القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - فقه النوازل |
كانت الأمة موحَّدة في ظل خلافة مريضة معتلة، لكنها خلافةٌ شَبَحٌ، والشبح -أحيانا- في الحقول ربما منع الطير المتلصِّص! كانت الخلافة شبحا، ولكن هذه الخلافة وقفت دهرا ضد الاستعمار العالمي، وبوسائلها الضعيفة قدرت على أن تصنع شيئا، فكان هدف الصليبية والصهيونية معا ضرب دولة الخلافة ضربا يجئ إلى صميمها فينال منه شر منال ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن المسلمين يعلمون أن القرآن الكريم لم ينزل جملة واحدة، وإنما نزل مُجزَّأً، وقد أفادت تجزئته هذه في معالجة قضايا متجددة، ورد شبهات مثارة، ومواجهة أحداث تكترث لها الأمة.
ولعل سورة آل عمران مثَل لنزول القرآن مجزأ يناسب ما تواجهه الأمة من أحداث، وما يلابسها من حرب أو سلام؛ وقد قلنا: إن النصف الأول من السورة تعرض لأهل الكتاب، أو تواجه الحرب الباردة التي شنوها على الإسلام، والتي لــمَّا تتحول بعدُ إلى حرب دامية.
أما النصف الأخير من السورة فإنه واجه المشركين الذين لم يكفهم أن أخرجوا الإسلام من وطنه الأول في مكة حتى أرادوا متابعته حيث استقر كي ينالوا منه، ويجهزوا عليه، فتحولت حربهم الباردة الأولى إلى حرب ساخنة مدمرة.
كان المسلمون يواجهون هذه القوى المعتدية الباغية التي انتشرت على جبهات عريضة تريد أن تنال من الإسلام، وأن تضع العقبات في طريقه، بل تريد أن تجتث جذوره، وأن تطفئ نوره.
فكانت العلاقة بين أول السورة وآخرها هي أن المسلمين ينبغي أن يواجهوا تلك القوى كلها في لحظات واحدة، ومفتاح هذا من قوله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران:186].
كان الأمر بالنسبة لأهل الكتاب أمر مناقشات عقلية كان للإسلام فيها الفوز، وله الغلب؛ لأن ديننا يعتمد في حواره على المنطق السديد، والفكر الناضج، والعلم الصادق، وما يبارَى في هذه المجالات جمعاء.
إلا أنه فيما يتصل بأهل الكتاب فقد أمرنا الله أن نعامل أهل الكتاب معاملة معتدلة، وألا نجادلهم في شئون الدين إلا إذا بدؤوا ذلك، فليكن جدالنا لهم حسنا، وقد زاد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا أنه أوصى المسلمين ألا يفضِّلوه على موسى أو عيسى أو أحد من الأنبياء السابقين، ومع أنه -يقينا- أعلى الرسل قدرا؛ لأنه أوسعهم رسالة، وأعلاهم درجة، إلا أنه أبى أن يُذكر بهذا الفضل، وقال: لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونسَ بنِ متَّى، ويونس هو النبي الذي ترك بلده ضائقا بمواقف الكفار فيها، سأمان من المواقف الرديئة التي شعر بها، فكان أن التقمه الحوت وهو مولٍّ عن بلده ما يؤدي واجبه، قال تعالى لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) [القلم:48-49].
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كره أن يفضل على يونس بن متَّى، وهذا تواضع منه لله، أولا وثانيا رغبةً في إطفاء الفتن، ومنعا للمسلمين أن يحرجوا اليهود أو النصارى بتفضيله على أنبيائهم. فهل ارعوى أهل الكتاب لهذا المسلك، وتأدبوا مع المسلمين، وقدَّروا هذه المواقف النبيلة؟!لم يقع هذ!.
والسبب أن المسلمين يؤمنون بأنبيائهم، ويصدقون برسالتهم، وهؤلاء لا يؤمنون بنبينا، ولا يصدقون برسالته، والمسلمون لا يرون حرجا في أن يبقى أهل الكتاب على عقائدهم، وأن يجمع الكلَّ وطنٌ مشترك، أما أهل الكتاب فكانوا يرون حرجا في أن يبقى المسلمون على توحيدهم، وقرآنهم، ونبوتهم، ورسالتهم الجديدة.
