الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
والصيام من الأعمال البدنية، لكنه يختلف عن الصلاة والحج في كونه كفا عن المشتهيات، وليس أفعالا لها مقدمات يؤديها المكلف فتهيئ قلبه لهذه العبادة العظيمة؛ كما هو الحال في الصلاة والحج؛ ولذا فإن كثيرا من الصائمين لا يستشعرون عظمة رمضان، ولا يحسّون بقيمة الصيام والقيام إلا بعد ذهاب بضعة أيام منه؛ لأن قلوبهم لم تتهيأ له ..
الحمد لله الحليم العليم، البرّ الرحيم؛ شرع لعباده من الأعمال الصالحة ما يكرّس عبوديّتهم له، وفتح لهم من أبواب الخير ما يقربهم إليه، وكرر عليهم مواسم البركة؛ ليغسلوا بها أدرانهم، ويتزودوا منها ما يكون ذخرا لهم في أخراهم، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه؛ خلقنا من العدم، وأغدق علينا النّعم، وهدانا لدينه: (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ) [الأعراف:43].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ما تقرّب إليه المتقرّبون بأحب إليه مما افترضه عليهم، ولا يزال عبده يتقرّب إليه بالنّوافل حتى يحبه، فإذا أحبه عصمه من المحرمات، وأعانه على الطاعات، وأجاب له الدعوات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يبشر أصحابه -رضي الله عنهم- برمضان فيقول: "أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله -عزّ وجلّ- صيامه، تفتّح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم". صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستعدّوا لاستقبال شهر التقوى بملازمة التقوى؛ فإنها من أعظم مقاصد الصيام: (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ) [البقرة:183].
أيها الناس: لما خلق الله تعالى البشر جعل سبحانه من سنته فيهم التدرج، ولو شاء -عز وجل- لخلقهم خلقا واحدا مكتملا: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارَاً) [نوح: 14]، أطوار في الرحم، وأطوار بعد الخروج إلى الدنيا يتدرج فيها الإنسان من طور إلى آخر: (هُوَ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلَاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوَا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُوْنُوْا شُيُوخَاً) [غافر: 67].
وأتت سنة التدرج في الإنسان على جميع أجزائه، حتى إنّ عقله ليتدرج في نموّه وتتسع مداركه لاكتساب المعارف، ويتدرّج في سلوكه للتحلي بالفضائل، وتكون سرعته في الترقي بحسب عزمه وهمته وعمله؛ فكلما كان عزمه أقوى، وهمته أعلى؛ فإنه يسبق أقرانه، ويدرك من كانوا أمامه.
والله -سبحانه وتعالى- حين شرع الشرائع للبشر فإنه -عز وجلّ- راعى سنّة التدرّج فيهم، فجاءت أوامره ونواهيه متدرّجة؛ ليوافق الأمر الشرعي تكوينهم الخلقي، فلا يكون بينهما تنافر ولا تعارض، وهذه حكمة الحكيم العليم: (الَّذِيْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السّجدة: 7].
إن البشر لا بد أن يؤخذوا بالتدرج في أمورهم كلها، فهم لا يستطيعون الامتناع فجأة عما ألفوا، ولا الامتثال الفوري لما لم يعتادوا، ومثال الأول: التدرج في تحريم الخمر؛ إذ نزل على أربع مراحل، ومثال الثاني: التدرج في فرض الصلاة والصيام، وكان على مراحل أيضا، وقد بيّن معاذ -رضي الله عنه- سبب ذلك فقال: "وكانوا قوما لم يتعودوا الصيام، وكان الصيام عليهم شديدا". رواه أبو داود.
بل أعجب من ذلك أن الله تعالى بعلمه بطبيعة البشر، وحكمته في التشريع لهم؛ شرع للفرائض البدنية مقدّمات تكون قبلها إذا حافظ المكلّف عليها، فإنها تهيئه لها، وتعينه عليها، وتجعله يتلذّذ بها؛ ذلك أن القلوب والأبدان تحتاج إلى ترويض وتدريب على فعل الطاعات، والكفّ عن المحرّمات، وينبغي تهيئتها لذلك حتى تجد لذة في الامتثال؛ ولئلا يكون فعل الطاعة أو الكف عن المحرم ثقيلا عليها.
ففي الصلاة شرع الله تعالى الوضوء وجعله شرطا لها، وشرع التبكير إلى المسجد، والمشي إليه بسكينة ووقار، والدنوّ من الإمام، وجعل ذلك من سننها، بل يحسب ذلك صلاة له، وفي الحديث: "لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه". رواه الشيخان.
كل هذه الأعمال لأجل أن يتهيّأ المصلّي للفريضة؛ فيؤديها بخشوع وطمأنينة. وحريّ بمن حافظ على هذه المقدّمات للصلاة أن يجد في صلاته خشوعا ولذّة لا يجدها من فرط في مقدّماتها.
وفي نسك الحج والعمرة يتهيّأ المسلم بسفر قد يطول، ويتّخذ ملابس أخرى للنسك سوى ملابسه التي اعتادها، ويلبي في الميقات؛ إشعارا لقلبه بالتلبس بالنسك، ويستمر مهلا في طريقه إلى مكة، فلا يدخلها إلا وقد تهيأ قلبه لأداء نسكه، وامتلأ خشوعا لله تعالى، وشوقا لبيته الحرام.
والصيام من الأعمال البدنية، لكنه يختلف عن الصلاة والحج في كونه كفا عن المشتهيات، وليس أفعالا لها مقدمات يؤديها المكلف فتهيئ قلبه لهذه العبادة العظيمة؛ كما هو الحال في الصلاة والحج؛ ولذا فإن كثيرا من الصائمين لا يستشعرون عظمة رمضان، ولا يحسّون بقيمة الصيام والقيام إلا بعد ذهاب بضعة أيام منه؛ لأن قلوبهم لم تتهيأ له، فلما صاموا أول أيامه، وقاموا أول لياليه؛ استشعروا ذلك بعد فوات بعضه عليهم، ومنهم من ينشط أول الأيام ثم يصيبه التعب والملل.
إن سنة الله تعالى في عباده بالتدرج تأبى أن ينقلب الإنسان انقلابا كليّا بمجرد الإعلان عن دخول الشهر، بحيث يلازم القرآن وقد كان هاجرا له، ويطيل المكث في المسجد وقد كان لا يعرفه إلا في الفريضة، ويتخلى عن فضول النظر والكلام والطعام وقد ألف ذلك واعتاده طوال العام، إنه ليس آلة يدار محركها بمجرد إهلال الهلال، بل يحتاج إلى تهيئة ورياضة تعينه على أن يستثمر كل رمضان، فلا يضيع عليه لحظة منه.
إن كثيرا من الناس يحدثون أنفسهم حال دخول الشهر بانقلاب كلي في حياتهم، ويعدون ربهم سبحانه بخير يراه منهم، ويبدؤون أول يوم كذلك، لكن ما يلبث القارئ أن يسأم، والماكث في المسجد أن يمل، ويتثاقل المصلي خلف الإمام، ويتذرع بطول الصلاة أو كثرة الركعات أو غير ذلك، لكن العلة فيه هو؛ لأنه لم يتهيأ للشهر، ولم يعد عدته له، ولم يروض نفسه على الطاعة قبل دخوله.
وفي كل المسابقات الثقافية والرياضية والعسكرية وغيرها لا بد من فترة للتدريب كافية، ومن نافس بلا تدريب فإنه يخسر ولا يربح، ويفشل ولا ينجح.
وكثير من الأعمال في رمضان هي أعمال بدنية تحتاج إلى صبر وتحمّل، فمن دخل عليه الشهر ولم يروض نفسه لها فإنه لن يخلو من أحد حالين:
إما أن يملّ من مغالبة نفسه، وقهرها على القراءة ونوافل العبادات، فينقطع عن المتسابقين، ويكتفي بالفرائض مع تقصيره فيها، ويحرم بركة رمضان وفضله، وهذا حال كثير من الصائمين إن لم يكن أكثرهم، تجد الواحد منهم في أول رمضان يحافظ على التراويح، ويقرأ كثيرا من القرآن، ثم يمل ذلك، ويتعب من المجاهدة، فيهجر القرآن، ويتثاقل عن النوافل، وربما فرّط في بعض الفرائض، وأمضى أوقاته فيما يضره ولا ينفعه، حتى يمضي الشهر وهو بائس يائس خاسر.
وإما أن يستمر في مجاهدة نفسه، وقهرها على القراءة والصلاة وأنواع القربات ولو لم تجد لذة لذلك؛ حتى تألف الطاعة بعد مرور أيام وليالي ضاعت عليه في مغالبة نفسه، وهذا خير من الأول.
وخير منهما من لا يدخل عليه رمضان إلا وقد روض نفسه على أنواع من الطاعات، ينتظر هلاله ببالغ الصبر وغاية الشوق؛ لينال بركة الشهر، ويستثمر أوقاته، ويغرف من حسناته.
وتأملوا -عباد الله- حكمة الشارع الحكيم حين شرع الصيام في شعبان، حتى كان أكثر صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في شعبان، وفي بعض الروايات أنه كان يصوم شعبان كله إلا قليلا منه، وفي روايات أخرى أنه صام شعبان كله.
فكان الصيام في شعبان مقدمة تهيئ المكلّف لصيام رمضان، ومعلوم أن من أكثر الصيام في شعبان كفّ عن كثير من فضول الكلام والنظر وغيرها، وأكثر من قراءة القرآن، وبكر للمساجد؛ لأن صيامه يمنعه مما كان يفعل وهو غير صائم، فلا يدخل عليه رمضان إلا وقد روّض نفسه على الكف عن الحرام والفضول، وألف الصيام والقرآن وكثرة الذكر والصلاة.
فروضوا أنفسكم -أيها المؤمنون- على العبادة أياما؛ لتنعموا بلذّتها في الشهر كله؛ ولتظفروا بما وعد الله تعالى فيه الصائمين القائمين، وقد قال نبينا –صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير: أقبل، ويا باغي الشر: أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة". رواه الشيخان.
بارك الله لي ولكم في القرآن...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، نحمده على نعمه العظيمة، ونشكره على آلائه الجسيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وخذوا من صحتكم لمرضكم، ومن فراغكم لشغلكم، ومن حياتكم لموتكم، ومن دنياكم لآخرتكم؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُوْنَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18].
أيها المسلمون: كل عمل يريد صاحبه أن يحقق نجاحا فيه فإنه يحتاج إلى قناعة به، واستعداد نفسي له، وقدرة جسدية على تحقيقه، والتهيئة النفسية والذهنية والجسدية للعمل الصالح في رمضان قبل دخوله سبب لقوة العزم فيه، والجد في استثماره، والاجتهاد في أنواع الطاعات.
ومن التهيئة النفسية إزالة ما يشغل النفس، ويقلق الفكر، والبعد عنه، فإن كان لا بد منه فيؤجل إلى ما بعد رمضان. وتعطيل المجالس والدوريات التي اعتادها الناس، وهي لا تخلوا من قيل وقال ولغو الكلام، وجعل هذا التخفيف لأجل استثمار الشهر الكريم، وإقناع النفس أن رمضان موسم إن فات الربح فيه فلا يمكن تعويضه، وأنه أيام معدودات سرعان ما تنقضي كما انقضى في سالف الأعوام، وأنه إن أدرك هذا الرمضان فقد لا يدرك رمضان القابل، وكم في القبور من أناس صاموا رمضان الفائت!
وقبل ذلك وبعده عقد العزم على البعد عن المحرمات والملهيات من فضائيات وغيرها؛ فإن مواقعة المحرّم سبب للصدود عن الطاعة واستثقالها.
إن هذه التهيئة النفسية تقنعه بأهمية رمضان، وخشية فوات فضله، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له". رواه الترمذي.
ومن التهيئة الذهنية الانكباب قبيل دخول الشهر على قراءة فضائل رمضان وصيامه وقيامه، وفضائل قراءة القرآن، وفضائل العشر الأخيرة، وفضائل ليلة القدر، وتدبر ما ورد في ذلك كله من الآيات والأحاديث، ومعرفة ما فيها من الفقه والعلم؛ فإن معرفة فضل ذلك تحفز النفس إلى تحصيله، وعدم إضاعة شيء منه.
وللعلماء مؤلفات وأبواب في مصنفاتهم أفردوها في فضل رمضان وصيامه وقيامه وقيام ليلة القدر، وجمعوا النصوص الكثيرة فيها، فحري بمن أراد أن يحفز نفسه على العمل الصالح أن يطالعها قبل دخول الشهر؛ ليكون في شوق بالغ إلى تحصيل هذه الأجور العظيمة، وليطالع حال النبي –صلى الله عليه وسلم- في رمضان، وحال سلف هذه الأمة؛ فلعله يتأسى بهم.
وإذا كان التنافس بين الأسواق محموما، وكل سوق في مقتبل رمضان يرغب الزبائن في الشراء منه دون غيره، بإصدار قوائم بالبضائع المخفضة، والناس يختارون ما كان أقل سعرا ليوفروا شيئا من المال، ويولون ذلك عناية فائقة، فلأن يعتني الناس بما هو أهم من ذلك أولى؛ وذلك بمطالعة ما ورد في رمضان من الأجور العظام؛ لئلا يفرطوا في شيء منها.
ومن التهيئة الجسدية لاستثمار رمضان ترويض النفس قبل دخول رمضان على التبكير للمسجد، والمكث فيه طويلا قبل الصلاة وبعدها، والمحافظة على نوافل العبادات، والإكثار من الذكر وقراءة القرآن، وكثرة الصوم في شعبان؛ حتى لا يدخل رمضان إلا وقد روض نفسه على الجد في الطاعات، والمنافسة في اكتساب الحسنات.
ومن التهيئة البدنية التخفف من الصوارف والمشاغل، وسرعة إنجازها قبل دخول الشهر، وتأجيل ما لا يمكن إنجازه، وتوفير ما يحتاجه البيت للصيام وللعيد قبل دخول رمضان؛ ليبتعد عن الأسواق ولغطها ومنكراتها طيلة الشهر؛ وليسلم مما يخرق صيامه؛ وليتفرغ لعبادة الله تعالى في رمضان كله، فلا يضيع منه شيئا أبدا.
اللهم بلغنا رمضان، وسلمه لنا، وسلّمنا له، وتسلّمه منا متقبّلا.
وصلوا وسلموا على نبيكم...