الإله
(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...
العربية
المؤلف | عبد البديع أبو هاشم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - التاريخ وتقويم البلدان |
هذه السورة من السور المكية التي نزلت قبل الهجرة، وكان نزولها في حدود العام العاشر بعد البعثة، أي قبل الهجرة النبوية بثلاث سنوات تقريبا؛ كان النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قد خرج إلى مكان معروف في مكة اسمه: "سوق عكاظ" مثل ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، نحمده -سبحانه وتعالى- ونستعينه، ونتوب إليه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ به -سبحانه- من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن نبينا عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلوات ربي وسلامه على نبي الرحمة، ورسول الهدى نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
اليوم مع "سورة الجن" والتي يسبقها "سورة نوح"، ولنر الترابط بين السورتين: أن هذه الأمة كما قيل للأمم قبلها منذ زمن نوح لو أنها استقامت على أمر ربها وعلى هدي رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا) [الجن: 16]، (يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا) [نوح: 11]، والباقي معروف، وإذا نزل الماء الكثير على أرض جزيرة العرب إنهم يفرحون لهذا، ويقيمون الأفراح والأعراس حين يستبشرون بالغمام، وينعمون بالمطر والغيث، ويصلون لذلك صلوات الاستسقاء لينزل الله عليهم المطر، فهذا فرح عظيم، وانتعاش للحياة كلها أن ينزل الله عليهم من السماء ماء غدقا، فالسورتان تؤكدان على أن صلاح الحال بيننا وبين الله إنما هو سبب مباشر لإيجاد حياة رغدة منتعشة آمنة مطمئنة طيبة، وبخلاف ذلك لا توجد هذه الحياة.
وهكذا تنتظم السورتان في خط واحد بعد "سورة المعارج" لتنتهي "سورة الجن" بما انتهت به "سورة المعارج" من وعيد لهذه الأمة لكفارها: (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا * حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا) [الجن: 23 - 24]، كان يعايرون المؤمنين في مكة بأنهم قلة وضعاف، لكن الله يقول لهم: لو نزل أمر الله ستعلمون فعلا سواء في الدنيا أو في الآخرة (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا) [الجن: 24].
إذاً، تسلسلت السور -أحبتي الكرام- بهذا الترتيب الغاية في الإحكام من الله الملك العلام -سبحانه وتعالى-، فهو الذي رتب السور هكذا في مصحف القرآن، وتأتي لنا "سورة الجن" بهذا الاسم الذي أطلقه الله -تعالى- على أمة الجن وعلى كل شيء خفي يخفى ولا تراه العيون، فإنه يقال له: جن، جنياً، جنة، كل هذه الكلمات مأخوذة من الجن، وهو الاختفاء تطلق هذه الكلمة بتقدير الله وترتيبه اسما وعلما على هذه السورة؛ لأنها تقص علينا تلك القصة العجيبة وهي إيمان الجن.
وما كان يحدث من خبر الجن قبل مجيء النبي -صلى الله عليه وسلَم- بمجرد بعثته عليه الصلاة والسلام، حيث أن كل ما خفي فإنه قد جن، بمعنى أن الجنين في بطن أمه لا يرى وبالتالي سمي: جنينا، والليل يظلم الدنيا فلا ترى الأشياء فيقال: جن عليه الليل، أي أظلمه وأخفى الأشياء عن رؤية البشر، والجنون هو إخفاء العقل عن التحكم في البدن، فيتصرف البدن وحده، ولا يتلقى الإشارات من العقل ولا التوجيهات.
فإخفاء العقل كتغيب الملك عن المملكة تلك الخمر والمخدرات التي تغتال العقل عن منصة حكم البدن، هذا يسمى: جنونا، والجن والجنة اسم للأمة المعروفة معنا في هذه الأرض من خلق الله؛ لأنها تخفى عن أعيننا يرونا ولا نراهم: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف: 27]، إنه الشيطان، يرونكم (وَقَبِيلُهُ)، يرون الإنس، إبليس (وَقَبِيلُهُ) أي وقبيلته وجنسه، وأمة الجن كلها: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف: 27]، فسميت: أمة الجن.
وهكذا كل شيء يستر يقال له بهذه الكلمة حتى سميت الحديقة الغناء الخضراء الجميلة كثيفة الأغصان كثيرة الأشجار، يقال له: "جنة"؛ لأنها تكاد تجن العقل من جمالها وروعتها فتفصله عن بدنه، فلا يحكمه؛ أو لأنها تغطي ما بداخلها أشجارها لفت حولها كالسور المانع الذي يمنع من خارجها أن يرى ما بداخلها فسميت: "جنة".
حول هذا المعنى تدور هذه اللفظة بعدة عبارات، ومنها: أمة الجن، وسورة الجن، والجن خلق مثلنا أمة مثلنا لهم حدود في خلقهم أعمارهم محدودة، فيمتون عافيتهم، وقدراتهم محدودة فيمرضون، علومهم محدودة فيعرفون ويجهلون، ليست لهم طلاقة قدرة ولا طلاقة علم، ولا يعلمون شيئا من الغيب إلا بعض ما غاب عنا قد يعلموه هم، وقد نعلم علوما لا يعلمونها.
