البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان |
ولما تولى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- الخلافة ارتدت بعض القبائل العربية، وامتنع بعضها عن دفع الزكاة، فجهز الجيوش لمحاربة المرتدين، واستشهد فيها عدد كبير من الصحابة، وكان من بين هؤلاء سبعون قارئاً، وقد هال ذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- واستشعر خطورة الأمر بذهاب شيء من...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: القرآن الكريم كلام الله -تعالى- الذي هو خير الكلام وأحسنه، وأصدقه وأنفعه، تعهد الله بحفظه، فقال -سبحانه-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر:9]؛ أي: حافظون له "في حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله، أودعه الله في قلب رسوله، واستودعه فيها ثم في قلوب أمته، وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص، ومعانيه من التبديل".
وإن من حفظ الله -تعالى- لكتابه أن يسر حفظه وجمعه، كما قال -سبحانه-: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)[القيامة:17-18]، ولفظ الجمع حين يطلق على زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيراد به حفظه عن ظهر قلب وكتابته على الأدوات المتوفرة ذلك الوقت، وحين يطلق في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فيقصد به كتابة القرآن الكريم في مصحف واحد مسلسل الآيات مرتب السور، وحين يطلق في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فيقصد به نسخ المصحف الذي كتب في عهد أبي بكر بمصحف واحد، وتوزيع نسخه على الأمصار، وإلغاء ما سواها مما عند الناس.
ولقد حظي القرآن -بحفظ الله عز وجل- منذ أن كان في السماء حيث أودعه -سبحانه- كتاباً مكنوناً، وأقسم الله -تعالى- على هذه الحقيقة بقسم عظيم فقال: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ)[الواقعة:75-80]، ويؤكد الله -تعالى- وصفه بكونه محفوظاً في قوله -تعالى- (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)[البروج:21-22].
وقد حفظ الله -عز وجل- القرآن وهو في طريقه إلى الأرض فجاء به روح مطهَّر، فما للأرواح الخبيثة عليه من سبيل، قال -تعالى-: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)[الشعراء:210-212]،حفِظه بالحرس الأقوياء من الملائكة، وبالكواكب التي تحرق وتمنع من أراد منهم استراق السمع.
ثم حفظ الله -عز وجل- كتابه على الأرض بواسطة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي استقبله فأحسن الاستقبال، وحفظه أتم حفظ، وقام به خير قيام، وبلغه أحسن تبليغ، قال -تعال-: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)[القيامة:16-17]، وقال -تعالى-: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى)[الأعلى:6].
وكان جبريل -عليه السلام- يدارس الرسول -صلى الله عليه وسلم- القرآن كل عام، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: "كان يَعْرضُ على النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن كل عام مرةً، فعرضَ عليه مرتين في العام الذي قبض".
وقد باشر النبي -صلى الله عليه وسلم- تعليم المسلمين القرآن بنفسه، وأمره الله -عز وجل- بأن يقرأه على الناس على مكث، أي: تؤدَة وتمهل؛ كي يحفظوا لفظه ويفقهوا معناه، قال تعالى-: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا)[الإسراء:106]، فكان من نتيجة ذلك أن كثر الحفاظ في عهد النبي – عليه الصلاة والسلام-.
وكل حافظ للقرآن كان ينشر ما حفظه، ويعلمه لغيره من الذين لم يشهدوا نزول الوحي، فشاع حفظه بين الرجال والنساء، وخير دليل على كثرة الحفاظ في زمن النبوة أنه قتل منهم في بئر معونة المعروفة ب (سرية القراء) سبعون رجلاً، كما قتل منهم يوم اليمامة في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- سبعون قارئاً.
ولم يكتف النبي -صلى الله عليه وسلم- بحفظ القرآن وإقرائه لأصحابه، وحثهم على تعلمه وتعليمه، بل جمع إلى ذلك الأمر بكتابته وتقييده في السطور، فكان كلما نزلت عليه آيات دعا الكتَّاب فأملاه عليهم فيكتبونه، وبذلك كان القرآن مكتوباً كله بأمره في عهده -صلى الله عليه وسلم-، وقد وردت أحاديث تدل على وجود القرآن الكريم مكتوباً في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن ذلك: ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يُسَافر بالقرآن إلى أرض العدو"، وفي لفظ لمسلم: أن رسول الله -صلى الله عيه وسلم- قال: "لا تسافروا بالقرآن، فإني لا آمنُ أن يناله العدو".
وقد أذن -صلى الله عليه وسلم- للصحابة بكتابة القرآن الكريم؛ فعند مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه"، فهذا الحديث يدل على أن القرآن فقط كان مأذوناً لهم في كتابته.
وقد كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- كُتَّاباً يكتبون له الوحي، وكان يأمرهم بكتابته فور نزوله، أخرج البخاري عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أنه قال: "لما نزلت: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[النساء:95] دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيداً فكتبها"، وأخرج ابن أبي داود أن زيد بن ثابت قال: "كنت جار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان إذا نزل الوحي أرسل إليَّ فكتبت الوحي".
إلا أن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتابة القرآن الكريم كان عامّاً، ولم يكن أمراً بجمعه في صحف؛ ولهذا لم يكن مجموعاً في مصحف واحد، قال زيد بن ثابت: "قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء". ولذا فقد تمت كتابته على أدوات متنوعة مما جعله غير مرتب وغير محصور بين دفتين.
عباد الله: ولما تولى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- الخلافة ارتدت بعض القبائل العربية، وامتنع بعضها عن دفع الزكاة، فجهز الجيوش لمحاربة المرتدين، واستشهد فيها عدد كبير من الصحابة، وكان من بين هؤلاء سبعون قارئاً، وقد هال ذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- واستشعر خطورة الأمر بذهاب شيء من القرآن بموت بعض القراء من الصحابة، ففزع إلى أبي بكر الصديق وأشار عليه بجمع القرآن الكريم وكتابته في مصحف واحد بدلاً من وجوده متفرقاً في صحف متعددة.
روى البخاري عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أنه قال: "أرسل إليَّ أبو بكر الصديق، فإذا عمرُ بن الخطاب عنده، قال أبو بكرٍ: إنَّ عمر أتاني فقال: إنَّ القتل قد اسْتَحَرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يَسْتَحرّ القتلُ بالقراء بالمواطن، فيذهبَ كثيرٌ من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف تفعلُ شيئاً لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال عمر: هذا والله خيرٌ، فلم يزل عمرُ يراجعُني حتى شرح الله صدري لذلك". وقال أبو بكر لزيد: "قد كنتَ تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتتبع القرآن فاجمعه"، قال زيد: "فتتبعتُ القرآن أجمعه من العسب واللِّخاف، وصدور الرجال".
فكانت الصُّحُفُ التي جمع فيها القرآن في مصحف واحد عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عُمَرَ، ثم عند حفصة بنت عمر -رضي الله عنها-، وبقيت عندها إلى أن طلبه عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لنسخها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها الأحبة: عندما جمع أبو بكر الصديق القرآن الكريم كان الهدف الأساس منه حفظه بالكتابة في مصحف واحد مسلسل الآيات مرتب السور، ولم يكن من أهدافه القضاء على المصاحف الخاصة التي جمع فيها بعض الصحابة القرآن الكريم لأنفسهم، والتي تضم بعض التفسيرات والأدعية والمأثورات ونحوها، وهم يعلمون أنها ليست من القرآن، أو تركوا تدوين سورة وهم يعلمون أنها من القرآن.
فتعددت المصاحف الخاصة بجوار مصحف أبي بكر، وانتشر القراء في الأمصار نتيجة اتساع الفتوحات الإسلامية، وأخذ كل مصر القراءة ممن وفد إليه من الصحابة، حيث كان كل صحابي يُعَلِّم بالحرف الذي تلقاه من الأحرف السبعة التي نزلت على رسول الله -صلى الله عيه وسلم-.
لذلك فقد كان بينهم اختلاف في حروف الأداء، ووجوه القراءات، فكان إذا ضمهم مجمع أو موطن من مواطن الغزو عجب البعض من وجود هذا الاختلاف حتى كاد الأمر يصل إلى النزاع والشقاق بينهم، وإنكار بعضهم على بعض وبخاصة من الذين لم يسمعوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة القراءات القرآنية، أخرج ابن أبي داود عن أبي قلابة قال: "لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين، حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان فقام خطيباً فقال: أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافاً وأشد لحناً، اجتمعوا يا أصحاب محمد واكتبوا للناس إماماً".
وأخرج البخاري: "إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف نَنْسَخُها في المصاحف ثم نردُّها إليكِ فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث، فنسخوها في المصاحف، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق".
أمر عثمان بتوزيع المصاحف على الأمصار؛ ليقضي على التنازع والاختلاف في قراءة القرآن الكريم، فأرسل إلى كل مصر من الأمصار بمصحف من المصاحف التي نسخت، واحتفظ عنده بمصحف سمي "المصحف الإمام".
وهكذا استطاع عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بهذا العمل الجبار أن يزيل جذور الخلاف، ويجمع الأمة عبر كل العصور، وحمد له المسلمون ذلك العمل، قال الإمام الزركشي: "ولقد وفق لأمر عظيم، ورفع الاختلاف، وجمع الكلمة، وأراح الأمة".
وهكذا سجلت الأمة الإسلامية بحفظها القرآن الكريم في الصدور والسطور منذ نزول القرآن الكريم في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم بصنيع أبي بكر، ثم بصنيع عثمان -رضي الله عنهم-، مزية ليس لأمة غيرها، وقد بذلوا كل عوامل الدقة والاستيثاق، فجاء القرآن كاملاً، محفوظاً، عزيزاً، تحقيقاً لقوله -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر:9].
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...