الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | محمد بن سليمان المهوس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزهد - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
قَبْلَ أَيَّامٍ صَدَرَتْ أَوَامِرُ مَلَكِيَّةٌ، وَتَعْدِيلَاتٌ بِالْبَدَلَاتِ وَالْمُكَافَآتُ وَالْمَزَايَا الْمَالِيَّةُ، فَسَمِعَهَا الْجَمِيعُ وَأَصْبَحَتْ حَدِيثُهُمْ بِالْمَجَالِسِ وَالْعَمَلِ وَالْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا، فَكَثُرَ الْكَلَامُ وَالْجَدَلُ وَالرُّدُودُ، فَحَرِصَ بَعْضُ النَّاصِحِينَ بِحَثِّ النَّاسِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَلُزُومِهَا، وَعَدَمِ نَزْعِ يَدٍ مِنْ طَاعَةٍ! وَكَأَنَّ النَّاسَ عَلَى أَبْوَابِ الْخُرُوجِ عَلَى إِمَامِهِمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ حَقَّ وَلِيِّ أَمْرِهِمْ بِالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. فَأَثْبَتَ الشَّعْبُ الْكَرِيمُ لِلْعَالَمِ: أَنَّهُ يَقِفُ مَعَ قِيَادَتِهِ فِي الرَّخَاءِ وَالشِّدِّةِ؛ لَا يُغْرِيهِ الْخَرِيفُ الْعَرَبِيُّ، وَلَا يُخِيفُهُ دَاعِشُ وَالْفِكْرُ التَّطَرُّفِيُّ؟
اَلْخُطْبَةُ الْأُولَى:
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الْغَفُورِ الشَّكُورِ، يُطَاعُ فَيَشْكُرْ، وَيُعْصَى فَيَغْفِرْ، السَّعَادَةُ كُلُّهَا فِي طَاعَتِهِ، وَالْأَرْبَاحُ كُلُّهَا فِي مُعَامَلَتِهِ، وَالْمِحَنُ وَالْبَلَايَا كُلُّهَا فِي مَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْفَعُ مِنْ شُكْرِهِ، وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَى وَمَا مَنَعْ، وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيَكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ! أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عِبَادَ اللهِ! رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخِطَابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَسَلَّمْتُ، فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رَمْلِ حَصِيرٍ ثُمَّ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فِي الْبَيْتِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إِلا أُهَبَةً ثَلاثًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْكَ، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لا يَعْبُدُونَ اللَّهَ تَعَالَى. قَالَ: فَاسْتَوَى جَالِسًا، فَقَالَ: "أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا"، فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ.
عِبَادَ اللهِ! فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ: تَوْجِيهٌ كَرِيمٌ مِنْ نَبِيِّ الْهُدَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالتَّعَلُّقِ بِالْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَالْبُعْدِ عَنْ الِاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، فَسُرْعَةُ زَوَالِ الدُّنْيَا وَفَنَائِهَا دَلِيلٌ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَطَالِبُهَا لَا يَنْفَكُّ مِنْ هَمِّ قَبْلَ حُصُولِهَا، وَهَمٍّ فِي حَالِ الظَّفَرِ بِهَا، وَغَمِّ الْحُزْنِ بَعْدَ فَوَاتِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس: 24].
فَمِنْ طَبِيعَةِ هَذِهِ الدَّارِ: أَنْ تَغُرَّ مَنْ فِيهَا بِمَتَاعِهَا وَشَهَوَاتِهَا وَمَلَذَّاتِهَا، وَمِنْ طَبِيعَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ:الْمَيْلُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ والتَّشَوُّفُ إِلَى الْأَخْذِ مِنْهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر: 6].
وَبِالنَّظَرِ إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ، وَدَوَامِهَا وَبَقَائِهَا وَشَرَفِ مَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرَاتِ وَالْمَسَرَّاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (والآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 17].
وروى مُسلمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ أَخُو بَنِي فِهْرٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسلّم-: "مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَا يَرْجِعُ"، وَقَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا فِي الصَّحِيحِينَ: "اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَةِ"
كَانَ لِزَامًا عَلَى الْعَبْدِ الْمُسَارَعَةَ وَالْعَمَلَ لِهَذِهِ الدَّارِ، وَالَّتِي يَنْعَمُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ، وَتَسْتَرِيحُ رُوحُهُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَدَيْنُنَا الْحَنِيفُ يَدْعُو إِلَى التَّوَازُنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِغَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطَ، وَلَا غُلُوٍّ وَلَا جَفَاءَ فِي أَمْرِ الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص: 77].
وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- يَمْلِكُونَ أَشْيَاءَ مِنْ الدُّنْيَا، وَيَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ، وَلَكِنّ الدُّنْيَا بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ وَالْآخِرَةُ فِي قُلُوبِهِمْ؛ لِأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ الْمُسْتَقْبَلُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَسْعَى لِلنَّجَاةِ فِيهَا، وَأَنْ يَجْعَلَ حَاضِرَهُ مِنْ الدُّنْيَا تَمْهِيدًا لَهَا، وَأَنْ يَجْعَلَ سَعْيَهُ فِي حَيَاتِهِ غِراسًا لِيَوْمِ الْحَصَادِ.
النَّفْسُ تَبْكِي عَلَى الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ | أَنَّ السَّلَامَةَ فِيهَا تَرْكُ مَا فِيهَا |
لَا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَسْكُنُهَا | إِلَّا الَّتِي كَانَ قِبَلَ الْمَوْتِ بَانِيهَا |
فَإِنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مُسَكَنُهَا | وَإِنْ بَنَاهَا بَشَرٍّ خَابَ بَانِيَهَا |
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكَمَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمِ.
اَلْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لَشَانِهِ، وأشهدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلّى الله عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وأعْوانِهِ وسَلّم تَسْلِيماً كثيراً.
أمّا بَعْدُ عِبادَ اللهِ: اِتَّقُوْا اللَّهَ حَقَّ التَّقْوَى، وَرَاقِبُوا اللَّهَ بِالسِّرِّ وَالنَّجْوَى؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى.
عِبَادَ اللهِ: قَبْلَ أَيَّامٍ صَدَرَتْ أَوَامِرُ مَلَكِيَّةٌ، وَتَعْدِيلَاتٌ بِالْبَدَلَاتِ وَالْمُكَافَآتُ وَالْمَزَايَا الْمَالِيَّةُ، فَسَمِعَهَا الْجَمِيعُ وَأَصْبَحَتْ حَدِيثُهُمْ بِالْمَجَالِسِ وَالْعَمَلِ وَالْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا، فَكَثُرَ الْكَلَامُ وَالْجَدَلُ وَالرُّدُودُ، فَحَرِصَ بَعْضُ النَّاصِحِينَ بِحَثِّ النَّاسِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَلُزُومِهَا، وَعَدَمِ نَزْعِ يَدٍ مِنْ طَاعَةٍ! وَكَأَنَّ النَّاسَ عَلَى أَبْوَابِ الْخُرُوجِ عَلَى إِمَامِهِمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ حَقَّ وَلِيِّ أَمْرِهِمْ بِالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ.
فَأَثْبَتَ الشَّعْبُ الْكَرِيمُ لِلْعَالَمِ: أَنَّهُ يَقِفُ مَعَ قِيَادَتِهِ فِي الرَّخَاءِ وَالشِّدِّةِ؛ لَا يُغْرِيهِ الْخَرِيفُ الْعَرَبِيُّ، وَلَا يُخِيفُهُ دَاعِشُ وَالْفِكْرُ التَّطَرُّفِيُّ؛ لِأَنَّهُمْ مَعَ رَجُلِ الْحَزْمِ وَلِيِّ أَمْرِهِمْ بِحَرْبِهِ وَسِلْمِهِ، وَشِدَّتِهِ وَرَخَائِهِ، لَا يَثُورُ كَمَا تَثُورُ مُعْظَمُ الدُّوَلِ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ لِكَلِمَةِ تَقَشُّفٍ؛ بَلْ لِسَانُ حَالِهِمْ وَمَقَالِهِمْ: نَمُوتُ جُوعًا طَالَمَا الْهَدَفُ رَفْعُ رَايَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةَ فِي الْعَالَمِ أَجْمَع.
فَاتَّقُوُا اللهَ عِبَادَ اللهِ حَقَّ التَّقْوَى، فَالْأَعْمَارُ تُطْوَى، وَالْأَجْيَالُ تَفْنَى، وَالْآجَالُ تُقْضَى، وَالْمُؤَمِّلُ يَقْعُدُ بِهِ أَمَلُهُ، وَالْمُسَوِّفُ يُعَاجِلُهُ أَجُلُهُ، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا على مَنْ أَمَرَ اللهُ باِلصّلاةِ والسّلامِ عَلَيْهِ، فَقَالَ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].