الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
ثمة فتنة ليس بجديدة، وإنما أخبر عنها صلى الله عليه وسلم، هي فتنةٌ قد يُفتن بها الشاب وقد يُفتن بها الشيخ الكبير؛ حذّر منها وخوّف من الوقوع في شراكها ورهّب. إنها فتنةٌ خافها الأنبياء، وخافها السلف فهربوا منها، وخافها الصالحون فتحصنوا منها. إنها...
الخطبة الأولى:
يتفق العقلاء أننا نعيش في زمن كثرت فتنه، وتعددت محنه، وتنوعت ابتلاءاته؛ ما بين فتن دنيا وما بين فتن دين، ما بين فتن كبار وفتن صغار، فتنٍ تمر بالفرد بذاته، وفتنٍ تعصف بالأمة بأسرها؛ غير أن ثمة فتنةً ليس بجديدة وإنما أخبر عنها صلى الله عليه وسلم، هي فتنةٌ قد يُفتن بها الشاب وقد يُفتن بها الشيخ الكبير، حذّر منها وخوّف من الوقوع في شراكها ورهب.
إنها فتنة خافها الأنبياء، وخافها السلف فهربوا منها، وخافها الصالحون فتحصنوا منها. إنها فتنةُ بني إسرائيل ومَن بَعدَ بني إسرائيل، بل هي من أشدِّ الفتن التي خافها صلى الله عليه وسلم؛ إنها فتنةُ النساء، قال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء".
هذه الفتنة وجهُ خطورتِها أنها يتعاضدُ فيها الشيطانُ وأعوانُه من بني الإنسان فما يزاُل الشيطان يسعى في الناس كي يُسقِطَهم في حمأتها، وقد قال ابن مسعود: "النِّساءُ حَبَائِلُ الشَّيطانِ".
وفي مقول النبي -صلى لله عليه وسلم-: "إِنَّ المَرأَةَ تُقبِلُ في صُورَةِ شَيطَانٍ، وَتُدبِرُ في صُورَةِ شَيطَان"، بل قال صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان" أي زيّنها في نظر الرجال، فترى المرأةَ إذا خرجت إلى الطريق تمشي ارتفعت إليها أبصار الرجال، وأوقع إبليسُ في نفوسهم حسنَها، والفكرَ في محاسنها.
كل هذا؛ مع ضعف الإنسان إذ خلقه الله ضعيفاً كما في محكم التبيان، وقد قَالَ طَاوُوسُ بنُ كيسَانَ فِي تَفسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: "أي: ضَعِيفَاً في أمرِ النِّسَاءِ، لَيسَ يَكُونُ الإنسَانُ فِي شَيءٍ أضعفَ مِنهُ فِي النِّسَاءِ"، وتفسيره هذا بذكر فرد من أفراد المعنى وإلا فابن آدم ضعيف في كل شيء.
وقال سفيان الثوري في تفسيرها: "المَرأةُ تَمُرُّ بِالرَّجُلِ فَلا يَملِكُ نَفسَهُ عَنِ النَّظَرِ إليهَا، وَلا يَنتَفِعُ بِهَا، فَأيُّ شَيءٍ أضعَفُ مِنْ هَذَا؟".
لأجل كلِّ هذا -أيها المؤمنون- حَذِرَ السلف من هذه الفتنة، وحذّروا ونؤوا بأنفسهم، وعنها تباعدوا، فسعيد بن المسيب قال: "ما يئس الشيطان من ابن آدم قط إلا أتاه من قبل النساء".
ثم قال -وهو ابن أربع وثمانين سنة وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى- "وما شيء عندي أخوف من النساء".
وميمون بن مهران قال: "لأنْ أوتمنَ على بيت مالٍ أحب إلي من أن أوتمن على امرأة".
ويوسف بن أسباط قال: "لو ائتمنني رجلٌ على بيت مال لظننت أن أؤدي إليه الأمانة ولو ائتمنني على زنجية أن أخلو معها ساعة واحدة ما ائتمنت نفسي عليها".
بل قالوا -وهم أهل النقاء والعفة-: "لا تخلون مع امرأة ولو كنت تعلمها القرآن". وهكذا في كلمات عديدة تنبيك كيف خاف القوم من هذه الفتنة.
وإذا كان هذا كله يذكر في زمان مضى فإننا حين نتكلم عن فتنة النساء في هذا الزمن لَنعلمُ أنها صارت أشدَ وأنكى، والسلامةَ منها أشقُ وأصعبُ، تعددت طرائقها، وتنوعت وسائل الافتتان بها، واتفق الشيطان وأعوان الشيطان من بني الإنسان على عرض ذلك بكل وجه وطريق، فتعرضت هذه الفتنة للناس عبر القناة والسوق ومواقع التواصل، وأخيراً بائعة في السوق وسكرتيرة في المستشفى والمعرض.