وهب الله كل أمة مواهب من عنده لكن لخفة حركتهم أوسع من حركتنا، فإنهم قد يعلمون شيئا لا نعلمه.
هذه السورة من السور المكية التي نزلت قبل الهجرة، وكان نزولها في حدود العام العاشر بعد البعثة، أي قبل الهجرة النبوية بثلاث سنوات تقريبا؛ كان النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قد خرج إلى مكان معروف في مكة اسمه: "سوق عكاظ" مثل ملعب الكرة عندنا مع الفارق الكبير، ف "سوق عكاظ" لا يباع فيه خضار ولا فواكهه ولا تلعب فيه كرة، إنما يجتمع فيه الفصحاء والبلغاء والعرب ليشاهدوا تلك المباراة العظيمة بالألسنة بكلام يسمى: "علم الأدب" في أيامنا هذا، هذا يقول قصيدة، وذاك يقول قصيدة، مسابقة، وتفوز القصيدة الرائجة، ويأخذ صاحبها جائزة، وربما علقت تلك القصيدة على جدار الكعبة تعظيما وتكريما لها ولصاحبها.
ذهب النبي -صلى الله عليه وسلمَ- إلى هذا المكان وليس خصوص السوق، فما كان شاعرا، ولا يجلس مع الشعراء لكثرة كذبهم، وفي الطريق بات في مكان، وصلى بأصحابه صلاة الفجر، وفي صلاة الفجر قرأ "سورة الرحمن"، وفي ذلك الوقت كان قد حدث في الكون حدثا ضخما هائلا عظيما لم يعلم به إلا الجن، أما الإنس فلا دراية لهم لا مسلمون ولا كافرون، فانطلق الجن في الأرض تبحث عن سبب هذا الحدث، وكانت أمة منهم طيبة نفر منهم صالحون، ولكن أخذهم تيار الإجرام، تيار الانحراف خدعهم إبليس واستخفهم، فساروا في ركبه، لكن قلوبهم يعلم الله فيها خيرا فلما جاء الحق صرفهم الله إلى ذلك الحق وهم في طريقهم يبحثون عن غايتهم سمعوا من يقرأ كلاما جديدا ما يعرفون عنه شيئا، فلما حضروه قالوا: (انصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ) [الأحقاف: 29 - 30] بمجرد سماعه مرة واحدة، وسورة واحدة، علموا أن هذا كتاب مُنزل من عند الله لم يوجه إليهم بقراءة وإذاعة موجهة، وخطاب مباشر، ولكن سمعوه يُقرأ في صلاة قراءة عارضة إلا أنهم أدركوا حقيقته، وذلك من خفاء نفوسهم، ومن أدبهم: أنهم لما (حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا) [الأحقاف: 29]، فانصتوا، فعلموا، فرجعوا لقومهم بسرعة أخبروهم الخبر الجديد الذي أنساهم الحدث الذي يبحثون عن أسبابه: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى) [الأحقاف: 30]؛ لأن رسالة بني إسرائيل أصلها موسى ورسولها موسى، وأصل كتابها التوراة، لكن لما كفر بنو إسرائيل وعبدوا العجل حرمهم الله من لوح من ألواح التوراة، وهو لوح المواعظ، ومضى تاريخ بني إسرائيل على ذلك بموسى وهارون، وبالأنبياء من بعده نبي بعد نبي حتى جاء زمان عيسى -عليه السلام-، فأنزل الله عليه لوح الإنجيل الذي كان قد مسح من التوراة ومحي منها؛ لأن الله أراد أن يفتن أمة بني إسرائيل، وأن ينهي رسالتها، فكان كتاب الأنبياء فيهم سيدنا عيسى -عليه السلام-، وأنزل عليه الإنجيل الذي محي من التوراة فصار بذلك الكتاب، وبذلك الإنجيل رسولا -عليه سلام الله-.
وبعيسى انتهت رسالة بني إسرائيل، ولذلك قالت الجن من بعد موسى: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) [الأحقاف: 30 - 31]، صاروا دعاة إلى الدين بمجرد سماع السورة، درسا واحدا، ودرسا غير مقصود، سماع عارض، وصاروا به أئمة الدين، سبحان الله! كل ذلك والنبي -صلى الله عليه وسلمَ- لا يعلم بالخبر لا بخبر الحادث الأول الضخم، ولا علم له أيضا بسماع الجن، ولا لرجوعهم إلى قومهم، فأنزل الله عليه صلى الله عليه وسلمَ خبر هذا الحدث الأخير وسببه وهو الحدث الأول في هذه السورة.
واستفدنا لمن قرأ وتعلم ولمن أراد الاستفادة أيضا هذه السورة رغم قصرها في الإخبار عن أمة عظيمة طويلة عريضة: أمة الجن إلا أنها تعطينا صورة واضحة عامة تجعلنا نتعامل مع هذه الأمة بدون هذا الخوف والرعب الشديد الذي يحياه الناس، وباعتدال بعيدا عن هذا الإسراف أنهم يعلمون الغيب ويفعلون ما يشاؤون، وكذا.. وكذا.. إنما نلتزم في فهمنا وفي تصرفاتنا تلقائهم.
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) هكذا جاءت السورة، وهذا سياقها، قل يا نبي الله لأصحابك وللناس: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) [الجن: 1]، هذا أولا اعتراف الجن: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) عجيب لا أدري كيف لإنسان ذي عقل يترك القرآن، ويسمع الأغاني والموسيقى؟!
الجن قالوا: (قُرْآنًا عَجَبًا) في أي شيء؟ في كل شيء، في نظمه، في صوته، في طربه، في جماله، رائع: (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) في أي طريق؟ في كل طريق تركها عامة: (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) [الجن: 2]، إذًا هذا اعتراف أنهم كانوا مشركين، ومن الذي أوقعهم في ذلك؟ كبيرهم وسفهيهم إبليس: (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) [الجن: 4]، لكن قبلها عظموا الله أولا: (وَأَنَّهُ تَعَالَى) أي تعاظم (جَدُّ رَبِّنَا) أي قوة وجاه ربنا، ليس كلمة: جد، قاصرة على أب الأب وأب الأم، إنما الجد من معانيها: القوة في لغة العرب، وتفهم حسب سياقها: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) أي تعاظمت قوته، وتقدست جانبه -سبحانه وتعالى-، (مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا) [الجن: 3]، من أين جئتم بهذا الكلام؟ (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) [الجن: 4]، أي قولا شططا، وهكذا وصفوا كبيرهم إبليس بماذا؟ بالسفه الذي وصف الله به المنافقين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 13]، ووصف الله به الكفار جميعا، فقال: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة: 130]، ووصف الله -تعالى- به أهل الكتاب، فقال: (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا) [البقرة: 142]، فالشيطان بأتباعه جميعا سفهاء، أما أنتم -يا مؤمنون- فقول الله فيكم: أنكم أولي الألباب: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) [آل عمران: 191] أنتم الذاكرون لله، إذاً أنتم أولي الألباب، ولا تصدقوا غير ذلك.
(وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) أي قولا شططا، (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) [الجن: 6]، كل هذه اقترافات، أي كان بعض رجال الإنس يستعيذون ويستجيرون ويطلبون الحماية والقوة من رجال من الجن، فما كان من الجن إلا أنهم يزيدونهم رهقا، ويتعبونهم أكثر، وكان العرب في أسفارهم في الجاهلية إذا أرادوا واديا يبتون فيه ليلتهم قام كبير المسافرين ونادى في الوادي قبل أن ينزلوا ينادي على الجن: يا كبير وعظيم هذا الوادي، نعوذ بك من سفهائك، يعني يا كبير الجن والشياطين ادفع عنا وأبعد عنا سفهاءك وقومك حتى نستريح هذه الليلة ونمر.
فتسمع الجن أن الإنس تستغيث بهم، وكانت الجن أصلا حين رأتهم قادمين صعدت إلى أعالي الجبال خوفا من الإنس، هذا خائف، وهذا خائف، فوجئ أحد الخائفين بأن الآخر يستعيذ به، ويستجير به، فامتلأ قوة، وانتفش نفشة، وقام يعبث بهذا الضعيف الخائف المستنجد، فزادوهم رهقا: (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا) [الجن: 7]، إبليس أيضا علمهم أنه لا بعث ولا شيء إنما هي دنيا وموت فقط.
هذا مختصر عن اعترافات الجن، وهي اعترافات خطيرة بينت حقيقة إبليس وكذبه على قومه، وأن كثيرا من الجن يعيشون في وهم وضلال، كما أن كثيرا من الإنس كذلك أعماهم سلطانيهم وكبرائهم كما استخف فرعون قومه فأطاعوه، والقصة متكررة في الجن والإنس على سواء.
ثم ذكر الله الحدث الخطير الذي لم تشعر به الإنس ولم يعلم به حتى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- حتى أوحى الله إليه، مما يدل على جهلنا وصغرنا في هذا الكون قد تحدث أحداث ضخمة فيما حولنا، ولا نشعر بها، فلا نظن أننا كبار، وأننا كل شيء، وأننا كذا وكذا، بل نحن خلق صغير في هذا الكون، وذكره الله على لسان الجن أنفسهم كأنه اعتراف منهم: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء) أي التمسنا الصعود إلى السماء، أي كما نلتمس من قبلنا، وكانت عادتنا كذلك يصعدون، والله يأذن بهذا إلى السماء الدنيا فيتسمعون على الملائكة، وهم يحدثون بعضهم بعضا بما أوحى الله به إليهم: أنا مكلف اليوم أن أفعل كذا، وهذا يقول: مكلف بكذا، كلفني الله بكذا، وأمرني الله بكذا، سيقولون بعض الأخبار من الملائكة والتي تحدث اليوم أو غد أو بعد غد، أو بعد أسبوع، أو ما إلى ذلك، وينزلون بها إلى الكهان في الأرض يحدثونهم بها، ومن يتصنت لا يسمع كل الكلام يسمع كلمة، ويضيع منه كلمات فيضيف هو من عنده على الكلمة التي سمعها، ويلقى الكلام كله إلى الكهان، والكهان يتكلم بكذب وهو لا يدري، والناس يرون كلمة صادقة في صفحة كاذبة يقولون: صدق في كذا. نعم، لكن كذب في كذا وكذا، لكنه صدق في كذا، ويتمسك الناس بالصدق الواحد، ويتغافلون عن الكذب الكثير الذي يأتي به الكهان.
