الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | محمد بن عدنان السمان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصلاة |
لم يعتنِ الإسلام بشيء، ويرفع مقامه، ويعلي منزلته، ويجعله من أركان الإسلام، وقواعده الأصيلة، كما اعتنى بأمر الصلاة، فالصلاة اشتملت على الحكم الباهرة والمصالح الباطنة والظاهرة، والمنافع المتصلة بالقلب والروح والبدن، والقوى التي لو اجتمع حكماء العالم قاطبة واستفرغوا قواهم وأذهانهم لما أحاطوا بتفاصيل حكمها وأسرارها وغاياتها المحمودة..
الحمد لله المعبود في أرضه وسمائه، والمجيب دعاء من يدعوه بأسمائه المنفرد بالقدرة القاهرة، المتوحد بالقوة الظاهرة، (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ) [القصص: 70]، هدى العباد بالإيمان إلى سبيل الرشاد، ووفقهم للطاعات لما هو أنفع لهم يوم المعاد، والصلاة والسلام على من رفع الله ذكره وشرح صدره، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فتزودوا -أيها المسلمون- بالتقوى؛ فهي خير زاد ليوم المعاد.
عباد الله: لم يعتنِ الإسلام بشيء، ويرفع مقامه، ويعلي منزلته، ويجعله من أركان الإسلام، وقواعده الأصيلة، كما اعتنى بأمر الصلاة، فالصلاة اشتملت على الحكم الباهرة والمصالح الباطنة والظاهرة، والمنافع المتصلة بالقلب والروح والبدن، والقوى التي لو اجتمع حكماء العالم قاطبة واستفرغوا قواهم وأذهانهم لما أحاطوا بتفاصيل حكمها وأسرارها وغاياتها المحمودة، بل انقطعوا كلهم دون أسرار سورة الفاتحة وما فيها من المعارف الإلهية، والحكم الربانية، والعلوم النافعة، والتوحيد التام، والثناء على الله بأصول أسمائه وصفاته.
فالمتأمل في الصلاة -يا رعاكم الله- يجد من الحكم العجيبة من تطهير الأعضاء والثياب والمكان، وأخذ الزينة، واستقبال بيته الذي جعله إمامًا للناس، وتفريغ القلب وإخلاص النية.
افتتحت الصلاة بلفظ التكبير "الله أكبر"، وهي كلمة جامعة لمعاني العبودية، دالة على أصول الثناء وفروعه، وإذا خرجت من اللسان والقلب لم يلتفت المصلي إلى ما سوى الله، ولم يقبل إلا عليه، فيقدم بقلبه الوقوف بين يدي عظيم جليل أكبر من كل شيء، وأجل من كل شيء، وأعظم من كل شيء، له الكبرياء والجلال والعظمة، فهو ناظر إلى عباده، عالم بما تكنّ صدورهم، يسمع كلامهم، ويرى مكانهم، لا يخفى عليه خافية من أمرهم.
ثم يشرع المصلي بعد تكبيرة الإحرام، ويدعو بدعاء الاستفتاح: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك"، فيأخذ في تسبيحه وحمده وذكره -تبارك اسمه وتعالى جده- وتفرده بالإلهية.
ثم يشرع في سورة الفاتحة أعظم سور القرآن الكريم، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: 2-4]، فيأخذ في الثناء على الله بأفضل ما يثنى عليه به من حمده وذكر ربوبيته للعالم وإحسانه إليه ورحمته به، وتمجيده بالملك الأعظم في اليوم الذي لا يكون فيه ملك سواه، حتى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ويدينهم بأعمالهم.
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5]، وهنا يفرد العبدُ ربه بنوعي التوحيد: توحيد ربوبيته استعانةً به وتوحيدًا لإلهيته عبوديةً له.
ثم يسأله أفضل مسؤول وأجل مطلوب على الإطلاق وهو هداية الصراط المستقيم (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7]، ذلك الصراط الذي نصبه الله لأنبيائه ورسله وأتباعهم، وجعله صراطًا موصلاً لمن سلكه إليه وإلى جنته، وأنه صراط من اختصهم بنعمته بأن عرّفهم الحق وجعلهم متبعين له دون صراط أمة الغضب الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه، وأهل الضلال الذين ضلوا عن معرفته واتِّباعه: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7].
فتضمنت هذه السورة العظيمة تعريف الرب -جل جلاله- والطريق الموصل إليه والغاية بعد الوصول، وتضمنت الثناء والدعاء وأشرف الغايات وهي العبودية، وأقرب الوسائل إليها وهي الاستعانة، وتضمنت هذه السورة العظيمة أيضًا ذكر الألوهية والربوبية والرحمة، فهو -جل جلاله- يخلق ويرزق ويميت ويحيى ويدبر الملك، ويضل من يستحق الإضلال ويغضب على من يستحق الغضب بربوبيته وحكمته وينعم ويرحم ويجود ويعفو ويغفر ويهدي ويتوب برحمته.
فلله كم في هذه السورة من أنواع المعارف والعلوم والتوحيد وحقائق الإيمان!! ولهذا كانت من أركان الصلاة التي لا تقوم الصلاة إلا بقراءتها.
وبعد أن يقرأ المصلي سورة الفاتحة، أو يسمعها من إمامه -إن كان مأمومًا- يشرع هو أو يستمع إلى شيء من القرآن الذي هو ربيع القلوب وشفاء الصدور ونور البصائر وحياة الأرواح، وهو كلام رب العالمين، والمتدبر للقرآن يجد أن آيات القرآن تعددت معانيها بين خير يؤمر به أو شر ينهى عنه.
في آيات القرآن الحكمة والموعظة والتبصرة والتذكرة والعبرة.
في آيات القرآن تقريرٌ للحق ودحضٌ للباطل.
في آيات القرآن ترغيب في أسباب الفلاح والسعادة وتحذير من أسباب الخسران والشقاوة.
في آيات القرآن الدعوة إلى الهدى والتحذير من طريق الردى.
ثم يعود المصلي إلى تكبير ربه -عز وجل-، فيحني ظهره ويركع خضوعًا لعظمة الله وتذللاً لعزته واستكانةً لجبروته، مسبحًا له بذكر اسمه العظيم، فالركوع ركن تعظيم وإجلال لله -جل جلاله- كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أما الركوع فعظموا فيه الرب".
اسمعوا إلى ألفاظ الركوع الثابتة عن حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- لنستشعر شيئًا من هذا التعظيم للعظيم -جل جلاله-:
"سبحان ربي العظيم". ثلاث مرات.
"سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي".
"سبوح قدوس رب الملائكة والروح".
"اللهم لك ركعت وبك آمنت، لك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي، وما استقل به قدمي".
"سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة".
ثم يعود المصلي إلى حاله من القيام: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ".
فهنا يحمد المصلي ربه مثنيًا عليه بأكمل محامده وأجمعها وأعمها، مثنيًا عليه بأنه أهل الثناء والمجد، ومعترفًا بعبوديته شاهدًا بتوحيده، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأنه لا ينفع أصحاب الجدد والأموال والحظوظ جدودهم عنه ولو عظمت، ثم يعود إلى تكبيره ويخر له ساجدًا على أشرف ما فيه، وهو الوجه ذلاًّ بين يديه ومسكنة وانكسارًا، وقد أخذ كل عضو من البدن حظه من هذا الخضوع.
وهنا أستبيحكم عذرًا بأن نقف لإنهاء الخطبة الأولى، لنكمل ما بدأناه في بيان عظمة الصلاة من خلال استشعار أركانه وواجباتها في الخطبة الثانية إن شاء الله. اللهم إنا نسألك الهدى والسداد.
أقول ما سمعتم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارًا، وصرفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزةً واقتدارًا، وأرسل الرسل إلى المكلفين إعذارًا منه وإنذارًا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه.
وفي تتمة حديثنا -معاشر المسلمين- عن عظمة الصلاة من خلال استشعار أركانها وواجباتها وسننها، وقد وصلنا إلى أشرف مواضع الصلاة وهو موضوع الخضوع والخشوع والدعاء، إنه موضع السجود، وهذا فيه كمال الخضوع والذلة لمن له العز كله والعظمة كلها، وهذا أيسر اليسير من حقه على عبده، فلو دام كذلك من حين خلق إلى أن يموت لما أدى حق ربه عليه، ثم أمر أن يسبح ربه الأعلى فيذكر علوّه سبحانه في حال سفوله هو.
ولما كان مقام السجود هذا غاية ذل العبد وخضوعه وانكساره كان أقرب ما يكون الرب منه في هذه الحال، فأُمر المصلي أن يجتهد في الدعاء لقربه من القريب المجيب، وقد قال تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق: 19]، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود والتوطئة له، فينتقل من خضوع إلى خضوع أكمل وأتم منه وأرفع شأنًا، وفصل بينهما بركن مقصود في نفسه يجتهد فيه بالحمد والثناء والتمجيد، وجعل بين خضوع خضوع قبله وخضوع بعده، وجعل خضوع السجود بعد الحمد والثناء والمجد، كما جعل خضوع الركوع بعد ذلك، فتأمل هذا الترتيب العجيب وهذا التنقل في مراتب العبودية.
ثم يشرع للمسلم بين السجدتين أن يجلس جلسة خفيفة يقول فيها: "رب اغفر لي، رب اغفر لي"، ويكرر ذلك، ويشرع له أيضًا أن يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني واجبرني وارزقني وعافني، وهنا نتأمل أنه بين هذين السجودين والخضوعين لله يجلس العبد المصلي جلسة العبيد، ويسأل ربه أن يغفر له ويرحمه ويرزقه ويهديه ويعافيه، وهذه الدعوات تجمع له خير دنياه وآخرته.
ثم شرع للمصلي تكرار هذه الركعة مرة بعد مرة، كما شرع تكرار الأذكار والدعوات مرة بعد مرة؛ ليستعد بالأول لتكميل ما بعده، ويجبر بما بعده ما قبله، وليشبع القلب من هذا الغذاء، وليأخذ رواه ونصيبه وافرًا من الدواء ليقاومه، فإن منزلة الصلاة من القلب منزلة الغذاء والدواء.
ثم عندما يكمل المسلم آخر ركعات صلاته يشرع له أن يقعد قعدة العبد الذليل المسكين لسيده ويثني عليه: "التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك -أيها النبي- ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباده الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، إنه ثناء على الله بأفضل التحيات، ويسلم على من جاء بهذا الحظ الجزيل ومن نالته الأمة على يديه، ثم يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله المشاركين له في هذه العبودية، ثم يتشهد شهادة الحق، ثم يعود فيصلي على من هدى الأمة إلى هذا الخير ودلهم عليه: "اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، ثم شرع له أن يسأل حوائجه ويدعو بما أحب ما دام بين يدي ربه مقبلاً عليه، فإذا قضى ذلك أذن له في الخروج منها بالتسليم.