ولا زال البعض يردد أن "المرأة نصفُ المجتمع"، فزَجوا بها في كل مجال، بدعوى أن لا فرق بينها وبين الرجال، فبليت بلاد المسلمين بصورٍ من الاختلاط لا حاجة لها بل هي البلاء بذاته -والله المستعان-، ورحمَ الله حَسَّانَ بنِ عَطِيَّةَ إذ قَالَ: "مَا أُتِيَت أُمَّةٌ قَطُّ إلا مِن قِبَلِ نِسَائِهِم".
من أجل هذا كله -يا كرام- جاءت الشريعة بأمورٍ عديدة من شأنها أن تحصّن المسلم، أن تحميه كي لا يقع في هذا المنزلق، ويهوي في هذه الهاوية.
ووالله لو أخذ الناسُ بتعاليم الإسلام في هذه الفتنة لسلموا من كثير من الشرور، ودونك طرفٌ من هذه التعاليم النبوية التي تُربي المجتمعَ على النقاء والعفة، والبعدِ عن الفتنة، فهل سمعت بسياجٍ كسياج قوله صلى الله عليه وسلم: "ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" هل رأيت أبلغ من قوله: "إياكم والدخول على النساء"؟ فقال رجلٌ: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال صلى الله عليه وسلم: "الحمو الموت"، "لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم".
بل حتى في المشي في الطرقات قال لهن: "استأخرن -أي عند المشي -، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق".
بل وجعل باباً للنساء مستقلاً، برغم صغر مسجده، وقال صلى الله عليه وسلم: "لو تركنا هذا الباب للنساء"، فما دخل منه الصحابة بعد ذلك، وحتى وصفُ النساءِ للنساءِ عند الرجال نهى عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها".
كي لا يقع في قلبه ميلٌ لها والتفات، هذا كله، مع فرض الحجاب، وتحريم الفاحشة، والنهي حتى عن إشاعة الفاحشة، والحديث عنها ونقل أخبارها، وحرّم خروجها متعطرة، وخضوعها بالقول، وأمر بقرارها في البيت.
كل هذا التوجيه ثم يأتيك من يأتيك ليقول: ولماذا الخوف من المرأة؟ ولماذا تعظّمون الأمر؟ ولماذا تريدون أن تعيش المرأة كأن بها جَرَباً بعيدة عن الرجال لا تدنوا منهم؟
فيا سبحان الله! أنحن أنقى أم رسول الله الذي ما مست يدُه يدَ امرأة قط، أنحن أتقى أم رسول الله الذي حذّر من الخلوة بالنساء؟
أنحن أدينُ أم جيلُ الصحابة الذين أُمِروا بالتأخر عن الخروج من المسجد حتى تتفرق النساء؟ أنحن أطهرُ أم ذلكم الجيل الذين قال لهم الله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)[الأحزاب: 53].
عباد الله: وأمام فتنة النساء فكم هو مهمٌ أن يُعنى المرءُ بإغلاق منافذ الوقوع في شركها، والافتتان بلظاها، ألا وإن غضّ البصرِ سلاحٌ ناجعٌ أمام هذه الفتنة، فالشيطان يسعى بالعبد أن يطلقَ البصر، وحينها يرى ما لا يحلّ له، ولا يقدرُ على نيله، فرحم الله امرءا وضع نُصب العين، وصيةَ سيّدِ الثقلين -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُتبِعِ النظرةَ النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة".
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ
قال ابن المقفع: "إنما النساء أشباه، وما يتزين في العيون والقلوب من فضل مجهولاتهن على معروفاتهن باطلٌ وخدعة، بل كثيرٌ مما يَرغب عنه الراغب مما عنده، أفضل مما تتوق إليه نفسه منهن، وإنما المرتغِبُ عما في رحله منهن إلى ما في رحال الناس، كالمرتغِب عن طعام بيته إلى ما في بيوت الناس.
ومن العجب: أن الرجل الذي لا بأس بلبّه ورأيِه يرى المرأة من بعيدٍ متلففةً في ثيابها، فيُصوَّر لها في قلبه الحسنَ والجمال، حتى تَعْلُقَ بها نفسُه من غير رؤية، ولا خَبَرِ مُخبِرٍ، ثم لعلّه يهجم منها على أقبح القبح، وأدم الدمامة، فلا يعظه ذلك، ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفاً بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غيرُ امرأةٍ واحدة، لظنّ لها شأنًا غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء والسفه".
معشر الكرام: واليوم وقد تعددت ناقلات الصورة، وصارت الصورةُ الآثمة أقربَ إلى المرء من شراك نعله، في جهازه وعبر برامجه التواصلية، وصارت الصور المنكرة في متناول الصغير والكبير والابن والبنت، بل وصرنا نرى كهولاً بُلوا بمثل هذه الأمور، ولربما بُليتَ وأنت عفيف بمن تتعرض لك عبر الاتصال والمراسلة والمحادثة، في ظل كل هذا مهمٌ أيُما مهمٍ أن نستذكر أن رؤية الله لنا أسرعَ من نظرنا ومقارفتنا للأمر المحرم، أينما كنت، في بيتٍ أو سيارة، في ليلٍ أو نهار، بَعُدْتَ أو قرُبت يراك ربك، وأنت ترى ما ينهى عنه، فأين تذهب من رقابة الرقيب؟
ورحم الله العلاء بن زياد حين يقول: "لا تتبع بصرك رداء امرأة، فإن النظرة تجعل في القلب شهوة".
لا تكنْ وسيلةً لنقل لمنكر فتبوءَ بإثمك وإثمِ كل من نظر، ومن أتبع النظر بما بعده، وليكن الأولياء عوناً للناس على غض أبصارهم حين يستخدمون القوامة في إلزام النساء الستر، فأنت لن تمنع الناس النظر، ولكن تستطيع أن تستر نساءك، فتشيع الفضيلة وتنمي العفة.
ومع هذا فغض البصر ليس للرجل فحسب، بل للمرأة نصيبها كذلك، فالذي قال: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)[النور: 30]، هو الذي قال: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)[النور: 31].
ورحم الله ابن عبد البر حين نقل عن بعض مشيخة العرب قوله: "لأن ينظر إلى موليتي ألف رجل أهون علي من أن تنظر هي إلى رجل واحد".
رسالةٌ تهدى لنساء بُلينَ بمتابعة الرجال عبر برامج التواصل، والقنوات، وتتبع حياتهم لحظة بلحظة.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
وتأتي قضية الاختلاط بالنساء سببٌ من أسباب الافتتان بالمرأة، وما فشا البلاء في المجتمعات إلا حينما اختلطت رجالهم بنسائهم، قال ابن القيم: "ولما اختلط البغايا بعسكر موسى -أي بعد موته- وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون، فمات في يومٍ واحدٍ سبعون ألفاً"، ثم قال: "ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة".
لقد كنا نرى النساء أبعد ما يكنّ عن الرجال، ولقد أدرك الآباءُ النساءَ إذا مشينَ في الطرقات لصقن بالجدران، حتى إن مرورهن ملتصقات بالجدران يؤثر ذلك في عباءاتهن، وفي الجدار ذاته.
وأما اليوم فلقد صارت الحال كما ترى، واستجدّت صورٌ من الاختلاط ما عهدناها، تدخل محلاً فترى شاباً وفتاة في مكان عمل واحد، ليس بينهما إلا أقل من ذراع، أماكنُ استقبال، ومحلات تجارية، ومستشفياتُ، وغير ذلك من صور، ثم نتسائل بعدها: لماذا كثرت المنكرات؟ لا تلوموا المرأة فقط، وإنما لوموا معها من أخرجها، لوموا أباً سمح لها، ومسؤولاً ألزم التاجر، وتاجراً توسع في هذا، وآثر دنياه على سلامة دينه، لومونا جميعاً حينما نرى مثل هذه الصور فلا ننكر.
إن المنكراتِ إذا شاعت فإن أثرها على المجتمع بأكمله، ولقد قالت فاطمة بنت أفضل الخلق: "خيرٌ للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يروها".
فيا أيها الموفق: فرّ من الخلوة بالمرأة، ومن الاختلاط والقرب منها فراراك من الأسد وأشد، ومن قال إن هذه المقاربة لا تورث فساداً فإنما يخالف الفطرة، وما قرره رسول الأمة .
وبعد -يا كرام-: فإن العبد في دنياه لا بد تعترضه الفتن، ولكنَ دينَهُ أهمُ وأغلى لديه من كل شيء، فإذا أردت سلامة دينك، وديمومة عفتك، واستمرار نقاءك، فسل الله أن يعصمك من سائر الفتن، وخذ بسياج الشرع الحامي من فتنة النساء، فإنّ الذي جعل النساء فتنة جعل لك ما يحفظك من هذه الفتنة، والدنيا قصيرة، فصبِّر نفسكَ عن شهواتها المحرمة، وادّخرها لنعيم الجنة، فكل الناس فُطِروا على الميل للنساء، لكن النبلاءَ فقط هم من ألجموها، وجعلوا ذلك فيما أباح الله لهم، ولئن كان قد وطيء على الأرض أقوامٌ متّعوا أنفسهم بالشهوات الآثمة، وأقوامٌ عفّوا عن ذلك، وهم اليوم جميعاً تحت الأرض، ذهبت اللذات، وانقضت مشقة التصبر عنن المحرمات والشهوات.
فسل النفس ماذا بقي لهم؟ وعلى أي الحالين تود أن تكون؟
اللهم طهر قلوبنا.