هذا المعنى جعل موقف المسلمين –كما لابد أن يكون- دقيقا؛ ولذلك أمرهم الله بأن يكونوا من أهل الكتاب على حذر، فليحسنوا إليهم، ولكن لا ينبغي أن يستعينوا بهم في شؤون السياسة الإسلامية، أو أن يطلعوهم على خباياها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران:118-119].
هذه التعاليم قُصد بها أن تستطيع الأمة الإسلامية السير دون عائق، ودون مؤامرات داخلية، ودون أن تشعر بغش يتخلل كيانها ويسئ إليها؛ وبدأ المسلمون فعلا يتجمعون على هذا الأساس، ويبنون وحدتهم على ذلك الهدف الواضح؛ بيد أن أهل الكتاب بيَّتوا أمرا هو أن يبذلوا الجهود مستميتة لجعل الفُرقة تدب بين المسلمين، فهم يشعرون بأن المسلمين إذا قامت لهم وحدة فإن وحدتهم ستُنجح رسالتهم، وتوصل مبادئهم، وتجعلهم يدا واحدة على من سواهم، فلا يمكن أن يغلبوا.
حاول اليهود ذلك في "المدينة" عندما نظروا فوجدوا أن المهاجرين من "مكة"، وأن رجال "الأوس" ورجال "الخرزج" الذين أكلت العداوات قلوبهم قديما قد أصبحوا أنصار الله، ثم أصبح الأنصار والمهاجرون جميعا إخوة.
كان اليهود يشتغلون بالربا بينهم، وببيع السلاح لهم، كانوا ينتفعون بالعداوات المهتاجة التي تثير هؤلاء على أولئك، وتجعل الدم لا يجف من بيوتهم! إذن، لابد من تمزيق هذه الوحدة، وحاولوها- فعلا- وكادوا ينجحون لولا أن تدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأطفأ الفتنة في مهدها، ونزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ? وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [100-101].
فعرف المسلمون أنها نزغة شيطان كادت تحطم كيانهم، وتضيع يومهم وغدهم، وتغضب عليهم ربهم، وتردهم إلى الجاهلية التي خلصوا من شرورها؛ وعرفوا أن الله شرفهم بهذا الدين ليكونوا به أمة خير، وليكونوا حراسا على تعاليمه، وليكونوا أساتذة للإنسانية كلها، بما أودع الله في هذه التعاليم من حق وبر؛ ولذلك حددت وظيفة هذه الأمة في سورة آل عمران بقول الله جل شأنه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ? وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104].
وأشار إلى أن أهل الكتاب الأولين قد فسدت تعاليم السماء بين أيديهم؛ فأصبح القبيح لديهم حسنا، والحسن لديهم قبيحا، والتوحيد شركا، وفهْم الألوهية غلطا، فنبههم إلى أنه ما يجوز للأمة الإسلامية أن تقع في ما وقع فيه أهل الكتاب. قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105]، وأكد رسالة الأمة الإسلامية فقال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران:110].
لكن أهل الكتاب ما نسوا أن كيانهم أو نجاحهم ضد الإسلام إنما يتم بتمزيق الوحدة الإسلامية؛ فدأبوا على ذلك، واستطاعوا على مر الزمن أن يحدثوا فتوقا بيننا، لكن هذه الفتوق سرعان ما تندمل جراحاتها، وتعود الأمة إلى وعيها، وتستأنف باسم الله مسيرتها؛ إلا أن النكبة الكبرى التي أصابت الأمة الإسلامية في القرن الرابع عشر للهجرة كانت فوق الظنون، كانت نكبة جائحة تركت آثارا سُوداً إلى يوم الناس هذا في مستقبل الأمة الإسلامية؛ ذلك أن الدسائس الصليبية واليهودية تلاقت في هذا القرن الحزين الجريح على أمتنا.
