الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | فؤاد بن صدقة مرداد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
معاقون في لغة البشر ومقاييس البشر غيروا التاريخ، صنعوا مجرى آخر له، استطاعوا أن يضعوا بصماتهم على الحياة، تركوا أسماءهم لامعة في حياتنا، كلما نتذكرهم نتذكر أمجادهم وعطاءهم وبذلهم وتضحياتهم، خذوا غيضا من فيض وقليلا من كثير من أخبارهم: هذا عبد الله...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، من اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
إخوة الإيمان: في ظل ما يعيشه الناس اليوم من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، في ظل توالي النكبات والمؤلمات وانتشار الأمراض وضيق ذات اليد على كثير من الناس، في ظل كثير من الأمور التي تقتل الهمة وتميت العزيمة، في ظل ذلك كله تظهر ظاهرة التذمر وربما التسخط وربما يؤدي ذلك إلى أن ينسى الإنسان نعم الله عليه، النعم التي تترى، والآلاء التي لا تعد ولا تحصى، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)[إبراهيم:34].
وفي ظل ذلك -أيضًا- تظهر ظاهرة تعليق الفشل على شماعة الآخرين، فيتحدث الإنسان عن فشله أحيانا في مواقف شخصية أو أسرية أو أطر اجتماعية أو حتى إقليمية، فيعلقها على شماعة الآخرين، وأحيانًا كثيرة ننسى نعم الله ولا نتذكرها إلا عندما نرى من فقد تلك النعم؛ فإذا زار الإنسان المستشفيات -مثلًا- أو وقف على المصحات، فرأى من فقد شيئًا من أعضائه أو ابتلي بإعاقة أو بشيء من هذا القبيل تذكر نعمة الصحة التي يعيشها، وإذا ما وقف على من هو دونه حالًا في المال عرف أنه في حال عظيم، والحال كذلك إذا وقف على نعمة الأمن والأمان وهكذا...
تأملت في أحوالنا كثيرًا، وفي طيات الأسبوع الماضي عندما يحتفل العالم بما يسمى باليوم العالمي للمعاقين، تأملت في هذا الاحتفال أو في هذه المناسبة التي يقدم فيها شيء من المواساة لإخواننا وأحبائنا وأعزائنا الذين لربما أعيقوا بشيء من أطرافهم أو أصابهم المرض بشكل من الأشكال، وتساءلت: هل هؤلاء حقيقةً هم المعاقون؟ من المعاق حقيقة؟
قبل أن أجيب عن هذا انظروا إلى التاريخ، معاقون في لغة البشر ومقاييس البشر غيروا التاريخ، صنعوا مجرى آخر له، استطاعوا أن يضعوا بصماتهم على الحياة، تركوا أسماءهم لامعة في حياتنا، كلما نتذكرهم نتذكر أمجادهم وعطاءهم وبذلهم وتضحياتهم، خذوا غيضا من فيض وقليلا من كثير من أخبارهم: هذا عبد الله بن أم مكتوم، نزل القرآن على لسانه أو نزل القرآن في حاله، يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلبه أن يعلمه شيئًا من الدين، إنه أعمى، هو أعمى البصر لكنه ليس أعمى البصيرة؛ لذلك جاء ينشد الدين، يطلب الهداية، يبحث عن الراحة والسعادة في مكانها الصحيح.
كان محمد -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- أعرض عنه في تلك اللحظة لمصلحة غلبها في ذهنه أنه يدعو صناديد قريش، نزل الخطاب من الله في سورة كاملة: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى)[عبس:1-2]، عتاب من الله؛ هذا الأعمى أشرف من كل صناديد قريش.
هذا الأعمى يترك أثرًا في التاريخ ولا ينساه التاريخ؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم كلما التقى بعبد الله بن أم مكتوم يقول: "مرحبا بمن عاتبني فيه ربي"، ويقول له أحيانًا: "هل لك من حاجة؟" واستخلفه على المدينة مرتين.
هذا الأعمى هو مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الأعمى هو معلم القرآن في المدينة، وهذا الأعمى هو الذي لبس درعه يوم القادسية، ورفع راية الجيش السوداء وهو أعمى! هل هذا معاق؟! في مقاييس رب البشر ليس هذا بمعاق.
أما ربعي بن عامر الذي يرسله سعد بن أبي وقاص؛ ليلاقي رستم قائد الفرس في أعظم لقاء تاريخي بين المسلمين والفرس، أتدرون من ربعي الذي سجل الموقف التاريخي بكلماته العظيمة مع قائد الفرس وبين له العزة والأنفة والاعتزاز والكرامة بهذا الدين؟! ربعي هذا أعرج شديد العرج، وبه قصر قامة، تحدث عنه التاريخ وصفًا لحالته، ومع هذا كان ربعي بن عامر هو ربعي بن عامر.
