العليم
كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
نحتاج لعلمٍ ومناهج تغرسُ في الجيل ثوابت الدين، وتحمي أمن الوطن، وتبتعدُ عن كل بلبلةٍ فكريّةٍ، أو صراعاتٍ مذهبيَّة طائفيةٍ، أو فوضى أمنيَّة؛ نقية من عوامل الفساد، وأسباب الزيغ والإلحاد، واتجاهات الزندقة والتغريب الذي يُراد. نحتاج لعلوم فيها احترام للآخَر ورأيِه وحقوقِه، وتحافظُ على تماسكِ الوطن، وتحمي البيئة.
الخطبة الأولى:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أَنَّ العلمَ سببُ نهضة الأمم؛ فالبشرية، منذ خلق الله آدم -عليه السلام- قُرنت بالعلم، خلقه الله فعلَّمه الأسماء كلَّها، وأنبياءُ الله ورسله يُبعثون ويُجاهدون ويصبرون ويُصابرون على العلم وإيصاله: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد:25]؛ لهداية النَّاسِ في الظلمات، رغم ما يلقونه.
وأوّل وحيٍ لمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- سما بقدْرِ القَلمِ، ونوَّهَ بالعلمِ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:1-5]، ودعا -عليه الصلاة والسلام- ربَّه بالعلم: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:114].
والقرآن الكريم يسمو بالعلم وأهله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران:18].
وأمة الإسلام رفع الله شأنها بالعلم وتبليغه، والأوطانُ تُبنى بالتعليم؛ لأنه هدفٌ لها، والجهلُ سببُ ضعفِها وتعاستها، والتعليمُ إذا انحرف كان سبباً في هدمها.
ولذلك، تُولي الدولُ المتقدمةُ والمجتمعاتُ المتحضرة التعليمَ كلَّ رعايتها، وجُلَّ اهتمامها، فهو أساسُ الهوية، ومرتكزُ الشخصيِّة، والسبب الأول -بعد توفيق الله- لإعطاء الأمة مكانةً مرموقةً، وكلمةً مسموعة، إذا اهتمت به فستبني صروحَ عزٍّ شامخة، وترفعُ مآذنَ مجدٍ شاهقةً، وإذا أهملته تظلمُ نفسها، وتخسر أجيالها، وتضيع رسالتها.
أدرك ذلك غيرُنا؛ فتقدموا تقنيّاً، والأولى بالمسلم أن يتقدّم بدينه وتاريخه وحضارته، وسبق ذلك لنا في تاريخ علمي قديم بمكة والمدينة ودمشق والقاهرة ومراكش والزيتونة وبغداد والأندلس ونجد، حضارةٌ علميةٌ شهدَ لها البعيدُ والقريب.
التعليم -عباد الله- بالمنهجِ والمُعلّم، ينبغي أن يرتبطَ بعقيدةِ الأمة، منسجماً مع أهدافها وآدابها، يُصلحُ النفسَ، ويُهذّبُ الخلُق، مع التطوير والتحديث، يُحصّن الناشئةَ بالثوابت المجمع عليها، ويُبعدهم عن الخلافات والفتن؛ ليكونوا خيرَ ممثلٍ لدينهم وأمتهم، مع إبعادهم عن الثقافات المتناقضة، والعلوم المتنافرة، والهوى، والجدل العقيم.
والنجاحُ في العلم ليس بمعرفةِ القراءةِ والكتابةِ، وثقافةِ التلقينِ، وليس التفوقُ بكثرةِ مباني المدارس، وأفواج الخريجين، بل حقيقةُ العلم نُصرةُ الدين وفهمُه، وتطويرُ المجتمعات، وازدهار الوطن والحفاظ على أمنه، وحماية الشباب من غلوّ التطرف ووحل الإلحاد، وتحصينُهم من كل فكرٍ سيّءٍ دخيل، وكيد خائن عميل، وخلقٍ عن الحق يميل، علمٌ يُقدّم مع فهمٍ للواقع وقبولٍ للرأي الآخر ومشاركةٍ مع الجميع لبناء المجتمع ونأُخذ من غيرِنا العلمَ المفيد والحديث.
