الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | صالح بن عبدالله بن حمد العصيمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - الحكمة وتعليل أفعال الله |
من آيات الله العظيمة ودلائل قدرته الجليلة إنزاله -سبحانه وتعالى- الغيث.. وإن هذه الآية العظيمة بها أحكام شرعية متنوعة.. فمن جملة تلك الأحكام وهو مدار رحاها إسداء الشكر لله -عز وجل- تلقاء هذه النعمة العظيمة؛ فإن الناس لو اجتمعوا يريدون إنزال قطرة من ماء الغيث لم يقدروا على ذلك، ولكن الله -سبحانه وتعالى- يتفضل عليهم فينزل الغيث عليهم من السماء مدرارًا..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: اتقوا الله فإن تقوى الله -سبحانه وتعالى- سفينة نجاتكم في الأولى والآخرة، فمن اتقى الله نجا، ومن لم يتقه هلك.
ثم اعلموا -رحمكم الله- أن من آيات الله العظيمة ودلائل قدرته الجليلة إنزاله -سبحانه وتعالى- الغيث قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ)، وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى:28]، وقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت:39].
إن هذه الآية العظيمة بها أحكام شرعية متنوعة فمن جملة تلك الأحكام وهو مدار رحاها إسداء الشكر لله -عز وجل- تلقاء هذه النعمة العظيمة؛ فإن الناس لو اجتمعوا يريدون إنزال قطرة من ماء الغيث لم يقدروا على ذلك، ولكن الله -سبحانه وتعالى- يتفضل عليهم فينزل الغيث عليهم من السماء مدرارًا.
عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل -أي على إثر مطر نزل من الليل- فلما قضى صلاته انصرف إلينا، ثم قال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم ، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -عز وجل- أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مُطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب".
فمن الأحكام التي ينبغي أن يشهدها قلب أحدنا عند نزول الغيث أن يعلم أنه نعمة من الله -عز وجل- أداها ، ونعم الله -عز وجل- تقابل بالشكر، وأول شكرها إضافة تلك النعمة إلى ربنا -سبحانه وتعالى-، قال الله تعالى: (وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة:172].
ومن جملة تلك الأحكام التعبد بالأذكار المشروعة التي تتعلق بهذه الآية؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى الغيث قال "صيبًا نافعًا"، أي: سأل الله -سبحانه وتعالى- أن يكون هذا المطر النازل صيبًا ينفع الأرض والعباد والبلاد.
ومن جملتها أن يقول العبد "مُطرنا بفضل الله ورحمته" إعلانًا بإضافة تلك النعمة إلى الله -عز وجل-، واعترافًا بفضل الله -عز وجل- علينا ورحمته الواسعة بنا سبحانه.
ومن جملتها إذا تكاثر المطر وخشي الخطر أن يقول العبد "اللَّهُمَّ حوالينا، ولا علينا، اللهم على الآكام، والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر".
فإن هذه الأذكار الثلاثة من الأذكار المأثورة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- المتعلقة بأحكام المطر.
ومن جملتها أن يتعرض العبد لهذه النعمة فرحًا بها ورجاء بركتها؛ ففي صحيح مسلم عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: "أصابنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مطر، فحسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثوبه حتى أصابه من المطر، فسألناه لأيّ شيء صنعت هذا؟ فقال: "لأنه حديث عهد بربه".
فتعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- للمطر بأن كشَف عن شيء من بدنه برفع ثوبه عنه حتى يصيبه شيء من المطر النازل من السماء فيُسنّ للعبد أن يتعرض للمطر النازل من السماء بكشف رأسه، أو بكشف ذراعيه، أو بالخوض فيه برجليه اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما صنع ذلك، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "لأنه حديث عهد بربه".
وهذه الجملة فيها معنيان؛ أنه حديث الخلقة فإن الله -سبحانه وتعالى- خلَقه بنزوله علينا، والآخر لأنه من العلو من جهة السماء فهو حديث عهد بربه -سبحانه وتعالى- فربنا -عز وجل- في السماء.
ومن جملة تلك الأحكام: أنه يشرع إذا خشي من المطر مشقة ومضرة: الجمع بين الصلاتين، ومتعلق حكمهما هو وجود المشقة وخوف الضرر، وتقدير ذلك مرهون بالإمام الذي هو ضامن للناس صلاتهم، فليس للناس أن يقترحوا عليه اقتراحًا يفرضون بذلك عليه، وإنما يسألونه: هل هذا موافق لحال الجمع المشروعة أم لا، فإن أجابهم بكونها موافقة لوجود المشقة وخوف الضرر صلى وصلوا معه، وإن أخبرهم بأنه لا ضرر ولا مشقة، فليأتوا الصلوات في المساجد؛ فإن هذه أحكام شرعية ترجع إلى تقديم الشرع لا إلى الآراء والأهواء.
