الحق
كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...
العربية
المؤلف | عبدالباري بن عواض الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
الحياة الطيبةُ الحياة الآمنة الحياةُ الهادئة المستقرّة مطلبُ كلِّ إنسان، ومقصدُ كلّ عاقل، كيف نتذوّقها في أنفسنا؟ كيف نعيشها في مجتمعاتنا؟ كيف نؤمّنُها للأجيال القادمة؟ قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَـالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيّبَةً).اشترط سبحانه الإيمانَ حتى ينفع العملُ الصالح الذي يُثمر طيبَ العيش، وتجعله قريرَ العين، هنيءَ النفس، صالح البال، فيجمع الله له أمرَه، ويرزقه الرضا والحياةَ الطيبة.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي سبيل النجاة في الدنيا والأخرى، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَـالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:97 ].
ذكر المفسرون أقوالاً عديدة في معنى الحياة الطيبة الواردة في الآية الكريمة، فقالوا: هو الرزق الحلال الطيّب في الدنيا أو القناعة أو الرضا ونحو ذلك، لكنَّ ابن القيم رحمه الله تعالى وجّه الأنظارَ إلى معنًى أعمق فقال: "الصواب أنَّها حياةُ القلب ونعيمُه وبهجتُه وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبَّته والإنابة إليه والتوكّل عليه، فإنَّه لا حياةَ أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيمَ فوق نعيمه إلا نعيم الجنة، كما كان بعض العارفين يقول: إنَّه لتمرّ بي أوقاتٌ أقول فيها: إنْ كان أهلُ الجنَّة في مِثل هذا إنَّهم لفي عيشٍ طيّب، وإذا كانت حياةُ القلب حياةً طيبة تبِعته الجوارح، فإنه ملِكُها" انتهى كلامه رحمه الله.
صِرنا في زمنٍ كثرت فيه أسبابُ الهموم والأحزان، فقد كثُرت فيه الفتن والمحن، وظهرتْ فيه البغضاءُ والإحَن، وكثُرت فيه الشواغل، ونزلت فيه بالناس الغوائل، وتشعّبت بالناس الشّعاب.
الحياةُ المعاصرة أبدعت في أساليبِ الرفاهية والمُتعة لبني البشر، لكنَّها لم تستطِع تأمينَ الحياة الطيبة، سعادةَ القلب، اطمئنانَ النفس، لقد بلغ العلمُ الحديث درجةً عالية من الرّقي، فلم يحقِّق إلا متعةً حسّيّة ولذّةً ظاهريّة ورفاهيةً آنيّة، لم تبلغ مكنوناتِ النفس، ولم تتذوّق بها النفس الحياةَ الطيبة.
يتصوَّر بعضُ الناس الحياةَ الطيبة مقترنةً بالأضواء البرَّاقة والمناصبِ الخادعة، ويتصوّرها آخرون مع تكديس الأموال والانغماس في أوحال الشهوات واحتساء سموم المخدرات، وآخرون مع تشييد القصور الفخمة.
إنَّ اليأس والقلقَ والأسى والألمَ يموج في العالم، والتمرّد والتمزّق والمأساة والشقاء سمةُ الحياة المعاصرة، هناك فوضًى تأخذ بخناق العالم، تُبعثر كلَّ ما بقي من نظام، وتسعى إلى تمزيق الحياة.
الحياة الطيبةُ الحياة الآمنة الحياةُ الهادئة المستقرّة مطلبُ كلِّ إنسان، ومقصدُ كلّ عاقل، كيف نتذوّقها في أنفسنا؟ كيف نعيشها في مجتمعاتنا؟ كيف نؤمّنُها للأجيال القادمة؟ قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَـالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيّبَةً). اشترط سبحانه الإيمانَ حتى ينفع العملُ الصالح الذي يُثمر طيبَ العيش، وتجعله قريرَ العين، هنيءَ النفس، صالح البال، فيجمع الله له أمرَه، ويرزقه الرضا والحياةَ الطيبة.
الإيمان الحقُّ بالله تعالى رباً ومعبوداً هو السببُ الأعظم للحياة الطيبة، كما قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَـالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، فإذا عرف العبد ربَّه تبارك وتعالى بصفاته وأسمائه الحسنى عرف معنَى ربوبيته سبحانه، وأنَّه هو المالك للأمر كله، بيده نواصي جميع الخلق، فإنَّه لا يخشى أحداً غيرَه، ولا يدين لأحدٍ سواه. انظروا إلى نبي الله هود عليه السلام كيف تحدَّى قومَه جميعاً حينما خوّفوه بآلهتهم الباطلة، فقال لهم: (إِنِى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [هود:54-56].
