المقيت
كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الأصل في المزاح: الإباحة بشرط أن يخلو من الحرام؛ كالكذب، والترويع، ونحو ذلك من ضوابط المزاح، وممازحة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه لم يكن للعبث، أو لمجرد الترويح؛ بل كان جزءًا من تربيته لأصحابه.
الخطبة الأولى:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده.
والمزاح هو الدعابة، وهو نقيض الجد، ويراد بالمزاح المُباسطة بحيث لا يُفضي إلى أذى، فإنْ بلغ به الإيذاء؛ فهو السخرية.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُمازح أصحابه ويُمازحونه، ويُداعب أهله ويُداعبونه. وكلُّ ما كان يمزح به النبي -صلى الله عليه وسلم- كلمات ليس فيها كذب، ولم يكن يقول إلاَّ حقاً؛ فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا؟ قَالَ: "إِنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا"(صحيح، رواه الترمذي).
أخي الكريم: قارن بين هذا وما يحصل اليوم بين الناس في شأن المزاح تجدْ أنهم ابتعدوا كثيراً عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهدي أصحابه -رضي الله عنهم أجمعين-.
عباد الله: هناك مزاح محمود، وآخر مذموم؛ فالمزاح المحمود هو الذي لا يشوبه ما كَرِه الله -تعالى-، ولا يكون بإثم، ولا قطيعة رحم. وأما المذموم فهو الذي يُثير العداوة، ويُذهب البهاء، ويقطع الصداقة، ويُجرِّئ الدنيء عليه.
والأصل في المزاح: الإباحة بشرط أن يخلو من الحرام؛ كالكذب، والترويع، ونحو ذلك من ضوابط المزاح، وممازحة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه لم يكن للعبث، أو لمجرد الترويح؛ بل كان جزءًا من تربيته لأصحابه، وسئل بعض السلف عن مزاح النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: كانت له المهابة العظمى فلو لم يُمازح أصحابَه –أحياناً- لَمَا طاقوا الاجتماع به، والتلقي عنه صلى الله عليه وسلم، وكان يمزح ولا يقول إلاَّ حقًّا.
ومن الأهداف السامية في مزاح النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: التحبب إليهم، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! احْمِلْنِي؟ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ" قَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلاَّ النُّوقُ"(صحيح، رواه أبو داود).
وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ: "يَا ذَا الأُذُنَيْنِ" قَالَ أُسَامَةَ –الراوي-: يَعْنِي: يُمَازِحُهُ"(صحيح، رواه الترمذي).
وأحياناً يُمازحهم للمواساة؛ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُ عَلَيْنَا -وَلِي أَخٌ صَغِيرٌ، يُكْنَى: أَبَا عُمَيْرٍ- وَكَانَ لَهُ نُغَرٌ يَلْعَبُ بِهِ، فَمَاتَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، فَرَآهُ حَزِينًا، فَقَالَ: "مَا شَأْنُهُ" قَالُوا: مَاتَ نُغَرُهُ، فَقَالَ: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ! مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ"(صحيح، رواه أبو داود).
أيها الأحبة: للمزاح حدودٌ وضوابطُ؛ فمن أهمها:
1- عدم الإفراط في المزاح؛ كان مزاح النبي -صلى الله عليه وسلم- معتدلاً، ولم يكن فيه إغراق في الضحك؛ فإنَّ الإكثار من المزاح يُسقط الهيبة، ويُوقع في الخطأ والزلل، قال ابن حجر -رحمه الله-: "إن المنهي عنه ما فيه إفراط، أو مداومة عليه؛ لما فيه من الشغل عن ذِكر الله، والتفكر في مهمات الدِّين، ويؤول كثيراً إلى قسوة القلب، والإيذاء، والحقد، وسقوط المهابة والوقار، والذي يَسْلم من ذلك هو المباح فإنْ صادف مصلحةً؛ مثل تطييبِ نفسِ المُخاطَب ومؤانستِه، فهو مُستحب".
2- ألاَّ يكون كَذِباً؛ فكم يَحْدُث اليوم -في المزاح- من الكذب، واختراع قصصٍ وحكايات لا أصل لها، ولا صحة لها؛ لأجل إضحاك الناس! وقد صح الحديث بالتهديد للذي يَفْعل ذلك؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ؛ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ"(حسن، رواه أبو داود والترمذي).
3- ألاَّ يكون فيه استهزاء بالدِّين؛ كالاستهزاء بالقرآن العظيم، أو بأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو بالملائكة، أو الجنة والنار، أو عذاب القبر.
وقد انتشر في المجالس -ما تُسمَّى- بالنكات، أو الطُّرف، حول الملائكة، أو الأنبياء، أو الصحابة، أو القرآن والسنة، وهذا من أخطر الأمور، ومع الإصرار والتعمد، وسوء النية مسبقاً؛ يُعَدُّ هذا الفعل كفراً مخرجاً من الملة -والعياذ بالله تعالى-.
4- ألاَّ يكون فيه غيبةٌ، أو إيذاء سواء كان إيذاءً بدنياً أو شعورياً؛ قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)[الحجرات: 12]، فهذه الأمور فيها إيذاء شعوري للمؤمنين والمؤمنات، وقد يصل إلى الإيذاء البدني، فحرَّمها الله تعالى منعاً لذلك.
واليوم تكثر التجاوزات في هذا الجانب بحجة المزاح، فتجد البعض ما أنْ يعلم أنَّ أخاه يغضب من شيء معين حتى يُكثِر المزاح معه فيما يُغضبه؛ قاصداً إغضابه، وهذا أمر محرم.
5- ألاَّ يضرَّ بشخصه بين الناس؛ فعلى المرء ألاَّ يجعل من نفسه أُضحوكةً، أو مُهرِّجاً للمجتمع، حتى إذا أراد أحد أنْ يضحك يأتي إلى هذا المُهرِّج، ويقول: "ما هو آخر شيء عندك؟" "أعطنا موقفاً"، وللأسف صار هذا مشتهراً بين الناس؛ بل هناك أناس يُسمِّيهم الناس "مشاهير" في مواقع التواصل الاجتماعي؛ تقوم بضاعتهم على السخرية بالناس، والاستهزاء بهم؛ بقصد الشهرة، وإضحاك الناس، وزيادة أعداد المتابعين! وقد اشتهرت مقولة: "اذكر لنا موقفاً طريفاً مر بك؟" في المجالس أو المقابلات الإعلامية، ونحوها.
6- ألاَّ يُخل بتوقير أهل الهيبة؛ بألاَّ يُمازحَ الكبير، أو العالم، بما لا يليق بمقامه، فيجب التفريق بين ما يمكن أن يمازحه من الأصدقاء، وبين ما لا يُمكن أن يمازحه من أصحاب الشأن، والهيبة والوقار.
7- أن يُراعي شعور الآخرين؛ فيجب على الإنسان أن يُراعي مشاعر الناس، ولا يجرح مشاعر الذي أمامه، وليس المقصود إضحاك أكبر عدد في المجلس، ولو كان فيه إيذاء للآخرين، ثم تقع الضغينة بين الناس بسبب "هذا المزاح الثقيل".
وربما انصرف من المجلس وقد خاصمهم وهَجَرَهم؛ بسبب أنه جُعِل أضحوكةً لِمَنْ في المجلس.
أيها الإخوة الكرام: لا ريب أن إيذاء المؤمنين حرام، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ)[الحجرات: 11].
8- ألاَّ يكون فيه فُحْشٌ؛ بعض النكت -التي تُسمَّى عند عامة الناس "نُكَتاً" - هي عبارة عن قلة حياء، وقلة أدب وبذاءة، وغالِبُ هذا الطُّرَف متعلقة بالعورات المغلظة، وفيما يتعلق بجماع الرجل بزوجته، واللهُ -تعالى- لا يُحب الجهر بالسوء من القول، ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشاً، ولا مُتفحِّشاً.
9- ألاَّ يكون فيه ترويع، وإضرار بالناس، فبعضهم يخطف مفتاح سيارة شخص آخر، أو يسرق، أو يأخذ منه شيئاً ثميناً، فهذا فيه ترويع وتخويف للناس، وربما يُبلغ الشرطة، ويحصل ما لا تُحمد عُقباه.
10- أن يكون في الوقت المناسب، فلا يكون المزاح في وقت الوعظ، أو التذكير بالموت، أو جلسة علم وجِدٍّ، ثم يأتي بما لا يُناسب هذا المقام.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها المسلمون: إن الإفراط في المزاح له عواقب وخيمة؛ ومن أهمها:
1- كثرة الضحك تميت القلب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ"(صحيح، رواه الترمذي).
2- كثرة المزاح تؤدي إلى الغفلة، والغفلةُ صفة الكافرين، قال الله -تعالى-: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ)[الزخرف: 83]. وفي يوم القيامة يقال لهم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)؟ فكان من جوابهم: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ)[المدثر: 42-45]، والمسلم يحتاج إلى قلب حيٍّ لا تتسرب الغفلة إليه.
3- قد يُضيِّع الهيبة؛ إذا كثر المزاح؛ قلة الهيبة، واجترأ السفهاء على المازح، قال عمر -رضي الله عنه-: "مَنْ مَزَح؛ اسْتُخِفَّ به". وقيل: "المزاح مسلبة للبهاء، مقطعة للإخاء".
4- قد يجلب المزاح الضغينة؛ قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "اتقوا الله وإياكم والمزاح؛ فإنه يورث الضغينة، ويجر إلى القبيح"، وكان يقال: "لكلِّ شيءٍ بذر، وبذر العداوة المزاح".
5- قد يجر إلى الحرام؛ ولا سيما إذا اقترن بمخالفة شرعية؛ كالترويع مثلاً، وقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مَسِيرٍ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ، فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا" (صحيح، رواه أبو داود)، وقال أيضاً: "لاَ يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لاَعِبًا وَلاَ جَادًّا، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا"(حسن، رواه أبو داود).
6- قد يؤدي إلى الإضرار؛ عن أَبَي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ"(رواه البخاري ومسلم)، وعند مسلم: "مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ؛ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَنْتَهِي، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ"(رواه مسلم).
7- قد تُنتَهكُ فيه حدود الله؛ رُبَّما امتد المزاح إلى باب عظيم من أبواب الكبائر؛ كالاستهزاء بالقرآن، أو الأحاديث، أو الأحكام الشرعية، أو العلماء؛ كما فعل المنافقون -يوم تبوك- فاستهزؤوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-، فأنزل الله -تعالى-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)[التوبة: 65].
عباد الله: ومن الوسائل العلاجية للحدِّ من كثرة المزاح: تذَكُّر أحوال الآخرة وقرب الأجل، والتفكُّر بالغرض الذي من أجله خُلِقنا، والالتزام بالآداب الشرعية في المزاح، واستثمار الفراغ بالأعمال النافعة المباحة، ومصاحبة الأخيار، وأصحاب الهمم العالية، والجادين في الحياة.