كانت الأمة موحَّدة في ظل خلافة مريضة معتلة، لكنها خلافةٌ شَبَحٌ، والشبح -أحيانا- في الحقول ربما منع الطير المتلصِّص! كانت الخلافة شبحا، ولكن هذه الخلافة وقفت دهرا ضد الاستعمار العالمي، وبوسائلها الضعيفة قدرت على أن تصنع شيئا، فكان هدف الصليبية والصهيونية معا ضرب دولة الخلافة ضربا يجئ إلى صميمها فينال منه شر منال، واتصل الإنكليز- فعلا- بالعرب عن طريق "الشريف حسين"، والإنكليز ما كانوا مخلصين للقرآن أو السنة، ما كانوا -ولن يكونوا- مخلصين لأهل البيت، ما كانوا -ولن يكونوا- رحماء بالإسلام وأمته، لكن الرجل الطامع الأناني اتفق مع الإنكليز على ضرب الأتراك.
كان الأتراك ظلَمَةً فعلا، وكان العرب خوَنَةً فعلا، وكانت النتيجة أن ذبح العرب الأتراك في الحرمين! وهُزم الأتراك هزيمة منكرة بسبب خيانة العرب لهم، والعرب يقولون: خُنَّاهم لأنهم ظلمونا! على كل حال، الذي كسب المعركة الكفرُ والإلحاد؛ وكانت النتيجة أن الأمة العربية سقطت خلافتها الشبح، وانقسم بعضها بعد ذلك كما ينقطع حبل السبحة فتنتثر مائة حبة أو ثلاثين حبة حسب ما فيها من حبات!.
انتثرت -فعلا- الخيوط التي تجمع الأمة الإسلامية، وأصبحت هذه الأمة لا يعرف بعضها الآخر! ولو سألت أي مثقف في الجامعة الآن: أتعرف أن في "توجو" مسلمين يمثلون أكثر الدولة؟ لقال لك: ما "توجو"؟ ما "ملاوي"؟. دول إسلامية، لكنه لا يدرى، ما يدرى أحد عن الإسلام في "أفريقيا" شيئا، ما يدرى أحد عن الإسلام في "آسيا" شيئا، ما يدرى أحد أن المسلمين الآن يبلغون ثمانمائة مليون في العالم، وحرب الإحصاءات -وهى حرب خبيثة- جعلت المسلمين أنفسَهم ما يعرفون عددهم!.
وقد قلت -بناء عن إحصاءات دقيقة من مصادرَ أمريكيةٍ-: إن المسلمين الآن في "الحبشة" نحو70%، ولكن الكثرة المسلمة مسحوقة، والمسجد في "أديس أبابا" تحيط به بيوت البغايا! هذا التمزيق جعل الأمة مُجَهَّلَةً في كيانها، ولكن على رأس مَن يقع وزر هذا الجهل؟ الحقُّ يقال: إنه يقع على الأمة العربية. لماذا؟ لأن "العرب هم دماغ الإسلام وقلبه"، احفظوا هذا التعبير.
ما دام القرآن عربيا، وما دامت السنة عربية، وما دامت الثقافة الإسلامية عربية، وما دامت الكعبة -قبلة المسلمين- في بلاد عربية، فمعنى ذلك أن الجنس العربي- بلغته ودينه- هو المسؤول عن العالم الإسلامي كله!.
وعرف الاستعمار هذا، وأدرك أن العرب إذا استيقظوا باسم الإسلام تجمع الثمانمائة مليون مسلم في وحدة كبرى، فماذا يصنع؟ اجتهد في أن يُبعد العرب عن الإسلام، ونجحت جهوده، وأذكر لكم مثلا وحيدا من عشرات الأمثلة التي أعرفها، وربما كتبتها يوما: "قبرص" بلد إسلامي، فتحه المسلمون بعد أن فتحوا "مصر"، فعُمر الإسلام في "قبرص" يقل عشر سنين عن عمر الإسلام في "مصر"؛ لأن "مصر" حررت من الاستعمار الروماني في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وحررت "قبرص" من الاستعمار الروماني في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه.
