الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | عبدالمحسن بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
البِرُّ لا يكون على تمامه، ولا يقوم على سوقه ومكانه إلا بمحبة تحدو بصاحبها إلى الإخلاص، وبصدق يبعث على حُسْن المتابَعَة، والعمل لا يكون قُرْبَةً حتى يكون الباعثُ عليه الإيمانَ لا العادةَ والهوى، ولا طلب السمعة والرياء، وحتى يكون غايته ثواب الله وابتغاء مرضاته...
ألقيت مجددا بتاريخ 29/ 8/ 1440
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُهُ ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى؛ واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
أيها المسلمون: تذهب الأيام والليالي سراعا، والعام يطوي شهورَه تباعًا، والعباد في ذلك إلى الله سائرون، وعما قريب لأعمالهم ملاقون، ومن فضل الله وكرمه أن اختار لهم من الأزمان مواسم للطاعات، واصطفى أيامًا ولياليَ وساعات لتعظُم فيها الرغبةُ ويزدد التشميرُ ويتنافس المتنافسون، وكلما لاح هلال رمضان أعاد إلينا نفحاتٍ مباركاتٍ، فيستقبله المسلمون وله في نفوسهم بهجة، وقلوبهم تمتلئ به فرحةً، فَرُبّ ساعة قبول فيه أدركت عبدًا فبلغ بها درجات الرضا والسعادة.
وقد حل بنا أَشْرَفُ الشهور وأزكاها، موسم عظيم خصه الله بالتشريف والتكريم، فبعث فيه رسولَه -صلى الله عليه وسلم- وأنزل فيه كتابَه وفرض صيامه، ساعاته مباركة ولحظاته بالخير معمورة، تتوالى فيه الخيرات وتعم فيه البركات، موسم الإحسان والصدقات وزمن المغفرة وتكفير السيئات، نهاره صيام، وليله فيه قيام، عامرٌ بالصلاة والقرآن، تُفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران وتصفَّد فيه الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر مَنْ حُرِمَ خيرَها فهو المحروم.
رمضان ميدان فسيح للتسابق في الطاعات ومنحة لتزكية النفوس من الدَّرَن والآفات، شهر كريم تُضاعف فيه الأعمالُ وتكفَّر فيه الخطايا والأوزار، قال صلى الله عليه وسلم: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ" (رواه مسلم).
فيه يؤدي المسلمون ركنًا من أركان الإسلام وهو مظهر عملي لعظمة هذا الدين وجمعه لكلمة المسلمين، وفيه يتجلى قوله -تعالى-: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الْأَنْبِيَاءِ: 92]، واغتنام مواسم الخيرات فتحٌ من الله لمن أحب من عباده، في رمضان يجتمع للمسلمين أصول العبادات وأكبرها؛ فالصلاة صِلَة بين العبد وربه، ولا تفارق المسلمَ في جميع حياته، وصلاة الرجل في الجماعة فرض وهي تعدل صلاتَه في بيته وسوقه سبعًا وعشرين درجة.
وحريٌّ بالمسلم أن يستعين بصومه على صلاته، وأن يكون له في الليل أكبر الحظ من الصلاة، فـ "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (متفق عليه)، و"مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ" (رواه الترمذي).
والزكاة والصدقة طُهْرة للمال ونماء، وغنى للنفس وزكاء، فأثرُها ظاهرٌ على النفس والمال والولد، دافعةٌ للبلاء، جالبةٌ للرخاء، ومن جاد على عباد الله جاد الله عليه، قال عليه الصلاة والسلام: "قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: يَا بْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ" (متفق عليه).
وكلُّ امرئ في ظل صدقته يومَ القيامة، فَتَصَدَّقْ ولو بالقليل، وَطِبْ بها نفسًا وواسِ بها محرومًا، وَمَنْ فَطَّرَ صائما كان له مثلُ أجره، وكان من هديه -عليه الصلاة والسلام- النفقة والجود، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، إن أنفق أجزل وإن منح أغدق، لا يرد سائلا وما سئل شيئا إلا أعطاه، وكان -عليه الصلاة والسلام- أجودَ ما يكون في رمضان، فَلَهُوَ فيه أجود من الريح المرسَلَة.
والصيام أعظم شعيرة في هذا الشهر الفضيل، يتزود المسلمون فيه من التقوى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 183]، ثوابه بلا عَدّ ولا حَصْر، قال الله في الحديث القدسي: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ" (متفق عليه)، و "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (متفق عليه)، والصوم يَحُول بين أهله وبين الشرور والآثام، قال عليه الصلاة والسلام: "الصَّوْمُ جُنَّةٌ" (رواه الترمذي).
ومن الأعمال الصالحة التي تُغتنم العمرة، قال صلى الله عليه وسلم: "عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً" (متفق عليه).
