الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | عبدالله بن عبده نعمان العواضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
حصول الطلاق بين الزوجين ظاهرة طبيعية متعارف عليها بين الأمم كالفراعنة والبابليين والأشوريين والهنود والبوذيين والرومان والصينيين واليونانيين وعند اليهود والنصارى، وكذلك عند المسلمين.. والإسلام دين الوسطية، ومن مظاهر وسطيته؛ أنه لم يبح الطلاق إباحة مطلقة بدون حدود وضوابط؛ فيصير ظلماً على الزوجات، ولم يحرمه تحريماً مطلقاً؛ فيكون ظلماً للأزواج، وإنما...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي عمّ كلَّ شيء علُمه وقضاؤه، ووصل إلى عباده فضله وعطاؤه، لا تُحصى آلاؤه، ولا تُعدّ نعماؤه، جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، وتنزهت علياؤه، تسبح بحمده أرضه وسماؤه.
أُزجي إليك ربي، حمداً كثيراً قاصراً عن بلوغ حق حمدك ومجدك، وشكراً جزيلاً يعجز عن الوفاء بمكافأة فضلك ورِفدك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرّدَ بالخلق والملك والتدبير، واستحق الإفراد بالعبادة والقصد والتقدير، وتعرّف إلى عباده بجلال ذاته، وكمال صفاته، وجميل فعاله، وسعة إفضاله، -فسبحانه- ما أعظمه وأكرمه، وما أرحمه وأحلمه!
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من ذكر ووحّد، وتبّتل وتعبّد، -صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الأكرمين-، وأتباعه المقتفين، وزوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين، وسلم تسليما، أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-؛ فتقوى الله بها السعادة والفلاح، والظفر والنجاح، واليُمن والنجاة، والطمأنينة والحياة؛ فحُقَّ للتقوى أن تكون وصيةَ رب العالمين إلى الأولين والآخرين، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً) [النساء: 131].
أيها المسلمون: نتحدث اليوم عن قضية كم بكت لها عيون كانت قريرة، وحزنت لها قلوب كانت مسرورة، قضية كم فرقت بين أرواح كانت متداخلة، وأجساد كانت متآلفة، وباعدت بين أُسر كانت متقاربة متعاونة؛ فغدت متباعدة متقاطعة.
إنها كلمة تصل إلى الأسماع كالقذيفة لها شظايا تصيب أشخاصاً كثيرين.
هذه القضية كانت قبل عقود من الزمان حالة نادرة، لكنها في أيامنا هذه أصبحت ظاهرة منتشرة، إحصائياتها مهولة تهدد المجتمعات، خاصة المتحضرة منها.
هذه القضية هي قضية الطلاق، وليس الطلاق المشروع والحل، ولكنه الطلاق الممنوع المستعجل الذي يصير مشكلة بدل أن يكون حلاً.
في إحدى الدول العربية كانت آخر إحصائية في سنة من السنوات عن حالات الطلاق؛ أنه بلغت نسبة الطلاق فيها: 35% من إجمالي حالات الزواج.
وفي دولة أخرى بلغ عدد المتزوجات في تلك السنة (70) ألف حالة، وفي المقابل كانت حالات الطلاق قد بلغت (13) ألف حالة في تلك السنة.
عباد الله: إن حصول الطلاق بين الزوجين ظاهرة طبيعية متعارف عليها بين الأمم كالفراعنة والبابليين والأشوريين والهنود والبوذيين والرومان والصينيين واليونانيين وعند اليهود والنصارى، وكذلك عند المسلمين.
غير أن الطلاق في تلك الأمم والديانات تختلف أسبابه التي تشرعه، ويختلف في عدده وفي الجهة التي لها الحق فيه، وفي الآثار الحكمية المترتبة عليه.
والمطلع على مسألة الطلاق في تلك الأمم والديانات -غير السماوية- يجد بُعده عن العدل والعقل وعن المصلحة ودفع الضرر؛ أما في ديننا الذي هو دين مراعاة المصالح ودفع المضار؛ فالطلاق مضبوط بأحكام وآداب يراعى فيها تحصيل المصلحة ودفع المضرة؛ فهو في الإسلام آخر الحلول لمشكلات لا تحل إلا به، ولم يشرعه ليكون مشكلة جديدة، ولذلك تأملوا معي هذه الآيات الكريمة التي تعالج الخلاف بين الزوجين أين كان موضع الطلاق في ذكر الحلول التي أوردتها.
قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً) [النساء: 34-35].
وقال: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً) [النساء: 128-130].
فذكر اللهُ من وسائل الحل عند نشوز الزوجة: الموعظة، ثم الهجر في المضجع، ثم ضرب التأديب، ثم الصلح، ثم ذكر بعد ذلك الطلاق، ولذلك قال بعض الفقهاء: إن الطلاق تدور عليه الأحكام الخمسة؛ فقد يكون مباحاً، وقد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً، وقد يكون حراماً، وقد يكون مكروهاً.
أيها الأخوة الكرام: إن حديثي اليوم عن ظاهرة كثرة الطلاق إنما جاء من كثرة إيقاعه من غير تروٍ وأناة، ومن كثرة تلاعب بعض الناس في هذه الرابطة الوثيقة؛ بحيث صار الطلاق سلاحاً بيد بعض الأزواج يهدد به الزوجة متى شاء، حتى تعيش الزوجة حين ذلك حياة يشوبها القلق والخوف.
معشر المسلمين: إن مصير الطلاق ظاهرة في المجتمعات نتيجةٌ مُرّة لها أسبابها التي أدت إلى ذلك، ومجمل هذه الأسباب -التي سيأتي ذكرها- ترجع إلى سببين رئيسين هما:
عدم إقامة هذه الرابطة على الآداب الإسلامية.
وعدم الفهم الصحيح للحياة الزوجية.
إن من تلك الأسباب التفصيلية: التقصير في اتباع هدي الإسلام في هذا الباب قبل حصول الزواج، ومن ذلك:
ترك البحث عن الخلق والدين من الزوج ومن أقارب الزوجة؛ فبعض أولياء النساء لا يهمهم سلوك الخاطب واستقامته، إنما يهمه حظه من الدنيا من مال ووظيفة فقط، وبعض الخاطبين أيضاً لا يبالي بحسن سيرة المخطوبة و التزامهما، إنما ينظر إلى الجمال والأسرة والوظيفة؛ فحسب؛ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها، وجمالها ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك".
وقال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" (متفق عليه).
ومن التقصير قبل الزواج؛ عدم السماح للخاطب أن يرى مخطوبته، وللمخطوبة أن ترى خاطبها، والإسلام في هذه المسألة وسط بين المتشددين الذين لا يسمحون لأحدهما أن يرى الآخر والمتساهلين الذين يسمحون لموليتهم أن تخلو بخاطبها وأن تخرج معه وتتصل به، وكلا الأمرين خطأ.
والصحيح جواز رؤية الخاطب من مخطوبته ما يدعوه إلى نكاحها؛ إلى الوجه والكفين على الصورة الطبيعية؛ فعن المغيرة بن شعبة: أنه خطب امرأة؛ فقال النبي -صلى الله عليه و سلم-: "انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"؛ فالخاطب الذي لم ير مخطوبته قبل العقد قد يفاجئ بامرأة لا توافق رغبته؛ ولذا قد يطلقها في الأسبوع الأول من الزواج، وإن بقيت؛ بقيت على كُره سرعان ما يهجم عليها الطلاق.
عباد الله: قد يكون من الأسباب التي تؤدي إلى الطلاق؛ ضعف معرفة كل من الزوجين لدوره في الحياة الزوجية؛ فالزوج عليه واجبات لزوجته يؤديها إليها، وله حقوق على زوجته تؤديها إليه، وهكذا الزوجة. والجهل بمعرفة ذلك قد يسوق إلى الطلاق.
ومن ذلك: نسيان الزوج أن زوجته أمانة في عنقه بالعقد الذي عقده، أخذها من بيت أهلها عزيزة كريمة مسرورة؛ ليكرمها ويحافظ عليها ويبني معها أسرة صالحة.
ومن ذلك: غياب اتصاف بعض الزوجات بصفات الزوجة الصالحة التي ذكرها الله تعالى بقوله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ) [النساء: 34]؛ فبعض الزوجات غير مطيعات لأزواجهن، وغير حافظات لأنفسهن ولأموال الأزواج.