(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) [الجن: 8]، فوجئوا بوابل من الشهب الحارقة تطاردهم حتى تنزلهم إلى الأرض، فلم يتمكنوا من الصعود رجعوا إلى كبرائهم في الأرض وأخبروهم بالخبر، قالوا: لا بد أن في الأمر شيئا انطلقوا في الأرض، فانظروا ماذا جرى، ما سبب هذه الحادثة، ما سبب هذا التحول؟!
فانطلقوا يبحثون عن سبب حجبهم عن الصعود إلى السماء فكما قلت كان منهم نفر، وهذا كثير من الناس جرفهم تيار الانحراف، وأخذهم تيار الضلال رأوا الناس يمشون هكذا، فمشوا معهم حتى تفرج عليهم، لكنهم لا يقصدون الشر ولا يحبونه ولا يميلون إليه حتى إذا ذكرهم الله بتذكرة أو هيأ لهم هداية انفتحت صدروهم، وانفرجت أساريرهم، وتركوا الضلال إلى الهدى، فكان منهم هؤلاء النفر من الجن؛ لذلك يقول الله -تعالى- في سورة الأحقاف: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا) [الأحقاف: 29]، الله -تعالى- هو الذي يوجه هذا النفر، مجموعة من الجن، طائفة، الله هو الذي صرفها، إنما الله -تعالى- هو الذي هيأ لهم أن سيروا في هذا الطريق، ليمروا على الحبيب على النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا) [الأحقاف: 29]، فاستمعوا إلى كلام لم يسمعوه من قبل، لكنه في نظمه في بدايته في رحماته يشبه ما سمعوه عن موسى -عليه السلام- فربط بينهما.
(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ) [الجن: 8 - 9] فيما مضى (فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ) يحكون ما حدث: (فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا * وَأَنَّا) [الجن: 9 - 10] اعتراف حقيقي، خلق له حدود: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) [الجن: 10]، هذا المنع الله أعلم منعنا من اختراق السمع في السماء أهو خير للناس في الأرض أو شر عليهم، نحن لا ندري الحكمة منها.
هذا اعتراف منهم بأن علومهم محدودة، وأنهم لا علم لهم بغير الله: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) [الجن: 11]، جماعات مختلفة: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ)، ظننا هنا بمعنى: اعتقدنا: (أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا) [الجن: 12]، أي من الأرض، لو بقينا في الأرض لن نغلب الله ولن نغلب الله بخروجنا من حدود الأرض، فالله قادر علينا في كل مكان: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى) يقصدون القرآن، ولكن سموه مباشرة: الهدى: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا * وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ) [الجن: 13 - 14] أي الكافرون (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) [الجن: 14] المسلم ذكي، عاقل، صاحب لب حي، قلب نابض، يحرر الشيء مما حوله، ويخلصه مما شابه، هذا حق أو باطل، هذا خير أو شر، هذا يأخذ أو لا يأخذ. يتحرى، فيتحرى قبل أن يفعل: (فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) تحروا للأمر فكان أمرهم إلى رشاد، وكانوا راشدين، أو تحروا للطريق الرشد، فوجدوه فسلكوه فسعدوا به، هذا أو ذاك كلاهما خير: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ)، "قاسطون" من قسط إذا ظلم، أما "المقسطون" فهي من أقسط يسقط إذا عدل، وهذا من دقة اللغة العربية: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة: 42]، (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) [الجن: 15] هم حطب جهنم ووقودها -والعياذ بالله-.
(وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي لو أنهم استقاموا على الطريقة التي شرعها الله لهم في سلوك سبل هذه الحياة، وإدارة هذه الحياة: (لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا) [الجن: 16]، وهذا هو بداية النعم، ومفتاح النعم: الغيث ينزل من السماء.
ولا يظن أحد أن هذا أمر في يده، أو أنه يستحقه، فوجب على الله -تعالى- أن يفعله، أو أنه منتهى الأمر ونهايته، هذا في الدنيا فقط: (لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [الجن: 16 - 17] نختبرهم به إن كانوا يشكرون أو يكفرون، فمن الناس من يقبل النعمة، ويقول: (هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي) [النمل: 40]، وآخر يأخذ ويقول: أنا أستحقها، ولولا أن الله راض عني ما أعطاني! ويفتن بالنعمة، وينسى ذكر المنعم -سبحانه وتعالى-.
(وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ) الشرع (يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) [الجن: 17] عذابا متصاعدا في النار -نسأل الله العفو والعافية-.
(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن: 18] أتت السورة لهذه الأمة بتوجيهات عظيمة: المساجد، العبادات، الخضوع، السجود لله وحده لا شريك له، فلا تدع في عبادتك وخاصة مع سجودك مع الله أحد، وفي الآية فقه واسع يخص المساجد، وأماكن الصلاة، وغير ذلك، لكن ذلك هو معناها الأعم: أن العبادات لا يخضع بها إلا إلى الله -سبحانه وتعالى-، فلا تدع مع الله أحدا تشركه معه في عبادتك له، فهذا لا يجوز.
(وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ) -صلى الله عليه وسلمَ- (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) [الجن: 19]، هذه الآية شملت تفسيرين: أن الجن لما سمعوا القرآن من رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- تلبدوا، واجتمعوا يستمعون هذا الكلام العظيم، فكانت حلاوة القرآن تجمعهم، فيتبلدون لبدا وجماعات، حول النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، وخاصة بعد ذلك حدث حديث بين النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وبين الجنة، وطلبوا منه أن يأتيهم يعلمهم في درس خاص بهم، وحدد لهم مكانا، وكان يأتيهم في وقت ومكان معين يعلمهم دين الله -تبارك وتعالى-، فيجلس في مكان ثم يأتون يجلسون حلوه لا يراهم لكنه يسمعهم ويكلمهم ويكلمونه ويرونه حتى ذهب ابن مسعود يوما مع النبي -عليه الصلاة والسلام- خوفا منه عليه، فحد له عليه الصلاة والسلام حدا، وخط له في الأرض خطا، أن لا يبرحه، فجلس ابن مسعود عنده فأخذ يسمع صوتا شديدا لرجال يأتون جماعات، وسط عدد كبير يتقاذف ويتسابق لهذا المكان، ليجلس فيه، وأكثر من مرة يخاف من هؤلاء القادمين الذين لا يراهم بعينه، ولكن يشعر ويحس بقدومه، يخشى منهم على النبي -عليه الصلاة والسلام- فهم بالقيام ليحمي النبي -عليه الصلاة والسلام-، فيشير له صلى الله عليه وسلمَ بيده: أن ابق في مكانك، فليزم مكانه وقلبه يتقطع من أجل النبي -صلى الله عليه وسلمَ- يريد أن يفتديه، ولكن لم يؤذه شيء.
(كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) أيضا ولكن التفسير الأرجح فيما أرى أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وهو أعظم من حقق العبودية لله أرفع مرتبة، وأعلى مكانة: أنه (لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) [الجن: 19] أي يدعو إلى الله، كاد الكافرون (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) [الجن: 19]، يتحزبون ويتجمعون عليه إيذاءً له، ومنعا له من تبليغ الرسالة.
(قُلْ) وهذا يفهم من الرد، أي قل لهم يا نبي الله: (إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي)، فماذا يضيروكم أنا أدعو إلى ربي، أنا أعجبكم آمنوا، وإلا انصرفتم غير مؤسف عليكم، والحساب يوم القيامة: (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29]، وهذه سماحة دعوة الإسلام فلا يلام الدعاة.
وهكذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: (إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي) [الجن: 20 - 21] اعترف لهم بأنك بشر وليس الأمر لك صلى الله عليه وسلمَ مع مكانه العظيم: (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ)، وأنتم تكفرون بالله، (لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا) [الجن: 21]، لا بيدي مثوبتكم، ولا بيدي عقوبتكم، بل أنا عن نفسي لا أملك لنفسي شيئا: (قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا) [الجن: 22] ملجأ لا تدفعون عني، ولا أدفع عنكم أنا، وأنتم أضعف من ضعف بين يدي الملك العظيم -سبحانه وتعالى-.
(إِلَّا) عندي سبب واحد أستشفع به عند ربي: (إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ) [الجن: 23] أني أبلغ عن الله، ومن يبلغ عن أحد لا شك أنه يحميه، وأنه يحتضنه، وهكذا قال الله للنبي -صلى الله عليه وسلمَ-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة: 67]، فكم هموا بقتله ولم يستطيعوا، ولم يفلحوا؛ لأن الله صدق في وعده: (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فعصمه عليه الصلاة والسلام.
(إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) احذروا (فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) [الجن: 23]، (وَمَن يَعْصِ) واحد، ولكن "من" اسم موصول يفيد العموم، أي الذي يفعل كذا فقد يفعل هذا الشيء كثيرون، ولذلك جمعهم في النهاية في مستقر واحد، فقال: (فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) [الجن: 23] أي كل واحد يعص الله ورسوله يقذف في النار، وهذا يقذف في النار، وهذا في النار، كلهم اجتمعوا هناك على عمل واحد وجريمة واحدة، فهم جميعا خالدين فيها أبدا.
(حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ) يوم القيامة رأوه حقا وواقعا: (فَسَيَعْلَمُونَ) حقيقة قولهم في الدنيا، وتفاخرهم الكاذب الواهم أن يقولوا: نحن أشد قوة، نحن أكثر عددا، نحن أعز كذا، (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا) [سبأ: 35]، ننظركم يوم القيامة: (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا) [الجن: 24]، لا يجدون من دون الله وليا ولا نصيرا، إنما العزيز يومها هو من أعزه الله، وأعز عزيز يومها رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- حين يكون أول من يمسك بحلقة باب الجنة، وحين يأخذ من بين الخلق جميعا والأنبياء والمرسلين، ويعطى حوض الكوثر الذي ينبع من نهر الكوثر في الجنة، لا أحد مثله في الأنبياء والمرسلين، إذاً، كان أعظم ناصرا وأكثر عددا، فعليه الصلاة يوم القيامة يكون أتباعه كثيرون -جعلنا الله في أسباقهم-.
