العزيز
كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج |
أيها الحُجَّاجُ: إن الله على كل شيء شهيد، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وقد بُحَّتْ حناجرُكم على رؤوس الأشهاد، ترددون كلمة التوحيد، ورددت جبال مكة صدى تلبيتكم إلى يوم العيد، لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شريك لك لَبَّيْكَ، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فالبراءَ البراءَ مِن الشِّرْكِ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أحمده -سبحانه- وأستعينه على كل ما مضى وما هو آتٍ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك، تفضَّلَ على حُجَّاج بيته بتمام حجهم بعد أن وقفوا على صعيد عرفات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى والبيِّنات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله؛ فتقواه خير لباس وزاد، وأفضل وسيلة إلى رضا رب العباد، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الْأَنْفَالِ: 29].
حجاج بيت الله الحرام:
بُشْرَى لِمَنْ لَبَّى النِّدَاءَ وَيَمَّمَا | صَوْبَ البِقَاعِ مُهَلِّلًا مُتَرَحِّمًا |
هنيئا لكم حجاجَ بيت الله؛ إذ هداكم الله وأكرمكم ومَنَّ عليكم فيَسَّرَ لكم الحجَّ حينَ لم يقدر عليه الكثيرُ من الناس، هنيئا لكم قد وفقتُم لأداء مشاعر الحج، أحد أركان الإسلام الخمسة، فلبيتُم النداءَ، وأحسنتُم الأداءَ، هنيئا لكم قد رُفعت درجات، وغُفرت الذنوب، وكُفرت الخطايا وسُترت العيوب -بإذن الله- علام الغيوب.
هنيئا لكم أنفقتم المال وصرفتم الأوقات، وبذلتم الجهد والطاقات، وخضتم غمار التعب والمشقة، وجدتم بالغالي والنفيس، تركتم الأهل والأوطان، تلبيةً لنداء ذي الجلال والإكرام، جئتم فاجتمعتم في أفضل مكان، وفي أشرف زمان، تجردتم من زينتكم ولباسكم، وأقبلتُم إلى الله شُعثا ملبِّين، وفي ذُلّ وسَكِينة منكسرين، ولجأتم إليه وحدَه مخلصينَ، فأبشروا فالله أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، "وما من يوم أكثر من أن يُعتق اللهُ فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه لَيدنو ثم يباهي بأهل الموقف ملائكتَه، فيقول: هؤلاء عبادي جاءوني شُعْثًا غُبْرًا، من كل فج عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي، فكيف لو رأوني؟ فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، وكزبد البحر، لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفورا لكم". (رواه ابن حبان).
فَبُشْرَاكُمْ يَا أَهْلَ ذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي | بِهِ يَغْفِرُ اللَّهُ الذُّنُوبَ وَيَرْحَمُ |
فَكَمْ مِنْ عَتِيقٍ فِيهِ كُمِّلَ عِتْقُهُ | وَآخَرُ يُسْتَسْعَى وَرَبُّكَ أَرْحَمُ |
أيها المسلمون: يودع الحُجَّاجُ بيتَ اللهِ الحرامَ هذه الأيام ولسانُ حالهم: "عائدون آيبون تائبون، لربنا حامدون" يحدوهم الفرحُ إلى أوطانهم وبلدانهم قد قضوا مناسكهم وتخففوا من أثقالهم، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يُونُسَ: 58].
ولعلهم يعودون لأوطانهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، فيرجعون بغنيمة تستوجب الحمد والشكر، قد غفر الذنب، وستر العيب، وكُفِّرَت الخطايا، فالحمد لله على كماله وجلاله، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
معاشر الحجاج: إن لكلِّ إقبالٍ إدبارًا، ولكل جمع تفرًّقًا وأخبارا، فبعدما رأينا الحُجَّاج يأتون من كل فج عميق، وبلد سحيق ليشهدوا منافع لهم، وتجمعت الوفود الكثيرة، والجموع الغفيرة في المشاعر المقدسة، قد اختلفت لغاتهم وألوانهم وبلدانهم وأجناسهم وأعمارهم، لكن الإسلام لَمَّ شَمْلَهم ووحَّد قِبْلَتَهم ومناسكهم، مُحْرِمُونَ بلباسٍ واحدٍ، ويلبُّونَ بنداء واحد، اجتمعوا في صعيد واحد قد ألَّفَ اللهُ بين قلوبهم، (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)[الْأَنْفَالِ: 63].
