المتكبر
كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...
العربية
المؤلف | راشد البداح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصلاة |
الأذان دعوةٌ تنفرج عنها هدأةُ الليل، وينصت لها الطير والشجر، ويَخِفُّ لها الماء والهواء. توقظ الأجسام بالليل، وتوقظ الأرواح بالنهار. حي على الصلاة! حي على الفلاح! كم خشعت لصوت المؤذن نفوس وذابت، وكم أنابت قلوب وتابت!...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، لَم يزلْ بِنعُوتِ الجلاَلِ والكَمالِ متصفاً، وأشهدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لاَ شريكَ لهُ، مُقراً بوحدَانيَّتِه ومُعْترِفاً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسُولُه النبي الأمي المصطفَى، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وأصحاَبِه ومن سَار علَى نهِجِهم المُبَاركِ واقتفى. أما بعد: فاتقوا ربكم وتذكروا دومًا يومًا يقف فيه الخلائق ذلك الوقوف الطويل (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
لقد ألقيت علينا قبل دقائق موعظة جليلة مجلجلة، أشعرتم -أيها الإخوة- بهذا النداء الذي سمعناه قبل قليل؟! أشعرتم بعظمة الموعظة التي نادى بها الآن مؤذننا المحتسب أبو عبد المجيد -جزاه الله خيرًا- إنها دعوةٌ من معدن الصلاة، دعوةٌ تلتقي فيها الأرض والسماء وكأنها نبأ جديد، ويمتزج فيها خشوع المخلوق بعظمة الخالق.
الله أكبر. الله أكبر. تلك هي دعوة الأذان التي يدعو بها المؤذنُ المسلمين إلى الصلاة، والمسلم في صلاةٍ منذ يسمعها تدعوه؛ لأنه يَذكُر بها عظمةَ الله، وهي لب لباب الصلوات.
الأذان هو من الدعوة إلى الله التي قال عنها: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَـالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ)[فصلت:33].
الأذان دعوةٌ تنفرج عنها هدأةُ الليل، وينصت لها الطير والشجر، ويَخِفُّ لها الماء والهواء. توقظ الأجسام بالليل، وتوقظ الأرواح بالنهار. حي على الصلاة! حي على الفلاح! كم خشعت لصوت المؤذن نفوس وذابت، وكم أنابت قلوب وتابت!.
أما الغرباء عن البلاد وعن عقيدة الإسلام فما يَلفتهم من شيء من شعائر العبادة الإسلامية كما يلفتهم صوت الأذان على المنائر العالية كيفما اختلف الترتيل والتنغيم.
يقول إدوارد وليام: "إن أصوات الأذان أخَّاذة جدَّاً ولاسيما في هدأة الليل".
ويقول جيرار نرفال في كتابه سياحة بالمشرق: "إنني لأول مرة سمعت فيها صوت المؤذن الرخيم الناصع خامرني شعور من الشجو لا يوصف".
وأنشأ الكاتب المتصوِّف "لافكاديو" رسالة وجيزة عن المؤذن الأول بلال بن رباح فقال:
"إن السائح الذي يهجع لأول مرة على مقربة من إحدى المنائر قلما تفوته خشعةُ الفؤاد لذلك الجمال الوقور الذي ينبعث به دعاء المسلمين إلى الصلاة، وإنه ليَسمع هذا الصوت تحت وهج الظهيرة اللامعة، ويَسمعه قبيل مغيب الشمس، ويَسمعه عَقيب ذلك حين تنسرب هذه الألوان الزاهية في صبغة مزدوجة من البرتقال والزُّمُرُّد، ثم يسمعه آخر الأمر حين تومِضُ مِنْ فوقه ملايين المصابيح التي ترصع بها تلك القبة البنفسجية.
ولما سمع الأذانَ بعضُ مثقفي النصارى بمصر قديمًا قالوا: إننا لا نشكو من الأذان؛ لأنه لا يُقلقنا، ولا يزال يسري إلينا في ساعة الفجر كما يسري الحلم الجميل.
ويا سبحان الله: ما أشبه الليلة بالبارحة! فإننا نقرأ في أنباء فتح مكة أن رهطاً من المشركين كانوا ينكرون نداء المؤذن الأول في الإسلام بلال بن رباح الذي اصطفاه نبي الإسلام لهذه الدعوة. وكانوا يتساءلون: أما وجد محمد غير هذا العبد ينهق على ظهر الكعبة؟ وكانوا يستكبرون من رجل كائناً من كان أن يعلو ظهر البيت الذي لم يصعد إليه أحد في الجاهلية، فهالهم أن يروا "عبداً" يصعد إليه ويجهر بذلك النداء.
وذلك الوصف من المشركين كانوا خُلقاء أن يصفوه بأنهم سمعوه زعيقاً و"نهيقاً" -كما قالوا-؛ لأنهم سمعوا شيئاً لا يطيقونه ولا يستريحون إليه، وكانت بهم عُنْجُهِيَّة السادة في النظر إلى العبيد(1). ألا ما أعظم ألفاظ هذا الأذان الذي يشنِّف الآذان.
قال القرطبي والنووي: "الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة؛ لأنه بدأ بالأكبرية، وهي تتضمن وجود الله وكماله، ثم ثنى بالتوحيد، ونفي الشريك، ثم بإثبات الرسالة لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم دعا إلى الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة؛ لأنها لا تُعرف إلا من جهة الرسول، ثم دعا إلى الفلاح، وهو البقاء الدائم، وفيه الإشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا.. ثم كرر التكبير؛ لما فيه من التعظيم له -تعالى-، وختم بكلمة التوحيد؛ لأن مدار الأمر عليها. جعلنا الله وأحبتنا عند الموت ناطقين بها عالمين بمعناها"(2).
فهنيئًا للمؤذنين بشرف التصويت بهذا النداء؛ ولذا صح عن عمر قولُه: "لو أطيق الأذان مع الخلافة لأذنت"(3). ومن أجل هذا الشرف قال -صلى الله عليه وسلم- في حق المؤذنين: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ؛ لاسْتَهَمُوا. قال البخاري: "وَيُذْكَرُ أَنَّ أَقْوَامًا اخْتَلَفُوا فِي الْأَذَانِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ"(4). ولذا سمعنا عن مؤذنين أمضوا خمسين وستين سنة.
ولأجل فضل الأذان؛ فقد دعا مجاب الدعوة -صلى الله عليه وسلم- بدعوة خصَّ بها المؤذنين أكثرَ من الأئمة، فقال: "الإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الأَئِمَّةَ، وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِين"(رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان). قال النووي معلِّقًا: "والأمين أحسن حالاً من الضمين؛ لأن الأمين متطوع بعمله، والضامن يجب عليه فعل ذلك"(5).
الخطبة الثانية:
الحمد لله نحمده حمدًا لا يحدّ، والصلاة والسلام على أرشد داع إلى سبيل الرشد، وعلى آله وصحبه ومن جد في متابعته واجتهد.
أما بعد: فيكفي من فوائد الاشتغال بوظيفة الأذان: التبكير وضمان حفظ صلاتك من الفوات.
فيا أيها المؤذنون: احفظوا مساجدكم، وحافظوا على صلاتكم، ولا تناموا عنها؛ فإنكم قُدوات، ويا جماعة المساجد في الأحياء: نافسوا المؤذنين في التبكير لها، ففضل الله واسع. ولما قَالَ قوم: يَا رَسُول اللَّهِ، إِن المؤذنين يفضلوننا، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "قُلْ كَمَا يَقُولُونَ، فَإِذا انْتَهَيْت فسَلْ تُعْطَ"(6)؛ أي: إذا قلتَ ما يقول المؤذن حصل لك الثوابُ.
فلا تتأخر -عبدَالله- عن الصلاة، وخوِّف نفسك بقول نبيك -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله"(رواه مسلم)(7). قال النووي: "أي يتأخرون عن الصفوف الأول حتى يؤخرهم الله -تعالى- عن رفع المنزلة".
وقد صح موقوفًا عن أنس: "من صلى لله أربعين يوماً في جماعة؛ يُدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق"(8).
قال عدي بن حاتم: "ما أقيمت الصلاة منذ أسلمتُ إلا وأنا على وضوء"، وقال إبراهيم التيمي: "إذا رأيتَ الرجلَ يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدَك منه".
هكذا كان حرصهم وتبكيرهم إلى الصلوات؛ فيا ليت شعري أين تلك الجموع التي تقضي خلف الصفوف أو بعد الإمام، أو بمساجد الجماعات؟! أين هم من هذه السير العطرة؟! والله المستعان.
اللهم اجعلنا من الذين إذا ذكَّرتهم ذَكروا، واجعل لنا قلوبًا توابة، لا فاجرة ولا مرتابة.
اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نغير ديننا. اللهم ولا تنزع عنا الإسلام بعد إذ أعطيتناه.
اللهم واشف مرضانا وارحم موتانا، وارحمنا في مثوانا.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين المرابطين بالجنوب.
اللهم طيب أقواتنا، ووفق ولاتنا، واجمع على الهدى شؤوننا، واقض اللهم ديوننا.
اللهم وفق إمامنا وولي عهده بتوفيقك.
---------------
(1) بتصرف من مقالة: داعي السماء بلال للأديب عباس العقاد، ص141. والمقال منقول من كتاب: مقالات لكبار كُتَّاب العربية، د. محمد الحمد (1/ 186).
(2) فتح الباري - ابن حجر - دار المعرفة (2/ 77) البحر الرائق (1/ 279 ). إعانة الطالبين للنووي (1/ 228).
(3) صححه ابن حجر في فتح الباري (2/ 77) والنووي في المجموع (3/ 88).
(3) صحيح البخاري (615) وصحيح مسلم (1009).
(4) سنن أبي داود (517) صحيح ابن خزيمة (1528) المجموع للنووي (3/ 86).
(5) سنن أبي داود (524) وصححه عبد الحق في الأحكام الكبرى (2/ 95) انظر: المفاتيح في شرح المصابيح للمُظهري (2/ 57).
(6) صحيح مسلم (1010).
(7) سنن الترمذي (241) وفي تحفة المحتاج (1/ 438) قال: هذا من باب الفضائل فيُتسامح فيه.