(قُلْ إِنْ أَدْرِي) قل أيضا يا نبي الله أنا لا أعلم الغيب: (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا) [الجن: 25]، هذا اليوم يوم القيامة لا أدري إن كان قريبا أو بعيدا، متى هو الله أعلم، قال لجبريل: أخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول أعلم من السائل، والله -تعالى- قال: (لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) -سبحانه وتعالى- (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا) [الجن: 25]، لماذا هو الذي يعلمها فقط سبحانه وتعالى؟ (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ) [الجن: 26 - 27] يصطفي ويختار -سبحانه وتعالى- رسولا من خلقه (مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الحـج: 75]، ويعطي كل من شاء منهم شيئا من الغيب أراد أن يعطيه إياه، وإذا أعطى الله أحدا من رسوله شيئا من الغيب حوطه وأحاطه برسله حرسا شديدا لا يخترق، ولا أحد يستطيع أن يخترق هذا الغيب الذي مع رسول الله -عليهم جميعا الصلاة والتسليمات-.
(فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ) [الجن: 26 - 28] تعلم الأمم أن رسلها جميعا -عليهم الصلاة والسلام- قد أبلغوا رسالات ربهم، وما قصر أحدهم في شيء، ولا كتم أحدهم شيئا من الغيب والوحي.
(وَأَحَاطَ بِمَا) الله -سبحانه وتعالى- يتابعهم ويشاهدهم لو أن أحدا منهم كتم شيئا أو زاد شيئا عن الوحي ما تركه الله -سبحانه وتعالى-، قال عز وجل: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) [الحاقة: 44 - 47]، ومما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بلغ تمام البلاغ وما كتم شيئا: أنه بلغنا الآيات التي عاتبه الله بها: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) [التحريم: 1]، (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) [الأنفال: 67]، (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [التوبة: 113]، كل ذلك وأمثاله عتاب للنبي -عليه الصلاة والسلام-، ومن منا يكشف سوءته إلى الناس، ومن منا يقول: أنا عتبت في كذا وكذا، إنما يذكر مدائحه، يقول: مدحنا المدير بكذا، ومدحني أبي بكذا، وقال الناس في كذا، ويذكر فضائله، ويخفي هذه الأشياء، لكن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بلغنا الآيات التي عوتب فيها.
إذَا، ما أخفى شيئا ولو كان يخفي شيئا لأخفى هذه الآيات من باب أولى عليه الصلاة والسلام: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) [الجن: 28] -سبحانه وتعالى-.
بهذا -أحبتي الكرام- جاءت آيات السورة مسلسلة هكذا نصفها تقريبا أو يزيد بعض الشيء اعترافات من الجن عما رأوه في القرآن، وعن سبب ما دفعهم إلى ذلك من منعهم إلى اختراق السمع، فما عاد جن ولا شيطان يقدر على الصعود إلى السماء، وإلا فأتبعه شهاب ثاقب يحرقه، وربما رأينا هذا في أفق السماء بالليل أحيانا هذا الشهاب يقذف شيطانا، رأينا أشياء من هذا لكننا لا نرى الشيطان ولا الجن.
كذلك الجن لا يعلمون الغيب، الجن خلق قاصر لا يستطيع أن يفعل إلا ما أذن الله فيه، هذه السورة المباركة هدفها -كما قلنا- في مناسبتها هي تسلية أخرى للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليثبت على الدعوة إلى الله، وليثبت فؤاده على رسالة الله -عز وجل-، أي إن كان كفر بك من أمامك من تخاطبهم فقد آمن بك من لا تعلم.
هذه هي الجن آمنت بك وبقرآنك الذي تلوته كلاما عجبا، ومع ذلك في أوقات أخرى أنصت الله الضب، والضب يشبه التمساح الصغير إلا أنه يعيش في الرمال شهد للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة ونطق وسمعه الناس، الحصى يسبح الله دائما، ولكن لا يسمع تسبيحه: (وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء: 44] أمسك النبي -عليه الصلاة والسلام- يوما بعض الحصى، فارتفع صوت الحصى بالتسبيح، وسمعه الناس فقيل: سبح الحصى في كفه، الحصى يسبح دائما، ولكن ارتفع صوت تسبيحهم في كف النبي -صلى الله عليه وسلمَ- تأيدا له، جاءته شجرة من مكانها وهي في مكانها في الأرض على عمقها تأتي هكذا كالماشي حتى اقتربت منه صلى الله عليه وسلمَ، وشهدت له.. وكم.. وكم من آيات ومعجزات.. هذا كله يثبت الداعية حينما يرى أن الناس حوله في محل دعوته لا يسمعون كلامه ولا ينفعلون مع دعوته، يقول لهم: افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا بما قاله الله وما قاله صلى الله عليه وسلمَ فما يرى منهم استجابة تسعد قلبه، وتنشط دعوته، فربما يصيبه اليأس، فإذا به يسمع أن هناك على البعد البعيد سمعه واحد أو أسرة أو أسر في مكبر الصوت مثلا وصل صوته إليهم، أو سمعوا شريطا له، أو كتبوا كتابا له، أو بلغه من أحد الحاضرين كلاما عنه: خطبنا الشيخ في كذا، أو حدثنا في كذا، هذا المحدث الناقل لم ينفع بالكلام، ولكن الأبعدون انتفعوا، حينما يبلغوا هذا الخبر يثبت في المكان، يقول: هذا المكان فيه بركة، وإن لم يستجب لي أهله فإن صوتي يصل إلى هناك، والحمد لله أن ينفع بدعوتي.