ومن الأسباب: متابعة الأفلام والمسلسلات ومواقع النت والاشتراك في الدردشات، ونحو ذلك، وهذه الأمور قد يجد فيها كل من الرجل والمرأة من هو أجمل مما عنده، ويرى أن السعادة توجد في العلاقات المحرمة خارج الحياة الزوجية، أو تخيل لهما المسلسلات أن الحياة الزوجية كلها حب وغرام فقط، وليس هناك مشكلات أو مكدرات في الحياة الزوجية، فيظنان أن ذلك الخيال الكاذب المشاهد يمكن تطبيقه في واقع الحياة؛ فقد يحصل بعد هذا مقارنة من الزوجين بين ما يشاهدان أو يتواصلان تواصلاً محرماً كل مع غير قرينه وبين واقعهما الزوجي فيجدان ذلك الجو الرومانسي مفقوداً فيؤدي ذلك إلى الكراهية فالطلاق.
وأنت تعرف أيها الزوج وتعرفين أيتها الزوجة أن الأمور المشتركة بين الشركاء لابد أن يحصل فيها شيء من الخلاف والنزاع، والعقلاء من الشركاء من يعالجون تلك الخلافات قبل أن تستفحل، والحياة الزوجية هي نوع عظيم من أنواع الشراكة يحصل فيها الاتفاق والاختلاف.
ومن الأسباب: الاستعجال وعدم التثبت والتأني؛ فإذا جاءه خبر عن زوجته أو رأى منها ما لا يعجبه سارع إلى الطلاق بدون مقدمات، وهناك من الأزواج من صار الطلاق على لسانه ليله ونهاره في جده وهزله؛ إذ لا يحلف إلا بالطلاق، وإذا أراد أن يمنع زوجته من شيء قال: إن فعلت فأنت طالق، أو إن لم تفعلي فأنت طالق، والطلاق المعلق من أخطر أنواع الطلاق؛ لأنه لا يمكن تلافيه، وقد يقع الشرط من الزوجة؛ فتطلق وهي لا تشعر وقد يشعر الزوجان بذلك لكن يتساهلان في الأمر فربما جرت المعاشرة بينهما بعد ذلك على الحرام؛ إ ذ تصير الزوجة لا تحل لزوجها لوقوع الطلاق بالشرط.
ومن الأسباب كذلك: طلب بعض النساء الطلاق لأسباب لا تستدعي هذا الطلب، وهذا لا يجوز في هذه الأحوال؛ لأن النبي -صلى الله عليه و سلم- قال: "أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة" (رواه الترمذي وابن ماجه)، وهذا وعيد شديد لكل زوجة طلبت الطلاق من غير سبب صحيح.
أيها المسلمون: إن ظاهرة الطلاق المستعجل تحتاج إلى علاج ينبغي للزوجين أن يتناولاه، كل حسب ما عنده من الأسباب السابقة؛ ولذلك فإن طرق معالجة هذا الداء أن تُتجنب الأسباب السابقة التي ذكرناها، ويضاف إلى ذلك: أن يعلم الزوج أن بدأ الكراهية ليس مسوغاً للطلاق؛ فالمرأة إنسان له عيوبه مثل الرجل كذلك، فليس هناك من شخص كمل في صفاته الحميدة وأداء ما عليه من واجبات فالتغاضي والصبر وعدم الاستقصاء بلسم شاف، قال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء: 19].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضى منها آخر" (رواه الترمذي والبيهقي، وهو صحيح).
جاء رجل إلى عمر -رضي الله عنه- يشكو إليه زوجته وقال: "إنه لا يحبها، فقال له عمر: وهل لا تُبنى البيوت إلا على الحب؟!" (رواه أحمد).
فليتذكر الزوج خدمتها له، وتربية أطفاله، وإصلاح بيته، وإعفافها له، و أن تتذكر ما قدمه لها زوجها من خير ومعروف كذلك.
وأيضاً أن يفهم كل من الزوجين معنى الحياة الزوجية المتكاملة وأنها تعني إعفافاً للمجتمع، وربطاً وثيقاً بين الأسر، وبناء أسرة نظيفة، وتربية جيل صالح، هذه الأهداف السامية للحياة الزوجية؛ فليست الحياة الزوجية مقصورة على الاستمتاع والغرام فقط.
وعلى الزوجين أن يفكرا في الود القديم بينهما، وإسعاد كل منهما لصاحبه، وأن يفكرا جيداً في عواقب الطلاق وآثاره فيهما وفي أولادهما وأسرتيهما؛ فكم ضاع ابن بسبب طلاق أمه، وكم ضاعت بنت بسبب طلاق أمها أيضاً.