ولرواة السنة الشريفة قصة لـ "قبرص" هذه، أحب أن تعرف: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال:" كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأطعمته، وجعلت تفلي رأسه، فنام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم استيقظ وهو يضحك. قالت: فقلت: وما يضحكك يارسول الله؟ قال: ناس من أمَّتي عُرِضُوا عليَّ غُزاةً في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكا على الأسِرَّة -أو مثل الملوك على الأسرة-. قالت: فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم. فدعا لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثم وضع رأسه، ثم استيقظ وهو يضحك. ففلت: وما يضحكك يا رسول الله، قال ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله -كما قال في الأول-. قالت: فقلت يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم. قال: أنت من الأولين. فركبت البحر في زمان معاوية بن أبى سفيان، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت".
فلْننظر كيف حقَّقت الأيام رؤيا نبينا -صلى الله عليه وسلم-؟ ومَن الملوك الذين يركبون أمواج البحر؟ وماذا صنعوا؟ قال التاريخ: كان المسلمون في حربٍ مع دولة الرومان، ودولة الرومان هي السبب في هذه المعارك، لأنها قتلت رسل النبي -صلى الله عليه وسلم-، واشتبكت مع المسلمين على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- نفسه في حروب كانت تريد بها القضاء على الإسلام.
دولة الرومان دولة استعمارية عجوز هزمت المسلمين في "مؤتة"، وانسحبت دون قتال في "تبوك "، فكان على المسلمين أن يواجهوا الموقف، وواجهوه واحتلوا "الشام" بعد أن حرروها من الرومان، واحتلوا "مصر" بعد أن حرروها، وكانت مستعمرة ذليلة وضعيفة داخل النطاق الروماني الذي أكلها ماديا ومعنويا، فكان دخول الإسلام في "مصر" إحياء لها، ومضى القتال في طريقه بعد وفاة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وشرع عثمان بن عفان -رضي الله تعالى عنه- يؤدى دوره، وكان يعلم أن رأس الأفعى في "القسطنطينية".
يقول التاريخ: ذهب عبادة بن الصامت- رضي الله عنه-، وذهبت معه زوجه أم حرام بنت ملحان، وقاتلوا في "قبرص"، إلا أن المرأة أدركتها الوفاة في "قبرص" فماتت فيها، ويعرف قبرها -إلى الآن- بقبر المرأة الصالحة! فماذا حدث لقبرص بعد ثلاثة عشر قرنا من امتلائها بالإسلام؟ عندما هاجم الإنكليز "مصر" واحتلوها احتلوا "قبرص"، كيف؟ كانت "تركيا " موجودة، ودولة الخلافة قائمة، لكنها دولة ضعيفة، فاتفق الإنكليز مع الأتراك الذين يحكمون "قبرص"، وكانوا يحكمون "قبرص" لأنها كانت تتبع "الشام"، والمحافظ في "الإسكندرونة" أو "أنطاكية" -وكانت هذه ولاية شامية- هو الذي يتولى شؤون "قبرص"؛ لأنها قريبة من الساحل السوري، ففرض الإنكليز على الدولة العثمانية أن يقيموا قاعدة لهم في "قبرص"، وأقاموا القاعدة، ورفض السكان المسلمون أن يعاونوا الإنكليز، فماذا صنع الإنكليز؟.
بدؤوا يستأجرون عمالا يونانيين، فكان مجيء العمال اليونانيين أول الوجود اليوناني في "قبرص،" وبدؤوا يكثرون، فماذا حدث؟ قرر اليونانيون أن يأخذوا "قبرص" من الإسلام ودولته! أكانت "قبرص" في تاريخها الماضي السحيق تتبع اليونان يوما؟ لا. يقول التاريخ: ما كانت "قبرص" تتبع اليونان يوما من الأيام، فماذا حدث؟ المؤامرات العالمية التي أرادت أن تضرب الإسلام جعلت العرب يؤيدون "قبرص" اليونانية ضد " قبرص " الإسلامية!.
هذا ما حدث! أننا -مُضِيَّاً منا في محاربة الأتراك المسلمين- قررنا أن ننضم إلى "مكاريوس" واليونان ضد الأتراك المسلمين! ما هذا؟ بلغت الوقاحة بالسياسة الاستعمارية العالمية أن أوعزت لمنفذيها أن يستقدموا "مكاريوس" إلى "القاهرة"، وأن يزور إدارة "الأزهر"، ليُقال إن الأزهر مع اليونانيين القبارصة ضد المسلمين القبارصة!.
العرب، إذا قرروا محاربة الإسلام، فإن الله عز وجل لا بد أن يذلهم، وأن يخزيهم، وأن يُسوِّد بالهزائم وجوهَهم، وأن يجعل الدنيا تسخر منهم؛ لقد قلت: إن العداوات التي تعمل ضد الإسلام كثيرة.
العالم الإسلامي يمتد على رقعة بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادي، أكبر رقعة في تجمعات البشرية، ثمانمائة مليون مسلم يملكون أحشاء العالم بين أصابعهم، يملكون ممراته الكبرى، يملكون طاقاته الموجهة، ما يشكو العرب أو المسلمون فقرا! لكن الذي حدث أن الهجوم على الإسلام بدأ بعد تدويخ الفكر العربي، فإذا المسلمون في آسيا يؤخذون أخذا في ظل "روسيا القيصرية"، ثم في ظل "روسيا الشيوعية"!.
البلاد التي أنجبت الإمام "البخاري" والإمام "مسلم"، وأنجبت"فخر الدين الرازي"، وأنجبت "جار الله الزمخشري"، وأنجبت خدم القرآن في باب الإعجاز واللغة: "سيبويه" و "الجرجاني" و"السكاكي" وغيرهم وغيرهم من علماء الدين واللغة، البلاد التي أنجبت أولئك العمالقة ليست عليها الآن راية تقول: لا إله إلا الله! الراية التي عليها راية كافرة ملحدة تنكر الألوهية أصلا!.
أما المسلمون في " الهند" فيعلم الله كم يعانون! المسلمون في "باكستان"، المسلمون في بقية الأرض الأفريقية والأسيوية ممزقون! أتدرون مَن يجمعهم كلهم؟ العرب! العرب إذا رجعوا إلى الإسلام؛ أتدرون من يجمع شمل العرب؟ "مصر"، إذا تمسكت بالإسلام.
نحن أثناء قراءاتنا لسورة آل عمران عندما نتأمل قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104]، وعندما نتأمل قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران:110]، ندرك أن المكلَّف بهذا الكلام ابتداءً الذين يعرفون اللسان العربى!.
المسلم الهندي مسكين ما يعرف العربية، المسلم الزنجي مسكين ما يعرف العربية، المسلم التركي مسكين ما يعرف العربية؛ فإذا جاء حكم عربي وقرر أن يحارب التجمعات الإسلامية، أو يقف لها بالمرصاد، أو أن يطعن في نيات أصحابها؛ فإن هذا إنما يخدم الذين يريدون الإجهاز على الإسلام، والنَّيْل منه.
إن أشياء كثيرة يجب أن تعرف، وأن تُنقد؛ من أسوأ ما أصاب الأمة الإسلامية في القاهرة -والقاهرة هي العاصمة الثقافية للعالم الإسلامي- أن الجهاز الذي كلف برعاية العقيدة واللغة وحراسة الآداب العربية أصابه عطب! إنه لَمِن المحزن أن أعلم أنه في يوم الأربعاء الماضي أقامت كلية اللغة العربية في الأزهر حفلا مثلت فيه رواية "الصديقين"، والرواية فيلم هندي! ولا أدرى ما الذي يجعل كلية من كليات الأزهر تشغل نفسها بتمثيل فيلم هندي؟
لا أدرى السبب، ولكن الذي أدريه أن اللغة العربية منكوبة، وأنها مهددة في يومها ومستقبلها، وأن من عجائب الزمن أن كلية دار العلوم أرسلت مبعوثا لها إلى "لندن" كي يدرس فقه اللغة في "لندن"! في هذه السنة يقع هذا، سبحان الله! أين كلية اللغة العربية؟ مشغولة بتمثيل فيلم هندي! أين فقه اللغة؟ لا تدرى عنه شيئا.