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قمة في هذا لم يؤمن به المقربون منه نسبا وعشيرة الذين وصفوه بالصدق والأمانة، صاروا يصفونه بالكذب والخيانة كذبا وبهتانا وافتراءً، ولكن أخبره الله -تعالى- بما يشرح صدره، ويثبت قلبه، بأن الجن الذين لم ترهم، ولم يقصدوك بالاستماع إليك آمنت بك، فما بالك لو جلسوا إليك؟ فما بالك لو جاؤوك خصيصا ليسمعوا علمك ودعوتك؟! أبشر الخير قادم إن لم يأت من قريب يأتي من البعيد، وكذلك إسلامنا لو ضيق عليه في مكان ينبعث تحت الأعين إلى أماكن أخرى، ويأتي منها، ضيق على الإسلام في مكة، ومن قام هناك فأخذ إلى المدينة دون أن يشعر أهل مكة، ذهب مصعب بن عمير، وذهب الذين أسلموا من أهل يثرب، وبايعوا النبي -صلى الله عليه وسلمَ- حتى لحق بهم الرسول -عليه الصلاة والسلام- وتبعه أصحابه المهاجرين، وهناك قامت شجرة الإسلام، وعظمت شوكته، حتى صار قوة عظيمة ترهبها الدنيا، ثم فتحت بعد ذلك مكة، وفتحت البلاد هنا وهناك، وامتلأت أرض الله بدين الله.
رد الله هذا الوضع من جديد، وردنا إلى دينه ردا جميلا، وحفظنا الله من شر الجن، ورزقنا خيرها، إذ إن فيهم خيرا وفيهم شرا، نسأل الله خيرهم، ونعوذ بالله من شرهم، وجعلنا الله في السابقين إلى الإيمان، اللهم آمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله العظيم، ولزوم طاعته، وأذكركم ونفسي عصيانه -تعالى-، ومخالفة أمره، فهو القائل -سبحانه وتعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
أيها المسلمون الكرام: في السورة عبر وعظات كثيرة، ومنها: ما قاله العلماء في شكل حكمة وقاعدة: "لا يعرف الحق بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق"، فليس الحق ما قاله فلان، أو فلان، أو فلان، إذًا هو حق، لماذا؟! ما أدراك أنه حق؟ قاله فلان، هذا خطأ إنما فلان رجل حق، رجل جيد، رجل صالح، رجل عالم، لماذا؟ ما أدراك؟ لأنه يقول الحق، فيعرف أحدنا بقوله للحق، بتمسكه بالحق، لدعوته للحق، لسعيه إلى الحق، ولا يعرف الحق؛ لأنه خرج من فلان، مهما كان كبيرا، فإبليس هذا للجن كآدم قمة البشرية، بدايتها، شجرتها الأولى، أصلها، وإبليس كذلك بالنسبة للجن أبوهم، كبيرهم، علمهم هذا العصر الطويل أكذوبة، وهي: أن الله اتخذ ولدا بعدما سمعوا "سورة الرحمن" أدركوا الحق، وعلموا أن كلام كبيرهم هذا كلام خطأ وشطط بعيد، وأن كبيرهم هذا سفيه، وسفيه يعني خفيف العقل لا يحسن الأمور ولا يعقلها.
علمهم وعلم الكافرين في الأرض وخاصة المشركين أن الله تزوج بالجن فأنتج الملائكة، فالملائكة ذرية الله وهم بنات، الله -تعالى- يقول: (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) [الزخرف: 19]، هل شهدت الجن والكافرون خلق الملائكة حتى يقولوا: إناثا أو ذكورا؟! ما أدراكم أنهم ذكور أو إناث؟! حتى بالنظرة العابرة اسمهم: جبريل وإسرافيل وميكائيل، ويقال: عزرائيل، وفيهم عبد الله أو عبد الرحمن، أو كذا.. واسمه: "ملك" لفظ مذكر، كلها أسماء مذكرة، فكان الأولى أن يقال: إنهم بنون، لكن -جل الله عن الولد وعن الصاحبة-، كما قالت الجن حين علموا الحق: (مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا) [الجن: 3]، صدقوه أولا؛ لأنه كبيرهم، فليس كبر الشخص دليل على أحقية قوله هذا خطأ، إنما يدل على كبره وعظمته كشخص؛ لأنه يقول الحق طالما تمسك بالحق وقاله، إذاً، هذا إنسان عال القدر، فيعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال.
