌ مَّا هم، وهذا هو الفرق بين المجتمع المنتج الحي الذي يربي أبناؤه على الوضوح والتطلع لمعالي الأمور، وبين المجتمع المستهلك الميت الذي ليس له هدفٌ واضحٌ يسعى إليه.
ثم إذا انتقل الطالب أو الطالبة إلى قاعات المدرسة فإنه يقضي في اليوم فيها ست ساعات، ويمضي من عمره الدراسي في التعليم العام قرابة أربعَةَ عشرَ ألف ساعة دراسية كاملة!
فيا أيها المربون والمعلمون: حري بكم أن تحسنوا استقبال طلاب العلم، وتشعروهم بالأمان في دور العلم وقاعاته، وتحيوهم وتبشروهم وتدعوا لهم بالخير ولا تنفروهم، فقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يرحب بطلاب العلم ويبشرهم؛ فَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ -رضي الله عنه- قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ مُتَّكِئٌ عَلَى بُرْدٍ لَهُ أَحْمَرَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي جِئْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَقَالَ: "مَرْحَبًا بِطَالِبِ الْعِلْمِ، إِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَتَحُفُّهُ الْمَلَائِكَةُ, وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغُوا السَّمَاءَ الدُّنْيَا, مِنْ حُبِّهِمْ لِمَا يَطْلُبُ" (رواه الطبراني وحسنه الألباني).
أيها المعلمون والمربون: لا يقوم عمل إلا بإخلاص، قَالَ: رَسُولَ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنّمَا الأَعْمَالُ بِالنّيّاتِ، وَإِنّمَا لِكُلّ امْرِئٍ مَا نَوَى.." (متفق عليه عن عُمَرَ بْنِ الْخَطابِ -رضي الله عنه-).
إننا نجد ممَنْ شرفهم الله بهذه الرسالة مَن قد أضاعوا أجرهم بسبب تركهم للإخلاص، فترى أحدهم لا يؤدي عمله إلا لأجل المال، ولا يهتم بوقت درسه، ولا بفائدة طلابه، ولا يبالي بما يراه من سلوك منحرف، أو أخلاق رذيلة عند طلابه، والمهم عنده أن ينتهي وقت الدوام ليفك نفسه من هم ذلك اليوم وغمه، ولم يخطر على باله أبدًا أنه يؤدي مهمة عظيمة هي مهمة الرسل في مجتمعه، لِيَخْرُجَ مِن تحت يده مَن يُعلم الناس، ويقضي بينهم، ومن يعالج مرضى المسلمين، ومن يذود عن البلاد، وغيرهم، فينال هذا المعلم كل ما يُكتب لأولئك من الحسنات إن هو أخلص في دينه وعمله.
أيها المعلمون: عليكم بالرفق واللين في كل شيء، حتى في العقوبة، قال النّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنّ الرّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ". رواه مسلم عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-.
وقَالَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «يَا عَائِشَةُ» إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ" (رواه مسلم عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-).
معناه: أنه يتأتى بالرفق من الأغراض ويسهل من المطالب ما لا يتأتى بغيره وهو العنف.
أحبتي: كم ارتفع قدر معلمٍ عند طلابه بالرفق والمعاملة الحسنة! وكم صلُح حالُ طلابٍ بالرفق والمعاملة الحسنة!.. واعلموا أن المعاملة الطيبة تُقَوّم كثيرًا من الانحرافات، وتُدخل الناس في دين الله -عز وجل-، وإن من أجَلِّ مهِمَّات المعلم تعليم الناس الخير، ونصحهم وإرشادهم.. واغرسوا في قلوبهم الرغبة في المساهمة في النهوض بوطنهم وأمتهم إلى مصاف الدول المتقدمة، متسلحين بقيمهم الإسلامية، مطيعين لولاة أمرهم بغير معصية الله منكرين لذواتهم ورغباتهم الخاصة؟! وعلموهم الموطنة الصالحة وكيف تكون..
أيها المعلمون والمربون: كونوا قدوة صالحة لطلابكم واستثمروا المواقف في التوجيه والتربية خذوا هذا الموقف النبوي الكريم وانحوا نحوه في تربيتكم فقد روى البخاري في صحيحه عن عَائِشَةَ، -رضي الله عنها- زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ".
الخطبة الثانية:
أيها الأبناء، يا فلذات الأكباد، وأملنا بعد الله: أهلوكم وأمتكم يتطلعون إليكم لتكونوا صالحين مصلحين، فاللهَ اللهَ! أرُوهمْ من أنفسكم خيرًا بالجد والاجتهادِ بطلبِ العلمِ، وعلو الهمةِ، والحرصِ على معالي الأمور، والبعدِ عن سفسافها.
أخلصوا النية في طلب العلم، فالأمة بحاجة إليكم، فأنتم رجال المستقبل، والأملُ -بعد الله- فيكم.
الزموا تقوى الله، والتقوى أن يتخذ العبد من عذاب الله وقاية؛ بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ومَن اتقى الله فتح الله له من أبواب الفهم للعلم ما لا يخطر لكم ببال، قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:282].
وقد أَمَرَ الله بِالتّقْوَى هنا لأَنّهَا مِلاكُ الْخَيْرِ، وَبِهَا يَكُونُ تَرْكُ الْفُسُوقِ، وَقَوْلُهُ: (وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ) فِي عَطْفِهِ عَلَى الأَمْرِ بِالتّقْوَى إِيمَاءٌ إِلَى أَنّ التّقْوَى سَبَبُ إِفَاضَةِ الْعُلُومِ.
قال الثعالبي: من اتقى الله عُلّمَ الخَيْرَ وأُلْهِمَهُ. وقال الإمام مالك -رحمه الله-: سَمِعْتُ أنّه يقالُ: ما زَهِدَ عَبْدٌ واتقى اللّهَ إِلا أنْطَقَهُ اللّهُ بالحكْمَة.
اللهم اجعل هذا العام عام خير وصلاح وفلاح، وفِّق أولاد الأمة للخير، وجنبهم الشر، واجعلهم هداة مهتدين.
أحبتي: صلوا على حبيبنا وإمامنا محمد...