إن آباءَنا وأجدادَنا -وبعضُهم أُمِّيٌ لا يقرأ ولا يكتب- ربَّوا بقِيمٍ يعرفونها، وعاشوا عليها جيلاً كاملاً، رأينا منجزاتِهم. والمؤسف أن بعضَ طرح التعليم اليوم لم يصل لمستوى أولئك الآباء والأمهات في غرس قيمٍ نحتاجُها!.
أيها الإخوة: مناهج التعليم لا تُملى من الغير، وهي تبحث عن الكيف لا الكم، تقوم على التجديد والإبداع وليس الاجترار والتكرار، مناهج تنطلق من الثوابت ولا تتبدل حسب الظروف والأحوال والضغوطات، علمٌ يسعى للمضمون لا الشكل، وللثقافة لا الشهادة، ويجعل الوظيفة وسيلةً للتطور وخدمة الوطن والاختراع والإبداع، وليس يتأخر بالإنسان ويتطاولُ في البنيان، يقود إلى الحضارة، وكما يقدّمُ العلومَ الشرعية التي تقيم دين الناس فهو يقدم العلومَ الطبيعية من طبٍ وعلوم وفيزياء وتقنية وينافس بها؛ لأنها ضرورات للعصر.
نحتاج لعلمٍ ومناهج تغرسُ في الجيل ثوابت الدين، وتحمي أمن الوطن، وتبتعدُ عن كل بلبلةٍ فكريّةٍ، أو صراعاتٍ مذهبيَّة طائفيةٍ، أو فوضى أمنيَّة؛ نقية من عوامل الفساد، وأسباب الزيغ والإلحاد، واتجاهات الزندقة والتغريب الذي يُراد. نحتاج لعلوم فيها احترام للآخَر ورأيِه وحقوقِه، وتحافظُ على تماسكِ الوطن، وتحمي البيئة.
ونحن نفخر -ولله الحمد- في تعليمنا بإنجازاتٍ تحقّقت وحافظت على أمنه وقاومت الفساد والتطرف؛ لكننا نطمحُ للأكثر، وهنا يأتي دور المُعلّم المُهتم بتعليمه، فالأجيالُ تتهدّدُها هجماتٌ لنزع القيم والأخلاق، وإضعاف الولاء للدين والقيم والأوطان.
والتميزُ من خلال التعليم مطلوبٌ؛ لنحميَ أجيالَنا، فالدولة -وفقها الله- تُخصِّصُ للتعليم أعلى أرقام ميزانيتها السنوية، وتسعى لتطويره، وكما هي مسؤولة عن إصلاحه وتقدّمه فإن رجالات التعليم كباراً وصغاراً على عاتقهم أعظمُ المسؤولية في إعداد الجيل وحمايته، علماً وعملاً ونفعاً لهم ولدينهم ووطنهم.
نعم؛ فدَوْرُ المعلّمِ أساسيٌّ في تحقيق الهدف من التعليم، وأهميّته قبل المبنى والمنهج:
قم للمعلم وَفِّهِ التَّبْجيلا | كاد المعلم أن يكون رسولا |
صدق شوقي في تشبيهه دَور المعلم؛ لأنّ التعليمَ امتدادٌ لتبليغ دعوة الأنبياء والمرسلين، وهو من يستطيعُ صياغةَ العلوم؛ لإيصالها بجودة إلى ذهن طلّابه، بقوّته العلميّة، وطريقته المنهجية، وقدوته الخلقية، في منهج متكامل، وهذا ما رأيناه -بحمد الله- في علمائنا عبر التاريخ، ومشايخنا وأساتذتنا، ممن ندينُ لهم بالفضل، وعُرفوا بالتميّز في تربية الأجيال، فحقّقوا الكثير بعملهم، وغرس نشء من تحتهم يحمل القيم ويُطبّقها.