أحبتي الكرام: اعلموا أن الإنس أقوى من الجن، ولكنه لخوفنا منهم تعاظموا علينا، وتقووا علينا؛ لأنني أظهر أمامه بمظهر الخوف الحقيقي ليس خوفا خداعيا تمثيليا، لا أنا خائف منهم فعلا إذا رأى منهم حقيقة الخوف تقوى عليهم، لكن من كان قوي النفس يخافه الجن، والدليل على ذلك أنك لم تسمع طول حياتك مهما طالت: أن جنيا ظهر مدينة كذا، أو أي مكان كان، لماذا؟ لأنه يخاف على نفسه من أناس لا يرونه أن يضره أحد وهو لا يدري، فهذا طريق الآدميين، هذا مجلسهم، هذا مكان يطئونه بالأقدام وبالسيارات، لا أجلس فيه، ولا أنام، ولا أستقر فيه؛ خشية أن يؤذوني وهم لا يشعرون.
وما سمعنا من قصص لعل كله خيال وحكايات وأساطير: أن جنيا خرج لفلان هناك في الأرض الزراعية، هناك على الترع أو البحر المهجور بالليل، وليس معه أحد، وهكذا أماكن بعيدة ليس فيها أحد، إنما يظهر للناس في مكان فيه أناس ولو قليلون هو يخاف على نفسه منا، يخاف أن يظهر في الأرض، فتلعب به الصبيان على صورة قط، أو كلب، ربما أمسكه الصبيان، ويلعبون به كما يلعبون بالقط ويعذبونه، فربما أمسكوا هذا ولا يدرون أنه جنيا فيعذب، وهو الذي فعل ذلك بنفسه.
فالإنس أقوى، والإنسي هو الذي جاء لسليمان -عليه السلام- بعرش بلقيس، أسرع مما كان سيأتي به العفريت من الجن، والعفريت من الجن هو الجن الصالح الذكي عفريت، ومع ذلك كان الإنسان أكثر منه عفرتة، وأقوى منه، فجاء به في لمح العين، كيف ذلك؟ لم يذكر لنا التاريخ كيف ذلك إنما فعلها الإنسان أسرع مما كان يفعلها الجني.
فوق إنسانيتك -أيها المسلم الكريم- أنت مؤمن بالله والله يحميك، لله أقدار لا يقع شيء فيك من مصاب بنعمة، أو غيرها، إلا في كتاب كتبه الله أولا، إلا من بعد أن يأذن الله، فلا تخش شيئا معك الوضوء السلاح، ذكرك لله سلاح، المصحف في حقيبتك أو جيبك سلاح، الآيات القليلة، أو الكثيرة التي تحفظها في صدرك سلاح، صلاتك حماية، دينك حماية، فمما تخاف؟! كيف تخاف من مخلوق لو جسم على قلبك والتقمه وقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، خاف منك وارتعد وانتكس إلى الوراء، وخنس حتى صغر حجمه، وخف أثره عليك، بكلمة، فكيف يخاف منه.
فتقووا ولكن يحرم التعامل بيننا وبين الجن مباشرة، أن اصطحب جنيا، هذا حرام، ولو كان جنيا مسلما من أولياء الصالحين، ليس بيننا وبين الجن معاملة مباشرة، ولا تتعلق حياتنا بهم، ولا تتعلق حياتهم بنا، هم أمة، ونحن أمة، نحب منهم المسلمين، ونبغض منهم الكافرين.
الجن لا يعلمون الغيب فلا تصدقوا الكهان والكذاب الذين يقولون ذلك، ويخبرونك عمن عمل لك، وعمن أساء إليك، وعمن فتن لك، وعمن خبأ حاجتك، لا تصدق هذا كله، كذب واحتيال، الجن خلق محدود له قدرة معينة، فلا تظن أنه يفعل ما يريد، ويفعل ما يشاء، ويتحرك بإرادته المطلقة، إنما له حدود حدها الله بها.
وهكذا اعلم أن الله واحد لا شريك له، وأن دعوة التوحيد ليست دعوة وهابية ولا حجازية، ولا نجدية ولا أزهرية ولا أشعرية، إنما كلمة ربانية الله الذي أنزلها، والتوحيد هو حق الله على العبيد من أول الدنيا إلى الآخرة، دعك من هذه التسميات، وكن لله عبدا، كن له وحده لا شريك له، حاول أن تجتهد أن لا تعظم في قلبك غير الله، "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله".
آمن بأن النهاية لك طالما كنت مع الله، وعلى ذمة الله، هكذا القرآن يحكي لنا قصة الأمم، وهكذا النبي -صلى الله عليه وسلمَ- يبشر، ويقول: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين" أي منتصرين وغالبين "لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى يأتي وعد الله".
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينصرنا بدينه، وأن ينصر دينه بنا، وأن يجعلنا من أوليائه، وأن يستخدمنا لدينه، وأن يستعملنا في طاعته.