لو كان لفقه اللغة أساتذة ما أرسلت "دار العلوم" إلى "لندن" مبعوثا يتعلم فقه اللغة هنالك، وهل "لندن" تُعلم فقه اللغة؟ هذا عجب! والأعجب من هذا أن "الأزهر" -في كلية البنات- أرسل فتاة لتتعلم الفلسفة الإسلامية في "لندن"! إننا ورثنا مجتمعا ظل جبانا في نقد الحكومات وأجهزة الحكومة، ظل جبانا؛ لأن الناقد كان يُعتقل أو يُسجن أو يُضرب أو يُهان! وجنت الأمة العربية في مصر ثمرات هذا الجبن أن أذلَّها الله، ومكَّنَ العدو منها، ثم بدأنا نتوب ونتراجع ونأخذ طريقنا إلى ربنا صحيحا.
فلنعلم أن العقلية الخربة التي ظلت عشرين سنة تعبث لا تزال موجودة، وأن هذه التصرفات يجب أن تطارد، وإلا فلسنا أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
ما معنى أن يرسل " الأزهر" فتاة تتعلم الفلسفة الإسلامية في "لندن"؟ أو ترسل "دار العلوم" شخصا يتعلم فقه اللغة في "لندن"؟ إننا بدل أن نحس العار والخزي جئنا برواية فيلم هندي نمثله في كلية اللغة العربية! هؤلاء الناس يظنون أن التقدم في مخاصمة الإسلام، وأن المدنية في مخاصمة اللغة العربية والقرآن الكريم والسنة النبوية.
إنني أعلم أن بعض الذين حملوا الدكتوراه من العواصم الأجنبية لا يساوون شيئا! وأن الورق الذي يؤخذ من "لندن" أو "باريس" ورق مزور! إنني أقول هذا لأداوى عقدة الوضاعة في نفوس المثقفين عندنا.
لنعد في "مصر" إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ومناصرة الإسلام، وتصحيح الأجهزة المسئولة عنه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، ومن باب إحقاق الحق، وتقدير الناس، أذكر لكم أن الأخ الجليل مدير مكتب الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر اتصل بي، وقال لي: إن الإمام الأكبر اعترض الرواية أو الحفلة الماجنة التي ندَّدْتُ بها في الأسبوع الماضي، وأنه طلب معاقبة المسؤولين عن وضع برامجها.
إنني أريد أن أقرر هذا، وأقرر معه -أيضا- أن الإمام الأكبر رجل فيه خير كثير؛ لأنه هو الذي أوقفني هذا الموقف، وهو الذي جاء بي إلى هذا المسجد، وهو الذي رأى أن يعمر بعد خراب، وهو الذي تفاءل خيرا في أن المسلمين سوف يحتشدون هنا -لا حول شخص- حول فكرةِ أن الإسلام يجب أن تعلو رايته، وأن تنتصر جبهته، وأن يثوب إليه الذين ابتعدوا عنه، وخافوا من الانتساب إليه.
جزاه الله خيرا على هذا كله؛ هذه واحدة. وواحدة أخرى أرى نفسي ملزما بها: إن هذا المسجد بذل من أجله وعانى في تعميره السيد الكريم محافظ القاهرة، والرجل الآن مريض، نقل من مكتبه مريضا، أظن أن واجب الوفاء يفرض على المسلمين في هذا المسجد أن يسألوا الله له العافية، نحن نسأل الله من قلوبنا أن يصحح له بدنه وروحه، وأن يسبغ عليه ثوب العافية، وأن يرده إلى عمله في خدمة هذا المسجد، وخدمة الإسلام، وأن يجعله مثَلا صالحا لإخوانه المحافظين؛ كي يؤدوا واجبهم لخدمة هذا الدين العزيز.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].