ومن جملتها أن يُشرَع للمؤذنين مع وجود المطر الكثير الذي هو سبب للجمع أن ينبهوا الناس على جواز الصلاة في بيوتهم فيقولون: "الصلاة في الرحال"، أو "صلوا في رحالكم"، ولها موضعان: أحدهما الإتيان بها بعد الفراغ من الأذان كله، فإذا فرغ المؤذن من الأذان كله قال مرتين: "الصلاة في الرحال، الصلاة في الرحال"، أو يقولها بعد فراغه من قوله: "حي على الصلاة حي على الفلاح "، فيقول بعدهما مرتين: "الصلاة في الرحال"، أو يقول: "صلوا في رحالكم"، إعلامًا بأن المطر الكثير رخصةٌ من الرخص التي تبيح عدم حضور الجماعة في المسجد.
واعلموا -رحمكم الله- أن من الأحكام التي تتعلق بالأمطار أيضًا التحرز من إيذاء النفس خاصة، والناس عامة من أنواع الشرور المتوقعة، قال الله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا ضرر ولا ضرار"، وهذان الدليلان يجمعان أنواعًا من المخالفات التي يقع فيها الناس من المغامرة بأرواحهم أو أموالهم أو أهليهم بالزجّ بها في مسارات الأودية، أو الخروج في حال اشتداد المطر، أو أذية الناس الخارجين إلى المطر بأنواع مختلفة من الأذية التي تعكر صفو فرحهم بهذه النعمة.
فاعرفوا -رحمكم الله- ما أوصل الله -عز وجل- لكم من نعمة عظيمة، وما أظهر لكم من آية جليلة، واعملوا بما شرع لكم ربكم في هذه الأحكام.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنزل الغيث وأتم النعمة، وأشهد أن لا إله إلا الله -سبحانه وتعالى- له علينا أعظم منَّة، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون: إن من العادة الجارية عند الناس بروزهم إلى البر في أيام نزول المطر؛ فرحًا بهذه النعمة، وابتغاء الترويح عن النفس، وإن هذا لأمر مباح قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف: 32].
فالبروز إلى البر في هذه الأوقات من الأمور المباحة التي ربما أُثيب العبد عليها إذا صحَّت نيته بأن يخرج للنظر في آيات الله -سبحانه وتعالى-، وشهود قدرته أو التغيير على النفس، رجاء أن تقوى على العبادة بعد ذلك، إلا أن هذا المباح يكتنفه أمران يفسدانه؛ أحدهما أن يجعله العبد ديدنًا وعادة له حتى يغلب عليه فيؤدي به إلى ضياع الواجبات، فربما تنزه المتنزهون في البراري حتى أداهم ذلك إلى ضياع أوقات الصلوات منهم وعدم أدائها في وقتها أو الإخلال بواجباتهم الشريعة نحو أزواجهم أو أبنائهم.
فإن المباح إنما يؤخذ منه على قدر الحاجة بما لا يؤدي بشيء من الواجبات التي فرضها الله -سبحانه وتعالى- علينا.
والآخر وصول بعض الناس إلى حال مزرية من مبارزة الله -سبحانه وتعالى- بالمعاصي في وقت ينبغي فيه شكره -سبحانه وتعالى- بالوقوع في أنواع من المحرمات كتبرج النساء وسفورهن بمحضر الرجال، أو اختلاطهن بالرجال الأجانب أو أصوات الموسيقى المحرمة، أو غير ذلك من الأمور المحرمة التي تعكّر عليهم صفو ما أباح الله -سبحانه وتعالى- لهم، ثم يرجع هؤلاء وأولئك من المباح الذي رجوا أن يكون مقويًا لهم، فقد ضاقت صدورهم، وتعكر صفوهم؛ لأن المباح إنما تحصل منفعته إذا لم يشتمل على ما يخالف أمر الله -سبحانه وتعالى-، فإن خالف أمر الله -عز وجل- فإن عاقبته وخيمة.
وإذا كانت تلك المخالفة على وجه المبارزة في وقت ينبغي فيه الشكر لله -سبحانه وتعالى- على نعمته كان أثرها أسوأ وأسوأ.
فاتقوا الله أيها المؤمنون في أنفسكم وفي أهليكم واعرفوا ربكم -سبحانه وتعالى- بالحق، وبادروا إلى شكر نعمته، واعلموا فيها بما أذن الله -عز وجل- لكم ورضي تغنموا في الدنيا والآخرة، وحاذروا معصية الله؛ فإن غضب الله -سبحانه وتعالى- شديد وإن عذابه أليم.
ولئن فاتك هذا في الدنيا كان شرًّا لك في الآخرة، فاتقوا الله ربكم وكونوا له مذعنين واعملوا بشرعه تلقوه في الآخرة آمنين مؤمنين.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.