وبعد قضاء النُّسُك وإذ بالجموع الغفيرة والأعداد الكبيرة تودع المشاعر بمشاعر فياضة ولسانُ حالهم:
لَكِ يَا مَنَازِلُ فِي الْقُلُوبِ مَنَازِلُ |
وتتفرق الجموع في منظر مهول ومؤثِّر، ومشهد عظيم ومعبِّر، إن هذا الفراق بعد الاجتماع خلال وقت قليل ليذكر بفراق الدنيا، وتعاقب الأجيال جيلا بعد جيل، جيل يولَد ويهنَّأ به ويُستقبَل، وجيل يودَّع ويُعزى فيه وينتقل، وكل من عليها فانٍ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
معاشرَ الحُجَّاجِ: إن في الحج لموعظةً لمن يتذكَّر، وللطاعة في النفس ثمرة وأثر، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والحج مورد ومنهل للتزود من التقوى، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[الْبَقَرَةِ: 197]، فالعبادة إذا لم تقرب من الله وتبعد عن محارم الله فإن فيها دَخَنًا أو مخالفة للدين، وإنما يتقبل الله من المتقين.
أيها الحاج: ما كان في ذمتك من فرض فَاقْضِهِ، وما كان على وجه الأرض من خصم فأَرْضِه، وما كان مِن حقِّ فأدِّه، وأَقِمْ فرائضَ اللهِ وفيها فَجَاهِدْ، والْزَمْ سُنَّةَ رسولِ اللهِ وعليها فعَاهِدْ، واطلب النجاةَ والخلاصَ، وجَدِّدِ العهدَ مع الله بعزم ووفاء وإخلاص.
أيها الحُجَّاجُ: إن الله على كل شيء شهيد، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وقد بُحَّتْ حناجرُكم على رؤوس الأشهاد، ترددون كلمة التوحيد، ورددت جبال مكة صدى تلبيتكم إلى يوم العيد، لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شريك لك لَبَّيْكَ، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فالبراءَ البراءَ مِن الشِّرْكِ، فلا يقبل الله عملا فيه مثقال ذرة من شرك، وقد قال سبحانه: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" (رواه مسلم).
فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، الزموا شرعكم واحرصوا على ملتكم.
وبعد أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم، كحرمة يوم النحر، في شهر ذي الحجة، في البلد الحرام، ألا لا ترجعوا كفارا، يضرب بعضُكم رقابَ بعض.
أيها الحُجَّاجُ: تلكم شرعة ربكم ووصية نبيكم فالزموها، ذلك خير لكم عند بارئكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على كمال الدين وتمام النعمة، وظهور المحجة، وسطوع الحُجَّة، وتمام الحَجَّة، حمدا يكافئ ترادف آلائه، والصلاة والسلام على رسله وأنبيائه.
حجاج بيت الله الحرام: إن من علامات قبول الطاعة الاستقامة والثبات والعكوف عليها، ومحاسبة النفس على التفريط والتقصير فيها، تلكم صفات المؤمنين الخاشعين المخلصين، (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)[إِبْرَاهِيمَ: 27].
ألا وإن الاستقامة هي حقيقة الاستسلام والثبات على الدين، والصدق والوفاء؛ فعن سفيان بن عبد الله الثقفي -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: "قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ".
الاستقامة نجاة من الخوف، وأمان من الهلع والحزن، بشارة عظمى، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[فُصِّلَتْ: 30].
الاستقامة من درجات الكمال، ولا يقدر عليها إلا ذو العزم والخصال، وقد قال ذو العزة والجلال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)[النَّحْلِ: 91-92].
حُجَّاجَ بيتِ اللهِ الحرامِ: إن من الواجب على كل مسلم أن يحمد الله -عز وجل- على ما مَنَّ به من أمن وأمان في هذه البلاد المباركة، التي تستقبل هذه الأعداد الكثيرة من المسلمين من مختلف أنحاء العالَم، وتقوم بضيافتهم وتهيِّئ لهم المشاعر في أحسن مستوى، وتقدِّم لهم الخدمات في أعلى قدر ممكن؛ وذلك تحت رعاية مباشرة من خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين -حفظهما الله-، فالشكر والتقدير لولاة الأمر القائمين على خدمة الإسلام والمسلمين، شكر الله سعيهم، وتقبَّل عملهم، وكتب لهم ذلك في موازين حسناتهم.
أيها الحُجَّاج: التزموا بالتنظيم والتعليمات التي تساعد في تحسين أداء الخدمات، وتسهِّل عليكم الإجراءات، وتساهم في توفير الأمن واستقرار الحياة، وارفقوا بأنفسكم، وتجنبوا المخالَفات، جعل الله حجكم مبرورا، وسعيكم مشكورا، وذنبكم مغفورا، وأعادكم إلى أهلكم ودياركم سالمين غانمين مأجورين، نستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم، زوَّدَكم اللهُ التقوى، وغفر ذنوبكم، وحقَّق آمالكم. إنه سميع مجيب.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على خير البرية وأذكى البشرية، محمد بن عبد الله وقد أمركم الله بذلك في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم اجعل هذا البلد آمِنًا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه خير للإسلام والمسلمين، ولما فيه صلاح البلاد والعباد يا رب العالمين.
اللهم احفظ حدودنا، وانصر جنودنا، وأيِّدهم بتأييدك، اللهم اشف مريضهم، واجبر كسيرهم، وتقبَّل موتاهم، يا رب العالمين.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].