من ملِك هذا الكون ومالكه؟! من خالقه؟! إنه الله، خالقُ كلِّ شيء، ربّ كلّ شيء، مدبّر الأمر وحده، الخافض الرافع، المعزُّ المذلّ، الضارّ النافع، هو الذي بيده ملكوت كلّ شيء، هو على كل شيء قدير، قيومُ السموات والأرض. فإذا علم العبدُ ذلك فقد وجب عليه أن لا يخشى إلا ربَّه، وأن لا يبتغي العزةَ إلا في طاعته والتذلّل لعظمته، وأن لا يتَّجه إلى غيره، ولا يتعلق قلبُه بسواه، وأن يلجأ إليه وحده في كل ما يلمّ به من المصائب والشدائد، فهو ربّه ومالكه، ومصلحُ أمره ومدبّره. وحينئذ تطمئنّ نفسُه، ويثبت جأشه، ويقوى قلبه؛ لأنه يعلم أنه يأوي إلى ركن شديد، ويحتمي بملك الملوك، فقد توكَّل على الحيّ الذي لا يموت، وهذا يجعل نفسَه دائماً مطمئنَّةً وحياتَه طيبة. من كان كذلك تحقَّق له الأمن والأمان، وتحققت له طمأنينة النفس؛ لأنه حينئذ يكون عبداً لربٍّ واحد، فيكون له توجّهٌ واحد، فلا تتفرّق نفسُه ولا تتعدَّد وِجهته. ذلك أن العبدَ الذي يعلم أنَّ الله تعالى هو مالك المُلك وحدَه وهو أحكم الحاكمين لا يتّجه إلى غيره لكشف ضرٍّ أو جلب نفع، أمّا من كان له وليّ يدعوه من دون الله، أو حاكم يطيعه في شرع الله، أو شهوةٌ قد تعلّق بها في معصية الله، أو طاغية يرجوه خوفاً من ظلمه وبطشه، أو دنيا قد استعبدته من دون الله، فهذا هو الشقيّ الذي يتنازعه شركاءُ متشاكسون، قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَـاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [الزمر:29].
إخوة الإسلام، مِن أسباب الحياة الطيبة تقوى الله بأداء الفرائض واجتناب المعاصي، فإذا كنتَ في ضيقٍ وشدّة فاتَّق الله في أمرك وفي مآلك، قال تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ) [يونس:62-64]. فالمؤمن التقي من أطيب الناس عيشاً، وأنعمهم بالاً، وأشرحهم صدراً، وأسرّهم قلباً، وهذه جنَّة عاجلةٌ قبل الجنّة الآجلة، فما أعظمها من نعمة.
الصلاة ـ عبادَ الله ـ من أعظم الأسباب لتحقيق الحياة الطيبة، تشرح الصدرَ، وتُذهب ضيقه، وتُرسل في القلب نبضاتِ الطمأنينة والراحة، فلا يزال العبد كأنَّه في سجنٍ وضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها لا منها. تمدّ العبدَ بقوةٍ إيمانية، تعينه على مهماتِ الحياة ومصائبها، بها تزول الهمومُ والغموم والأحزان، قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَـاشِعِينَ) [البقرة:45]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. أخرجه البخاري.
من أهمّ أسباب الحياة الطيبة دوامُ الذكر، فالذكر طمأنينة للقلب، أمانٌ للنفس، حفظٌ لها من الشرور. والقلبُ الممتلئ بذكر الله قلبٌ قويّ، لا يخاف غيرَ الله، ولا يخشى أحدا إلا الله؛ لأنه يستشعر دائماً معيةَ الله ونصرتَه، فهو سبحانه القائل في الحديث القدسي: ((أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرّكت بي شفتاه)) أخرجه أحمد.
من أسباب الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة هدايةُ الله للعبد إلى التوبة والاستغفار كلما أصاب ذنباً أو همَّ بمعصية، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَـئِفٌ مّنَ الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) [الأعراف:201].
سرّ الحياة الطيبة ـ عباد الله ـ القناعةُ بالرزق والرضا بما قسم الله، يُجلّي هذا المعنى حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم آمناً في سِربه معافًى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه)) أخرجه مسلم.
التطلّع ـ عبادَ الله ـ إلى زهرة الدنيا تتقلب في أيدي الناس تُورثُك همًّا ينغّص عيشَك، وغمًّا يكدّر حياتَك. إن أهمّ أمر يسبِّب نكدَ حياة كثير من الناس في هذه الأيام عدمُ الرضا بما أوتوا، كلٌّ منّا ينظر إلى ما أوتيَه من هو فوقَه مالاً ومنصباً، وهذا الحديث الصحيح يرشد إلى منهج سديد بقوله صلى الله عليه وسلم: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنّه أجدرُ أن لا تزدروا نعمةَ الله عليكم)) رواه الترمذي.
إنّه مهما قلّ مالك وساءت حالك أحسنُ من آلاف البشر ممن لا يقلّ عنك فهماً وعلماً وحسباً ونسباً.
إن الحياةَ قصيرة، فلا تُسلمها للهموم تفسدُها، وللأقدار تقتلُها، وقد قال أحدهم: "راحة الجسم في قلةِ الطعام، وراحةُ النفس في قلَّة الآثام، وراحة القلْب في قِلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلَّة الكلام".
إن إضفاءَ مسحةٍ من الأمل في المستقبل والتفاؤلَ في الحياة يغمر القلبَ بالبهجة، ويعمر الحياةَ بالسرور، ليهنأ المسلم في عيشه، ويغدوَ مسيحَ الآلام فسيحَ الآمال حسنَ الظن بالله.
تزهو الحياة وتطيبُ باصطناع المعروف، وإغاثة الملهوف، قضاءِ حوائج الناس، إدخالِ السرور عليهم، المشي في حوائجهم. تتلذّذ ـ أيها المسلم ـ بحياتك وتشعر بالحبور حين تُدخل على قلوب البؤساء والضعفاء السرورَ. نعم، تسرِي في كيانك السعادة، وأي سعادة؟! بل وما أعظمها من سعادة.
أفكارك الخيِّرة ترسم مسارَك، وأعمالُك النافعة تُبهج أيامَك، ومن سما بأفكاره سما بحياته، فتغدو مضيئةً طيبة مرِحة مستبشرة، ذلك أن الأفكار السُّمْيى تبعث في الحياة الروح، والأهدافُ النبيلة تجعلك تحلّق في أجواء بعيدةٍ عن الأنتان والحش، تشكرُ الله على كلّ نعمة، وتصبر على كلِّ بليّة، قال تعالى: (وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَـادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحاً فَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى الْغُرُفَـاتِ ءامِنُونَ) [سبأ:36].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وفَّق من شاء لعبادتِه، أحمده سبحانه وأشكره على تيسيرِ طاعتِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعدَ المؤمنين بلوغَ جنّتِه، وحذّر العصاةَ أليمَ عقوبتِه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، كان إماماً في دعوتِه، وقدوة في منهجه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاةً دائمة حتى نبلغ دار كرامتِه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
إخوة الإسلام، اجتماعُ الهموم كلِّها على مرضاة الله تطيِّب الحياةَ، وتجعل في القلب حياةً، وهي أُنس بالمحبوب، ومن تشعَّبت به همومُه عُذّب بها فأهلكته، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: ((من جعل الهمومَ همًّا واحداً همَّ المعاد كفاه الله همَّ دنياه، ومن تشعَّبت به الهمومُ في أحوال الدنيا لم يُبال الله في أيِّ أوديتِه هلك)) أخرجه ابن ماجه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأيُّ حياةٍ أطيبُ من حياة مَن اجتمعت همومُه كلها وصارت همًّا واحداً في مرضاة الله تعالى، ولم يتشعَّب قلبه، بل أقبلَ على الله، واجتمَعت إرادتُه وأفكاره على الله تعالى، فصار ذكرُه لمحبوبه الأعلى وحبُّه والشوق إلى لقائه والأنس بقربه هو المستوليَ عليه، وعليه تدور همومُه وإرادته وقصودُه بكل خطوات قلبه، فإن سكت سكتَ لله، وإن نطقَ نطقَ بالله، وإن سمِع فبِه يسمَع، وإن أبصر فبه يُبصِر، وبه يبطِش، وبه يمشي، وبه يتحرَّك، وبه يسكن، وبه يحيى، وبه يموت، وبه يُبعث" انتهى كلامه رحمه الله.
إخوة الإسلام، لا تتحقَّق الحياةُ الطيبة قبل ذلك وبعده إلا بالاستعانة بالله واللجوء إليه، وسؤاله صلاح الدين وطيبَ الدنيا، هكذا علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بقوله في دعائه: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، وأصلح لي دنيايَ التي فيها معاشي، وأصلحْ لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر)).
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك المشركين، ودمّر اللهم أعداءَك أعداءَ الدين من الكفرة والملحدين...