إن المُعلِّم-إخوتي- هو مرتكزُ برامج التعليم كلِّها، يستطيع -بتوفيق الله، ثم بعمله- إنجاحها أو الإخفاق فيها؛ ولذلك، فإعداده وتطويره أهمُّ من كلِّ شيء.
ومن المؤسف أن بعضَ المعلمين لا يدركون دورهم، أو يشوهونه بالتقصير في مهماتهم، أو بعدم إجادة أعمالهم، أو لا يعطون القدوةَ في أخلاقهم! والأخطر من ذلك -رغم قلتهم- من يسعى لاستغلال تعليمه لنشر فساد خلقي، أو تطرف فكري، وهو مؤتمنٌ على الأجيال! فهذه مصيبة كبرى!.
يا أيها الرجل المُعلّمُ غيره | هلّا لنفسك كان ذَا التعليمُ |
لا تنه عن خلقٍ وتأتيَ مثله | عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ |
هذا عن البعض، ونحن لا نُعمِّم؛ لأننا نفخر -بحمد الله- بوجود نماذج رائعة من معلمينا في جميع الصفوف يقومون بدورهم الرائد في تربية الأجيال، وإعطاء القدوة الحسنة عنهم للأجيال تحتهم، هؤلاء هم بناة المجتمع الذين ينبغي أن تصرف لهم الأوسمة والجوائز، فهم أولى من غيرهم بالإبراز والشكر، وكذلك الحوافز الماديّة والتشجيعيّة.
إن نجاحَ المُعلّمِ بقوّة معرفته، وجودة شخصيته، وإخلاص نيَّته، فينوي بتعليمه الإحسانَ إلى طلبته بإرشادهم لما ينفعُهم في أمور دينهم ودنياهم، يكونُ قدوةً بالأخلاقِ الفاضلةِ والآدابِ العالية، مبدعاً في المنهج، حواريِّ الطابع، يجعلُ الفصلَ قاعةَ بحثٍ لا غرفةَ حبس.
وليعلم هذا المتميّز أن الطلبةَ سيحفظون له تميّزه عبر تاريخهم، كما حفظنا تميّزَ معلمين لنا أمواتاً وأحياءً.
أما المتعلّمون، من طلبة وطالبات، فعليهم أن يبذلوا الجهد ليدركوا العلم، ويثبت في قلوبهم، ويرسخ في عقولهم؛ فالإهمالُ والتهاونُ يورثُ العجزَ والقصورَ والندم، ولات حين مندم!.
لا يكن هدفك وظيفة أو شهادة، أعلِ همّتكَ لتطوّر من خلال علمك نفسكَ ووطنكَ، وتحافظَ على دينك وأمتك، وليكن رائدُك إخلاصَ النية لله؛ لتُفلح وتنجح.
أما دور الأسرة فيكون بتفقد أولادهم، ومعرفة سْيرهم ونهْجهم العلميّ والفكريّ والخلقيّ، يبحثون معهم جهدهم، ويتفقدون صحبتهم ودراستهم، ويتواصلون مع المدرسة؛ أما إهمالهم فضياعٌ لهم وظلم، لأنهم رعيّةٌ يجب أن يرْعوها مع بعضهم متعاونين.
إخوتي، إن المدارسَ ودُور التعليم –إخوتي- محاضنُ الجيل، وهي الحصن الحصين للبلد، فيها حماية الأمة والأمن، والحفاظ على أصالتها وبقائها ونقائها سببٌ لنجاح مُخرجاتها، وإذا ضعفَ التعليمُ وحِلَق العلم واخترقت من المفسد والمتطرف فذلك سببٌ للتصنيف والإقصاء وثقافة الكراهية والغلوّ والإلحاد، وسببٌ للمتربّص بالوطن وشبابه لنشر سمومه من فكرٍ ضالٍ، وخلق ضار، وموالاةٍ للعدوِّ، وجفاءٍ للصديق.
وهنا يأتي دور المجتمع ورجالاته ومؤسساته بالمشاركة في تطوير برامج التعليم وأهدافه، وعقد الشراكات المجتمعيّة من رجال الأعمال لإنجاحه.
يجبُ أن نهتمَّ بتوفير بيئةٍ دراسيةٍ مشجعةٍ، وطريقةٍ علميةٍ نافعةٍ، تجعل من الطلبة مقبلين بشغفٍ ورغبةٍ للتعلّمِ والمعرفة، أسوةً بغيرنا ممن نأخذ منهم ما ناسب التعليمَ، ونحسّنه، مع محافظةٍ على ثوابت الدين والخلق.
ونحن لدينا -بحمد الله- كوادر علمية نفخر بها، وإنتاجٌ تعليمي نفاخر فيه، وموهوبون نريد العنايةَ بهم وإبرازهم؛ ليصبحوا قدوةً لزملائهم.
لدينا براءاتُ اختراعٍ وشهادات وعقول شهد لها غيرُنا أكثرَ منا، ونال أبناؤنا وبناتنا الجوائز العالمية على تميّزهم، هؤلاء من ينبغي أن نحتفي بهم ونصرف لهم الجوائز في مدارسنا التي تحوي أثمن ما تملكه الأمة، وتحتضنُ فلذاتِ الأكباد ورجالَ الغد وجيلَ المستقبل، إنّها ثروةٌ تتضاءل أمامها كنوز الأرض جميعاً.
إن ما يضرُّ التعليمَ وطلبتَهَ إهمالُهم بعدم الرعاية المناسبة من إدارةٍ ومدرسةٍ وأسرةٍ مسؤولين عنهم وعن الرعاية بهم.
وإذا حُفظت العقولُ والأخلاقُ، وأحيطَ التعليم بسياج الدين، ورباط العقيدة الوثيق، والفهم العميق؛ فلسوف تصحُّ المناهج، وينفع العلم، وتثبتُ الأصالة، ويتضحُ السبيلُ، وترتفع الراية، ويحصل التمكين: (قلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَاب) [الزمر:9].
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: إن نجاح المجتمعات والدول يبدأ من التعليم وطريقته، نجاحٌ ليسَ بعدد الشهادات، ولكن بطريقة فهم المعلومات، والمسؤول عن ذلك أولاً وأخيراً المُعلِّم، نعم، المعلم إذا فهم دوره وقام به! فإذا أردت ديناً قائماً، وخُلقاً ماثلاً، وسياسة ناجحة، ودولة مستقرة، وأمناً فكرياً، ونجاحاً اقتصادياً؛ فابدأ بالمعلّم الذي يستطيع -بتوفيق الله- إعدادَ الجيل لذلك.
يحدثنا التاريخ -مثلاً- عن معلم كابن حنبل حافظ على ثوابت دين الأمة، وكذلك ابن تيمية الذي أحيا العقيدة والسنة، ومحمد بن عبد الوهاب، وعبد الحميد بن باديس، وعمر المختار، وعبد الكريم الخطابي، كان عملهم التدريس والتعليم، وغيرهم من علماء قديماً وحديثاً ممن كان لهم دور عظيم في نهضة بلدانهم وحمايتها من فسادٍ واستعمار.
وقبلهم وقدوتهم هو المعلم الأول محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي ربّى صحابته وعلّمهم كما علّمه الله ما لم يكن يعلم.
إذاً؛ أنت -أيها المعلم- حصن التعليم، ومبتدؤه، ومنتهاه؛ دع عنك العوائق والتصاريف، ابذل الجهد واقرنه مع نيّة خالصة لله في إعداد الأجيال وتربيتها، وأمن الأوطان وحمايتها، وابشر بالخير والنجاح، وفقك الله وحماك، وسهّل أمرك ورعاك.
اللهم اكتب لنا نجاح المقاصد والجهود، وجنبنا الفتن والفساد والجحود، وامنن على بلادنا وبلاد المسلمين بالأمن والإيمان، والسلام والاطمئنان.