أما عمرو بن الجموح فهذا الذي له أربعة من الأبناء يوم بدر، ينادي النبي -صلى الله عليه وسلم- للخروج، يريد أن يخرج، يمنعه أبنائه، لم؟ لأن فيه عرجة شديدة، وخافوا على أبيهم كيف يدخل إلى ساحات الورى، وهناك تتطاير الرؤوس وتتناثر الدماء، وهذا أبوهم كبير في السن بعرجته منعوه يوم بدر. جاء يوم أحد فطلب أن يخرج فمنعوه فرفض، وقال: أخرج وأقاتل في سبيل الله وأطلب الشهادة، ويظل يقاتل في سبيل الله بعرجته. وهناك في أحد يقسم على الله يقول: أقسمت عليك يا رب أن لا تغيب الشمس حتى أطأ بعرجتي في خفراء الجنة. يقتل يوم أحد، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يؤكدها بعده: "والذي نفسي بيده، لقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته". أهذا معاق؟!
أبان بن عثمان بن عفان بن عثمان بن عفان، إمام الأمة في المدينة المفتي وعالمها القائم عليها، هل تدرون أن به صمما وحولا وبرصا؟! في مقاييس البشر هذا معاق، لكنه رجل تجاوز الحدود وسجل اسمًا تاريخيًا له الحياة.
عطاء بن رباح، رجل أشل وأعرج وأفطس، وقيل غير ذلك من الأوصاف القبيحة، المذمومة شكلًا، أما مضمونًا وتعاملًا فهو عطاء الذي وصل إلى مرحلة أن يقول أمير المؤمنين فيه: لا يفتي الناس في موسم الحج إلا عطاء، ويقف الأمراء والملوك عليه في صلاته ينتظرونه حتى يصلي ويقضي الصلاة، ثم بعد ذلك يلتفت إليهم ليفتيهم في أمر دينهم. إن كان في مقاييس البشر هو رجل معاق، لكنه تجاوز ذلك بكثير.
نسمع دائمًا عن حاتم ونقول: حاتم الأصم، الفقيه الورع التقي، ومع ذا ترك له سجلًا حافلًا بالكلمات والعبارات والوعظ والتذكير والفقه وغير ذلك.
أما قتادة بن دعامة السدوسي المحدث المفسر الذي بلغ ما بلغ في علم التفسير والحديث يجلس إليه أمم الناس، وافتح أي كتاب تفسير واقرأ ماذا يقول قتادة، وادخل على محركات البحث في الإنترنت وغيرها، واكتب قتادة بن دعامة، وانظر ماذا يخرج لك من علم هذا الرجل، هذا رجل ضرير وأبكم، قال أحمد بن حنبل: "كان قتادة أحفظ أهل البصرة لا يسمع شيئًا إلا حفظه"، أهذا معاق؟!
والأعمش سليمان بن مهران أعمش في عينه، والنخعي أعور، وكلهم سادة وأئمة، في يوم من الأيام التقيا في الطريق فيقول الأعمش للنخعي: يا إبراهيم إن الناس إذا رأونا قالوا: أعمش وأعور، إذا رأونا من بعيد قالوا: هذا أعمش وهذا أعور، قال النخعي: وما عليك أن يأثموا ونؤجر، قال الأعمش: وما عليك أن يسلموا ونسلم.
نفوس علية وصادقة وتقية، سجلوا أجمل تاريخ لهم في الحياة.
الأحنف بن قيس الذي يضرب به المثل، ودعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمغفرة، يضرب به المثل في الحلم والهدوء والتؤدة والأناة، هذا هو، هو صاحب اعوجاج شديد في الرجلين، وقيل: إنه خلق ملتصق الفخذين ثم شق بينهما، وكان به عرج مع قصر قامة، ومع ذا بلغ ما بلغ من المجد والسؤدد.
وموسى بن نصير الذي قاد جيوش المسلمين هناك، فتح الأندلس وأفريقيا، هو أيضًا أعرج شديد العرج، كل أولئك تركوا بصمتهم في الحياة.
وفي وقتنا المعاصر خذ مفتي الديار الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ الذي ترك مجدًا وعلمًا وسؤددًا كان رجلا أعمى. وخذ سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز -عليه وعلى شيخه رحمات متتالية- كان أيضًا رجلا أعمى. وخذ مفتي البلاد في وقتها الراهن سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ هو أيضًا رجل أعمى.
هؤلاء في تصانيف أهل الطب معاقون، لكنهم تجاوزوا ذلك بكثير؛ لأنهم بالفعل عرفوا كيف يسلكون الطريق إلى الله -جل في علاه-.
أسأل الله لي ولكم كل توفيق وسداد ورعاية ورشاد، وأن يرزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه فطوبى للمستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
وبعد: إخوة الإيمان، أوصيكم ونفسي بتقوى الرحمن.
طبيعيٌ أن نقف وقفات عندما نتأمل هذه القصص ونسمع تلك الأخبار، أقطع يقينًا بأنني ما جئت إلا بعشر عشر العشر من قصص هؤلاء الذين تركوا شيئًا كثيرًا في التاريخ، لكنه غيض من فيض يجعلنا نقف في هذه وقفات:
أولها: أن المقياس الحقيقي عند الله -جل في علاه- هو ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
وثانيها: الإعاقة الحقيقية هي الإعاقة التي تعيقك عن طريق الهدى والخير والرشاد، (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)[الأعراف:195]، (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ)[الأعراف:179].
عندما يتأمل يدرك الإنسان أن الإعاقة الحقيقية هي إعاقة الإنسان الذي لا يرى الحق ولا يسلك الحق، ربما يرى بعينه كل شيء إلا الحق، ويسمع بإذنه كل شيء إلا الحلال، ويسعى بقدميه إلى كل شيء إلا الحلال، هؤلاء هم المعاقون حقيقة. المعاقون هم الذين سلموا في أعضائهم ربما، لكن اتجهت بهم هذه الأعضاء إلى ما يغضب الله فاطر الأرض والسماء.
ثالثًا من الوقفات: أجر البلاء، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإذا أحب الله عبدًا ابتلاه"؛ فإذا نزلت بلية في جسده أو ماله أو صحته أو ولده أو عمله أو ظروف حياة فهي عنوان الحب -بإذن الله-، فوظف ذلك الحب في عودة صادقة إلى الله -جل في علاه-.
رابعًا: يجب أن نشكر نعمة الله في كل وقت وآن، في كل لحظة، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)[إبراهيم: 7]، ثم نحول النقم إلى نعم، هذا هو المبدأ الذي يجب أن نعيش عليه، إذا ضاقت عليك ظروف الحياة هنا أو هناك اجعل من هذا الضيق مفتاح فرج وأمل نجاة وإشراقة صباح؛ فبإذن الله -تعالى- من ينظر إلى الأمور بهذه النظرة الإيجابية يكن له في ذلك كل التفاؤل، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يحب الفأل الحسن.
خامسا: لا تعلق فشلك على الآخرين أو الظروف. كثير من الناس يفشل في الحياة، ثم لا يلبث إلا أن يعلق فشله على ظروف الحياة؛ ظروف الزمان المكان الصحبة الأسرة، ثم يعلقها هنا وهناك، الذي يدفع الكرة عن مرماه، لا، أنت مسئول عن نجاحك وفشلك، وأنت القادر -بإذن الله تعالى- على أن تقلب الفشل إلى نجاح.
ولذلك تقول القاعدة السادسة: لا تقف عند أول فشل تفشل، وإنما قم وانطلق إلى النجاحات. هكذا نتعلم من الحياة، قد تواجه بفشل في حياتك الزوجية فلا توفق، قد تواجه بفشل في حياتك العملية فتطرد من عملك، قد تبدأ بتجارة فتفشل، قد تبدأ في دراسة فلا تتمها، لا تقف عند هذا الفشل، بل انطلق مباشرة؛ فلعل من وراء الفشل نجاحات ونجاحات، أولئك المعاقون لو وقف الواحد منهم أمام عينه التي فقدها أو يده التي شلت أو قدمه التي عرجت أو أذنه التي لا يسمع بها، لو وقف أمام هذه الإعاقة ما سجل هذا التاريخ العظيم الذي جعلنا -وبعد مئات السنين- نذكرهم فوق المنابر، وتتكلم عنهم المحابر.
سابعا: أنت قادر -بإذن الله جل في علاه-، والله كرم بني آدم وجعل فيهم من الخصائص والصفات ما فاقت كل المخلوقات، يكفي أن بين جنبيك عقلا يفكر وقلبا يهدي بك إلى النور؛ فالله الله أن ترسم لنفسك هذه الصورة ثم تنطلق -بإذن الله تعالى-، ثم الهمة والهمة والهمة، بثلاثية، حدد هدفًا تسعى إليه في الحياة، وليكن هدفك ساميا، هدفا تسعى إليه في الحياة، يبدأ هذا الهدف برضا الرب -جل في علاه-؛ لأنك ما خلقت في الدنيا إلا لترضي ربك، فتسعى إلى آخرتك، ثم تبحث عن معين يعاونك على تحقيق الهدف ومحرك نحو الهدف، تسمع قصصًا وتروي أخبارًا وتقف على أحداث، فتتحرك همتك؛ لتحقق مجدًا لنفسك، وقبل هذا وذاك إنه توفيق الله، إنه توفيق الله؛ فلا شيء إلا بيد الله، خزائن السموات والأرض بيده؛ فالله الله أن تبحثوا عن توفيق الله وفق مراد الله ومن رضا الله.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلنا دائمًا وأبدًا من أصحاب الهمم العالية والعزائم الصادقة.
ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير...