المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
العربية
المؤلف | عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
أَمَا إنه لا حَرَجَ في المتعة والترفيه والتسلية والاستجمام من غير إسراف ولا منكر، ولا تضييع للحقوق والواجبات، فإن ذلك من المتعة والمباحات، وفيه تجديد للطاقة وتنشيط للنفس، ولكن من غير هدر وتبذير للأوقات الثمينة، ومن غير إدمان وإفراط في الغفلة، فإن الأمة بحاجة ماسَّة إلى طاقات وأوقات أبنائها، فسددوا وقاربوا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النِّسَاءِ: 131].
معاشر المسلمين: اتقوا الله -تعالى- وبادروا أعماركم بأعمالكم، وحققوا أقوالكم بأفعالكم، فإن حقيقة عمر الإنسان ما أمضاه في طاعة الله، والكيِّس مَنْ دان نفَسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَنْ أَتْبَعَ نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأمانِيَّ:
إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا | فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونْ |
وَلَا تَغْفُلْ عَنِ الْإِحْسَانِ فِيهَا | فَمَا تَدْرِي السُّكُونُ مَتَى يَكُونْ |
عباد الله: قد ودعتم شهر رمضان، موسم الفضل والطاعة والغفران، فليتَ شعري مَنْ المقبولُ فنهنيه؟ وَمَنِ المردودُ فنعزيه؟
تقبَّل اللهُ طاعتَكم، وغفر ذنوبكم، وضاعَف لكم الأجرَ.
ثم استقيموا إلى الله وتقربوا منه؛ فإن الاستقامة على الطاعة من علامات قَبُول العمل، وما تقرَّب عبدٌ إلى الله بشيء أحبَّ إليه مما افترضه عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلى الله بالنوافل حتى يحبه، ومن تقرَّب إليه بشبر تقرَّب إليه ذراعًا، وَمَنْ تقرَّب إليه ذراعًا تقرب إليه باعا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، فحافظوا على الفرائض، ولا تهجروا القرآن، واحرصوا على قيام الليل وصيام الهواجر، فعن سفيان بن عبد الله الثقفي -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول الله: "قُلْ لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: قل: "آمنتُ بالله، ثم استقم".
ألا وإن مِنْ هدي نبيكم -صلى الله عليه وسلم- صيام ستة من شوال، فعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ صام رمضانَ ثم أتبَعَه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر" ومعنى ذلك أن الحسنة لَمَّا كانت بعشر أمثالها كان صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة من شوال بشهرين، فذلك صيام سنة.
معاشر المسلمين: الزمن كالمال، كلاهما يجب الحرصُ عليه والاقتصادُ في إنفاقه وتدبير أمره، وإذا كان المال يمكن جمعه وادخاره، بل وتنميتُه فإن الزمن عكس ذلك، فكلُّ دقيقةٍ ولحظةٍ ذهَبَت لن تعود إليكَ أبدا، ولو أنفقتَ ما في الأرض جميعًا، وإذا كان الزمن مقدَّرًا بأجل معيَّن، وعمر محدَّد لا يمكن أن يقدَّم أو يؤخَّر، وكانت قيمتُه في حُسْن إنفاقه، وجَب على كل إنسان أن يحافظ عليه، ويستعمله أحسنَ استعمال، ولا يفرِّط في شيء منه قَلَّ أو كَثُرَ، ولكي يحافظ الإنسان على وقته يجب أن يعرف أين يصرفه، وكيف يصرفه، ألا وإن أعظم المصارف وأجلها طاعة الله -عز وجل-، فكل زمن أنفقته في تلك الطاعة لن تندم عليه أبدا.
عباد الله: العمر يسيرٌ، والزمان قصيرٌ، وما مضى فات، وكل ما هو آت آت، والعمر كله موسم طاعة، فلا مجال للتفريط فيه، وكله لحظة امتحان واختبار فلا مجال للتقصير فيه والانتظار، وبهذا العمر اليسير يستطيع الإنسان أن يشتري الخلود الدائم في الجنان، والبقاء الذي لا ينقطع مع الزمان، وفي المقابل: فإن من فرط في العمر وقع في الهلاك والخسران، فينبغي للعاقل أن يعرف قدر عمره، وأن ينظر لنفسه في أمره فيغتنم ما يفوت استدراكه فربما بتضييعه هلاكه.
معاشر المسلمين: إن الإجازة الصيفية التي تعيشونها فرصة للراحة ولقضاء الحقوق والفوائت، والتزود للمستقبل العاجل والآجل، وليست إجازة لتعطيل الواجبات، وإضاعة الحقوق والاستغراق في الشهوات، وزيادة المتراكمات، وإثقال الكواهل بالأحمال والتبعات، فاتقوا الله في أهليكم وأولادكم، ربوهم على الحرص على الوقت وبذله فيما ينفع؛ من علم أو عمل، من كسب حلال أو طاعة وعبادة ذي الجلال، فتلك هي تربية الرجال.
إن تربية الناشئة على هدر الطاقات والأوقات يعودهم على تضييع الحقوق والواجبات وعدم تحمل الأمانة والمسئوليات، وعلى اللامبالاة وعدم المقاومة بمراحل الحياة والفراغ يؤول بهم إلى خطر الفتن والأهواء والانحراف والبلاء.
عباد الله: إن الله سيسألكم عن أوقات العمر فيما أفنيتموها، فلن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: "عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعلم علمه ماذا عمل فيه" فإذا جاء المرء للحساب وانتصب على قدميه حافيا عاريا بلا حجاب، ينتظر السؤال ويستعد للجواب، فسئل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، يا لله ما أعظم الهول، يا لله ما أعظم الهول! وما أشد الخطب!
فيجب أن يتساءل كل واحد منا إذا وجه له هذا السؤال: ماذا سيخطر بباله؟ وما هو العمل الذي قد هيأه طيلة شبابه؟
فأعدوا عباد الله للسؤال جوابا، وللجواب صوابا.
جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزُّمَرِ: 18].
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
عباد الله: إن العاقل لا يرضى أن يضيع لحظات أنفاسه وهي تنقص من عمره تضيع سَبَهْلَلًا، لا في أمر الدنيا ولا في أمر الآخرة، وإن الفراغ نعمة إذا حسن استغلاله، ونقمة إذا ضاع استعماله، عن ابن عباس -رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" فتبذير الأوقات غبن ونقص في الدين، وضعف وسخافة في الرأي، قد ابتلي فيه كثير من الناس، فاتقوا الله في أنفسكم ورعيتكم، واغتنموا الفرص واحرصوا عليها، عن ابن عباس -رضي الله عنهما قال: قال رسو الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".
أيها المربون: أمَا إنه لا حرج في المتعة والترفيه والتسلية والاستجمام من غير إسراف ولا منكر، ولا تضييع للحقوق والواجبات، فإن ذلك من المتعة والمباحات، وفيه تجديد للطاقة وتنشيط للنفس، ولكن من غير هدر وتبذير للأوقات الثمينة، ومن غير إدمان وإفراط في الغفلة، فإن الأمة بحاجة ماسَّة إلى طاقات وأوقات أبنائها، فسددوا وقاربوا.
وبعدُ معاشر المسلمين: إن ما يجري بين المسلمين من الشقاق والتنافر والصراع والتناحر من أعظم المواجع، وأفظع المصائب والفواجع، وأشد الخطوب، وأثقل الكروب على القلوب، وإن حقن دماء المسلمين وصيانة أعراضهم وأموالهم من مقاصد الشرع ومسلَّمَات الدين القويم، ومقتضيات المنطق السليم، وإن العالم الإسلامي اليوم يتطلع إلى تحقيق السلام بين إخوتنا الأفغانيين ويرحب بالهدنة بينهم، بعدما حل بهم من ويلات الحروب والصراعات والفرقة والنزاعات التي قد أن تحت وطأتها الأطفال والثكالى، واستنجد تحت هدمها الأبرياء بالمولى -تعالى-.
أيها الإخوة الأفغان: الصلح خير، فاتقوا الله وأصلحوا، واعفوا واصفحوا (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)[الْحُجُرَاتِ: 10]، (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[الشُّورَى: 43]، فالتنازل عن المصالح من أجل حقن دماء المسلمين فضل عظيم، ومصلحة كبيرة، وشجاعة وبطولة، فاحقنوا دماء شعبكم وأمتكم، فاحقنوا دماء شعبكم وأمتكم، وأصلحوا ذات بينكم وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، جمع الله شملكم ووحد كلمتكم وأصلح ذات بينكم، وألف بين قلوبكم، وأطفأ نيران الفتنة والعنف في بلادكم.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك، اللهم وفقه وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى، اللهم وفقهما لما فيه خير للإسلام والمسلمين ولما فيه صلاح البلاد والعباد يا رب العالمين.
اللهم احفظ حدودنا، وانصر جنودنا يا قوي يا عزيز، اللهم لك الحمد على ما وفقت من صيام شهر رمضان وقيامه، وتلاوة كتابك العزيز، اللهم تقبله منا يا رب العالمين، اللهم تقبله منا يا رب العالمين، واجعله خالصا لوجهك الكريم، موجبا للفوز لديك في جنات النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.