والقرآن كلام الله -تعالى- وحجته على خلقه، وهو ينبوع الحكمة وآية الرسالة، لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة لنا بغيره، نور البصائر والأبصار، مَنْ قَرُبَ منه شَرُفَ، ومن أخَذ به عَزَّ، تلاوته أجر وهداية، ومدارستُه علمٌ وثباتٌ، والعمل به حصن وأمان، وتعليمُه والدعوةُ إليه تاجٌ على رؤوس الأبرار، وفي رمضان نزل القرآن فيتأكد الإكثارُ منه قراءةً وتدبرًا وتعلمًا وتعليمًا وعملًا وامتثالًا، قال عز وجل: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[الْبَقَرَةِ: 185]، وكان جبريل -عليه السلام- يدارس نبينا -صلى الله عليه وسلم- القرآن فيه مرة في كل عام، وفي العام الذي مات فيه -عليه الصلاة والسلام- دارسه مرتين.
والدعاء عبادة وقربى، مَغْنَم بلا عناء، وربح ليس فيه شقاء، وهو جالب للرخاء وَعَدُوّ لكل بلاء، ولن يهلك مع الدعاء أحدٌ، به يصل العبدُ لمناه ويدرك مطلوبَه، فكم قرَّب من بعيد، وكم يسَّر من عسير، وكم فرَّج من كَرْب، وأجوب الدعاء ما كان في جوف الليل الآخر، وإذا انكسر العبد بين يدي ربه أجاب الله سُؤْلَهُ، وإذا جاعت النفسُ رقَّ القلبُ وَصَفَا، والصائم لا ترد دعوته، قال ابن رجب -رحمه الله-: "الصائم في ليله ونهاره في عبادة، ويستجاب دعاؤه في صيامه وعند فطره، فهو في نهاره صائم صابر، وفي ليله طاعم شاكر"، فالموفَّق من أكثر قرع باب السماء وجعل لنفسه من هذه الأيام والليالي مدخرا.
وذكر الله عبادة عظيمة ميسورة، ومن ذكر الله ذكره، والعبد إن لم يشتغل لسانه بالذكر شغله بفضول الكلام ومعاصيه، والدين المعاملة وأولى الخلق بإحسانك من قرن الله حقهم بحقه، فالوالدان جنتك ونارك، وهما أحق الناس بحسن صحبتك، قال عليه الصلاة والسلام: "رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، قِيلَ: مَنْ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ"(رواه مسلم)، و"الرحم معلقة بالعرش تقول: مَنْ وصلني وصلَه اللهُ، ومن قطعني قطعَه اللهُ، ومن سرَّه أن يُبْسَط له في رزقه، ويُنْسَأَ له في أَثَرِه فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"(متفق عليه).
ومن كمال الطاعة حِفْظُهَا من كل ما يُنقصها أو يَنقضها، والصائم أشد ما يكون حرصا على حفظ عبادته وحفظ صيامه من خوارقه ومُفْسِدَاته، قال عليه الصلاة والسلام: "إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ"(متفق عليه).
وكان من هدي السلف -رحمهم الله- إذا صاموا جلسوا في المساجد وقالوا: "نحفظ صيامنا ولا نغتاب أحدا"، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ينبغي للصائم أن يتعاهد صومَه من لسانه ولا يماري".
وبعد أيها المسلمون: فالبِرُّ لا يكون على تمامه، ولا يقوم على سوقه ومكانه إلا بمحبة تحدو بصاحبها إلى الإخلاص، وبصدق يبعث على حُسْن المتابَعَة، والعمل لا يكون قُرْبَةً حتى يكون الباعثُ عليه الإيمانَ لا العادةَ والهوى، ولا طلب السمعة والرياء، وحتى يكون غايته ثواب الله وابتغاء مرضاته، وإذا اجتمع الإيمان والاحتساب في عمل تحقق القبول والغفران.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 133].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما مزيدا.
أيها المسلمون: ستنقضي الدنيا بأفراحها وأحزانها وتنتهي الأعمار بطولها وقِصَرها، ويلقى الجميعُ ربَّهم وحينَها لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا مَنْ أتى اللهَ بلقب سليم، فاستقبِلُوا شهرَكم بتوبة صادقة، واعقدوا العزم على اغتنامه وعمارة أوقاته بالطاعة، فما الحياة إلا أنفاس معدودة، وآجال محدودة، واغتنموا شريف الأوقات والمغبون مَنْ أدرَك رمضانَ ولم يُغفر له، قال عليه الصلاة والسلام: "رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ" (رواه الترمذي)، "وَمَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" (متفق عليه).
ومن أعظم ما يُصلح القلبَ ذكرُ اللهِ وملازمةُ القرآنِ العظيمِ، وقيامُ الليلِ، ومجالسةُ الصالحينَ.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وَزِدْ وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين؛ الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعُمَر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل اللهم هذا البلدَ آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، واصرف عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفِّق إمامنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدْكُم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.