فاتقوا الله -يا عباد الله- في زوجاتكم، وقبل القرار الأخير عليكم أن تصبروا وأن تتثبتوا وأن تستخيروا وتستشيروا قبل أن يقع الفأس على الرأس، وتحصل الندامة كندامة الفرزدق حينما طلق زوجته النوار؛ فندم على ذلك ندماً شديداً حتى قال:
ندمت ندامة الكسعي لما | غدت مني مطلقةً نوار |
وكانت جنتي فخرجت منها | كآدم حين أخرجه الضرار |
ولو أني ملكت يدي ونفسي | لكان عليّ للقدر الخيار |
فأصبحتُ الغداة ألوم نفسي | بأمر ليس لي فيه اختيار |
وكنت كفاقئ عينيه عمداً | فأصبح ما يضيء له النهار |
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه أهل الفضل والوفاء، أما بعد:
أيها المسلمون: سمعتم الحديث عن الطلاق غير المشروع القائم على العبث والاستعجال والقصور في فهم الحياة الزوجية فهماً صحيحاً، ونتحدث الآن عن الطلاق المشروع الذي يكون علاجاً لمشكلة لا تُشفى إلا بذلك.
إخواني، تعلمون أن الإسلام دين الوسطية، ومن مظاهر وسطيته؛ أنه لم يبح الطلاق إباحة مطلقة بدون حدود وضوابط؛ فيصير ظلماً على الزوجات، ولم يحرمه تحريماً مطلقاً؛ فيكون ظلماً للأزواج، وإنما أباحه ليكون هو الحل الأخير لحياة زوجية وقفت زوارق سعادتها عن مخر بحر الحياة السعيدة، فأصبحت الحياة لا تطاق، ولم تنجع فيها الوسائل الأخرى لحل مشكلاتها، فيأتي الطلاق فرجاً ومخرجاً من هذه النفق المظلم.
فالطلاق المشروع -معاشر الأزواج الكرام- يكون بعد استنفاد الوسائل الأخرى قبل اللجوء إلى وسيلة الطلاق؛ فإذا اضطر الزوج إلى الطلاق بعد ذلك كله؛ فليكن باختيار الزمان المناسب، والحالة المناسبة، والعدد المناسب؛ فيكون الطلاق في طهر لم يجامعها فيه؛ خشية أن تكون قد حملت في ذلك الطهر؛ فتحصل مشكلة الحمل والولادة والنفقة وتأخيرها عن الزواج، وانتظار الزواج في ذلك الطهر المجامع فيه حتى تحيض فتطهر فرصة للتفكير العميق في بقاء الزوجية قبل قرار الطلاق؛ فسبحان الله ما أحرص الإسلام على بقاء رابطة الزوجية!
فإذا حاضت بعد طهرها انتظر حتى تطهر؛ فإذا طهرت طلقها طلقة واحدة؛ فلعله أن يراجعها ويشتاق لعودة عشرته معها مرة أخرى.
أيها المسلمون: هذا هو الطلاق المشروع في الإسلام؛ فإذا قام على هذه المراحل والضوابط والحدود؛ فقد يكون نعمة على الزوجين، بدل العيش في جحيم مستعرة، وقد يكون أيضاً نعمة على الأولاد بعد أن كانوا بين أبويين لا ينام البيت إلا على صراخهما ولا يستيقظ إلا على تشاجرهما، قال تعالى: (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً) [النساء: 130]؛ فإذا كان الطلاق على هذا الوجه فهو طلاق إحسان ومعروف وإصلاح.
عباد الله، إذا ما حصل الطلاق فعلى الزوجين أن لا ينسيا العشرة السعيدة التي عاشاها في عش واحد مدة من الزمن.
وأن يبتعد كل واحد عن ذكر الآخر أو ذكر أسرته بسوء أو ذم، وأن لا تهمل الزوجة تربية أولادها إذا كانوا عندها، وأن لا يهمل الزوج النفقة عليهم وحسن رعايتهم، وأن لا يمنع أحدهما الآخر من رؤية ولده وزيارته.
نسأل الله أن يحفظ بيوت المسلمين من التصدع والأكدار، وأن يبني فيها السعادة والطمأنينة والاستقرار.
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير.