البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | الرهواني محمد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
رحلة الإسراء والمعراج لم تكن ولا يصح أن تكون حدثا مرتبطا بزمان أو بمرحلة تاريخية مضت، بل بركاتها وعبرها لم تنقطع بمرور الزمان أو ببعد المكان، ما تزال ذكراها تُعطي فيضها من عام إلى عام دون أن ينضبَ معينُها أو تنفذَ ثمارُها...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعِينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
معشر أمة النبي الحبيب: رحلة الإسراء والمعراج لم تكن ولا يصح أن تكون حدثا مرتبطا بزمان أو بمرحلة تاريخية مضت، بل بركاتها وعبرها لم تنقطع بمرور الزمان أو ببعد المكان، ما تزال ذكراها تُعطي فيضها من عام إلى عام دون أن ينضبَ معينُها، أو تنفذ ثمارُها؛ دروس هذه الذكرى، إشراقاتها، شأنَ أحداث السيرة كلِّها، ستظل تَهدي الواقع، وتُرشِد الطريق، وتَبعث في الأمة معاني التربية والبناء، فتستمدُّ منها ما يستوجب عليها أن تؤدي رسالة ربها بأمانة وإخلاص، فتنشر الحب والعدل والسلام والأمن والأمان بين كافة الناس.
فمع الدرس الثالث من سلسلة "دروس معجزة الإسراء والمعراج .. دروس ودلالات وعبر".
تلكم المعجزة التي اختص الله بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- فصاغها المولى -سبحانه- بكلمات كانت وما تزال مُجلجلةً في الآذان والقلوب، قال ربنا -سبحانه- في أول آيةٍ في السورة التي حَملت اسم هذه المعجزة: سورةِ الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء: 1].
وتمعنوا -معاشر الصالحين والصالحات- في هذه الآية العظيمة فقد تضمنت أمورا مهمة هي في غاية الأهمية وقفنا على بعضٍ منها في الجمعة الماضية، واليوم -بإذن الله- سنقف مع أمرين اثنين:
أما الأمر الأول: فقد اقتضت حكمة الله -جل وعلا- أن يكون بيت المقدس هو المحطةُ الأرضية الرابطة بين الأرض والسماء، وأن يكون المرورُ بهذه المحطة القدسية، والمرورُ بالمسجد الأقصى وبالأرض التي بارك الله فيها للعالمين أمرا مقصودا، حيث بدأت رحلة الإسراء من المسجد الحرام وانتهت بالمسجد الأقصى، وفيه صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بإخوانه الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام- إماما، ثم عُرج به من المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى.
وفي ذلك دلالة على ما لهذا البيت من مكانة وقدسية عند الله -تعالى-، وعلى ما ينبغي أن يوجد لدى المسلمين في كل عصر ووقت من الحفاظ على هذه الأرض المقدسة وحمايتها.
فالإسراء وقع من المسجد الحرام إلى بيت المقدس.
وفي ذلك إشارة أكيدة واقعة لا محالة أن اليهود سيُعزلون عن منصب القيادة، حيث ظلت فيهم النبوات فترات طويلة من الزمان، وظل بيت المقدس هو المكان المفضل عندهم ومَهبِطُ رسالاتهم من السماء.
وبالفعل تحقق وعد الله، فاليهود لما طغوا وظلموا وحرفوا دين الله الذي أنزل إليهم، نزلت عليهم لعنة الله -تعالى-، وتم تحويل أمر النبوة والقيادة عنهم إلى الأبد، فانتقلت القيادة الدينية منهم إلى أمة أخرى وإلى نبوة جديدة عالمية خالدةٍ ورحمةٍ للعالمين.
وأما الأمر الثاني: جاء في هذه الآية الربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ودلالة هذا الربط بين المسجدين، كي يشعر المسلمون وأن يرتبط في وجدانهم أن لكلا المسجدين قدسيته ومكانته عند الله -تعالى- حتى لا يُفرطوا في أي منهما.
دلالة الربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى: أن الأقصى آية في كتاب الله، وعقيدة من عقائد الإيمان، فمن فرَّط بالمسجد الأقصى أوشك أن يُفرِّط بالمسجد الحرام؛ لذلك على الأمة الإسلامية بأكملها أن تُدرك الأمر على حقيقته، وتُدرك أهمية فلسطين بأكملها في تاريخها وعقيدتها وفي حياتها كلها.
فالربط بين المسجدين هو اختيار إلهي، هو قدر إيماني يفرض على المسلمين أن يذكروا، ويتذَكروا في كل وقت وحين على أن معجزة الإسراء والمعراج، حدثت فوق أرض مباركة صارت اليوم تحت وطأة احتلال صهيوني، مما يفرض على الأمة الإسلامية أن تبذل جهدا وعملا متواصلا لرد الكرامة، واستعادةِ المكان الذي شهد هذه الرحلة المباركة.
ذكرى الإسراء والمعراج تُوجِّه رسالة عاجلة إلى كافة المسلمين بأن يقوموا قومة رجل واحد لتطهير بيت المقدس، بل فلسطين بأكملها من اليهود الصهاينة الغاشمين الذين يعيثون في أرضها فسادا، ولا يرقبون في أحد من أهلها، ولا في بقعة من بقاعها ومقدساتها إلاّ ولا ذمة، فلمكرهم ونقضهم العهود والمواثيق، فاليهود قوم بهت خوَنَة، لا عهد لهم ولا ميثاق؛ لذا ربنا -سبحانه- كرر ذكرهم في القرآن، وأبان حالهم في أكثر من ثلث سُوَر القرآن الكريم.
ما من أمة من الأمم تناول القرآنُ تفصيل نشأتها، وتاريخ تكوينها، وبيان أحوالها، وخصائص شخصيتها ومواقفِها، ودخائلَ نفوسِ أفرادِها مثل أمةِ اليهود.
اليهود ينظرون إلى العُهُود والمواثيق التي يوقِّعونها مع غيرهم على أنها للضرورة، ولمقتضيات المصلحة الآنية، فإذا استُنفِدت المصلحة والضرورة، نقَضوا كل ميثاق وكل عهد من غير استشعارٍ ولا اعتبار لا بالقِيَم الأخلاقية، ولا بالمواثيق الدولية.
بل الأعجب من ذلك وقد نبَّه إليه ربنا في القرآنُ، وأصبحنا نراهُ في واقعِنا اليوم؛ أن اليهودَ حين ينقضون العهودَ والمواثيق، لا ينقضها جميعُهم في وقت واحد، وإنما ينقضها فريقٌ دُون آخر، قال ربنا -سبحانه-: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) [البقرة: 100].
فالواقعُ اليهوديُ اليوم يُصدِّق ما أخبر اللهُ -تعالى- عنهم، فإن كانت الدائرة عليهم وأصابهم سوء، جاءت طائفة منهم تدعو إلى السلام وتتظاهَر بالمسكنة بالمحافظةِ على العهدِ وتطالب بالجلوس إلى مائدةِ المفاوضات وإذا تحققت لهم الغلبة واستقامَ لهم الأمرُ وأمنوا، جاهروا بالعداوة، وتنكروا لكل عهد ولكل ميثاق، لكل المفاوضات، وتداعوا جميعا على الحِقد والبطش والمكر، وعمِلوا سلاحَهم في التقتيل والتشريد والتخريب، وإن امتدَّت إليهم يدٌ بالسلام، لووها وكسروها، وهكذا هم اليهود.
هكذا هم اليهود، وذلكم المسجد الأقصى يعيش تحت وطأتهم ما شاء الله له أن يعيش.
والمسلمون يلهثون وراء سراب المفاوضات والسلام.
وهذا هو الأمر الواقع الذي نشهده اليوم ونحياه، ومن السخرية أن نُنكره أو ننساه، ولكن لا حيلة لنا فيه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
ذكرى الإسراءِ والمعراج رسالةٌ للذين يؤمنون بضرورة تحقيق السلام مع اليهود، رسالةٌ للذين ينتظرون ويأملون من وراء سراب المفاوضات والسلام أن يعود الأقصى وأن تعود فلسطين.
فلسطين -يا أمة الإسلام- ليست قضية أرض وشعب يمكن أن تُدخل ويُفاوِضَ عليها البعض في الدهاليز السياسية.
فلسطين لن تموت قضيتها بإذن الله، وحتى إن رأى لها البعض من بني قومنا أن تموت؛ لأنها آية في كتاب الله، وآيات الله محفوظة مادامت السموات والأرض.
فلسطين عقيدةٌ في قلب كل مسلم، والعقيدة لن تموت.
فلسطين دمعة حب في عين كل مسلم، ودمعة الحب لن تذهب سدى.
فلسطين هي قطعةٌ من أفئدتنا كمسلمين، واحتلالها طعنة في قلوبنا، لكنها سُلبت منا يوم ضعفت في قلوبنا.
سُلبت منا فلسطين يوم جعلنا كتاب ربنا وراء ظهورنا.
سُلبت منا فلسطين يوم تخلينا عن عقيدتنا.
سُلبت يوم جفت عيوننا من الدموع.
فلسطين سلبت منا بالصمت والضعف والتخاذل.
ولكنها -بإذن الله- ستعود إلى أهلها.
ستعود فلسطين رغم أنف الصهاينة المجرمين.
ستعود رغم تقاعس المتخاذلين.
ستعود كل ذرة تراب من فلسطين إلى مكانها، وسيعود كل لاجئ مُستضعف الى بيته رغم أنف المتآمرين حتى وإن كانوا من بني قومنا.
فلسطين ستعود والمسجد الأقصى عائد -بإذن الله- ولا بد أن يعود.
ولكن تسألون كيف؟ تسألون متى هو؟
(قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا) [الإسراء: 51].
وهذا ما بشر به النبي الحبيب -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في الحديث الصحيح حيث قال: "لا تقومُ الساعةُ حتى يُقاتِلَ المسلمون اليهودَ، وحتى يختبئ اليهوديُّ من وراء الحجَر والشجَر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهوديٌّ خلفي فتعالَ فاقتله، إلاَّ الغرقد؛ فإنه من شجرِ اليهود".
ويومها سيتحقق النصر النهائي إن شاء الله، وسيعقب الانتصار إقامة الخلافة في القدس؛ ففي المسند بسند صحيح عن أبي حوالةَ الأزدي -رضي الله عنه- قال: وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: "يا ابنَ حَوَالَةَ، إذا رأيتَ الخِلافةَ قد نَزَلَتِ الأرضَ المُقَدَّسَةَ، فقد دَنَتِ الزلازلُ والبَلابلُ والأمورُ العِظامُ، والساعةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ من الناسِ من يَدِي هذه مِن رأسِكَ".
وللحديث بقية في الجمعة القادمة: "الإسراء والمعراج .. دروس ودلالات وعبر".