الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن الإيمان له ذوق خاص ميّزه الله -عز وجل- عن باقي الأذواق الدنيوية, والسر يكمن في أن للإيمان متعة مستمرة لا تفنى, بينما للأذواق الدنيوية متعة مؤقتة, وعلى سبيل المثال الأكل والشرب والجماع واللباس وغيرها من الأذواق الدنيوية، لذائذ وشهوات منقطعة زائلة, بخلاف الإيمان النافع يبقى ويثمر وتمتد حلاوته...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: إن للإيمان ذوق وحلاوة ولذة، وهو أعلى الذوق وأطيبه، هي نِعْمةٌ لا تُذاقُ إلا بالجنانِ، ولا يَستطيعُ أنْ يُعبِّرَ عنها اللسانُ، نعمةٌ لا يُدرِكُها ولا يَعرفُ قيمتَها إلا مَنْ ذَاقَها وأَحَسَّ بها وعاشَ معها، ولذةٌ لا يَستشعرُ أثَرها إلا مَنْ تَذوَّقَ طعمَها، وَوَجدَ طِيبَ العيشِ في ظِلِّها؛ فعن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ذَاقَ طَعْمَ الإيمان، مَنْ رَضِيَ بِالله رَبّاً وَبِالإسلام دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً"(مسلم)؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يرشدنا إلى أن الإيمان ذوق ولذة في القلب, ولا يتحقق الذوق إلا بثلاثة شروط: الرضا بالربوبية، والرضا بالإسلام، والرضا بالسنة النبوية, فمن لم يجمع هذه الأمور لن يتحقق الرضا في قلبه, ولن يذوق حلاوة الإيمان.
أيها الإخوة: إن الذوق منزلة إيمانية رفيعة، وهي تجربة فردية بالأساس تتحقق بمعرفة الله -عز وجل-؛ فمن عرف ما قصد هان عليه ما وجد، ومن رزقه الله هذه المنزلة فقد عرف الخير كله؛ لذلك فالتدين هو ممارسة ذوقية في العبادات كلها, قال النووي -رحمه الله-: "قَالَ الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللَّهُ- مَعْنَى حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ اسْتِلْذَاذُ الطاعات وتحمل المشقات في رضى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم-, وَإِيثَارُ ذَلِكَ عَلَى عَرَضِ الدُّنْيَا, وَمَحَبَّةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِفِعْلِ طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مُخَالَفَتِهِ وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ".
أيها المؤمنون: إن الإيمان له ذوق خاص ميّزه الله -عز وجل- عن باقي الأذواق الدنيوية, والسر يكمن في أن للإيمان متعة مستمرة لا تفنى, بينما للأذواق الدنيوية متعة مؤقتة, وعلى سبيل المثال الأكل والشرب والجماع واللباس وغيرها من الأذواق الدنيوية، لذائذ وشهوات منقطعة زائلة, بخلاف الإيمان النافع يبقى ويثمر وتمتد حلاوته.
وذوق الإيمان يرتبط أساسًا بمعرفة الله -عز وجل- عبر أسمائه الحسنى؛ فمن لم يذق حلاوة اسم الرزاق أو الخالق أو القوي, لن يعرف الله حق المعرفة لأن المعرفة محلها القلب, والتدين يرتبط أساسًا بعلم النصوص أولاً, ومعرفة النصوص في القلوب ثانيًا؛ لذلك لا يقال للعالم الحافظ للنصوص عارفًا إلا إذا عرف الله بقلبه إحساسًا وذوقًا. قال -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: 28]؛ فالخشية لا تتحقق إلا للعالمين بالله حق المعرفة.
عباد الله: والذوق على نوعين:
الأول: ذوق طعم الإيمان بوعد الله, وهو يقين يدفع إلى الجد في العبادة والطاعة, ويدل عليه قوله -جل شأنه-: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإيمان فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الحجرات: 14]؛ فقد نفى الله الإيمان عمن لم يذق طعم الإيمان؛ لأن المخاطبين مسلمون وليسوا بمؤمنين الإيمان الكامل الذي يباشر القلب.
والثاني: ذوق الإنسان بالله -تعالى-, والفرق بين هذا النوع والذي قبله أن متعلق الأول وعد الله، وأما الثاني فمتعلقه الأنس بالله؛ فهو أشرف من الأول، فلا يشغله عن ربه ذكرا له وعبادة له أي شيء كائن من كان, والعباد يتفاوتون في قوة الأنس بربهم بحسب قربهم منه وبعدهم عنه, ومن كان منهم أقرب كانت خشيته أشد.
أيها المسلمون: وقد عبّر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إدراك حقيقة الإيمان، وحصوله في القلب ومباشرته له: بالذوق تارة، وبوجود الحلاوة تارة، وبالطعم تارة, وبين علامات ذلك على سلوك المسلم؛ كما قال في الحديث السابق: "ذاق طعم الإيمان", وقال من حديث أنس -رضي الله عنه-: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله, ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"(البخاري), وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجِدَ طَعْمَ الإِيمَانِ، فَلْيُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-"(رواه أحمد وحسنه الألباني).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضى الله عنهما- قَالَ: "أَحِبَّ فِي اللهِ، وَأَبْغِض فِي اللهِ، وَوَالِ فِي اللهِ، وَعَادِ فِي اللهِ، فَإِنَّمَا تُنَالُ وِلاَيَةُ اللهِ بِذَلِكَ، لاَ يَجِدُ رَجُلٌ طَعْمَ الإِيمَانِ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ وَصِيَامُهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ"(مصنف ابن أبي شيبة).
ومن علامات ذوق الإيمان: الصدق والثبات على الدين, وهذا الذوق هو الذي استدل به هرقل على صحة النبوة, حيث قال لأبي سفيان: "فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟" فقال: لا. قال: "وكذلك الإيمان، حين تخالط بشاشته القلوب"(البخاري).
أيها الإخوة: والتذوق بغير اللسان وفضله على ما يجده من تذوق بلسانه مشهور معلوم, يجده المرء حتى في كثير من متع الدنيا التي يحصلها الناس بالحق وبالباطل، وللناس فيما يعشقون مذاهب، وقديماً قال الإمام الشافعي عليه -رحمة الله-:
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي | من وصل غانية وطيب عناق |
وصرير أقلامي على صفحاتها | أحلى من الدّوكاء والعشاق |
وألذ من نقر الفتاة لدفها | نقري لألقي الرمل عن أوراقي |
وتفكري طربا لحل عويصة | في الدرس أشهى من مدامة ساق |
أأبيت سهران الدجى وتبيته | نومًا وتبغي بعد ذاك لحاقي؟! |
هذا خبيب بن عدي -رضي الله عنه-، ألقى عليه القبض كفار قريش، وأرادوا أن يقتلوه صلباً، فسألوه قبل أن يقتلوه: "أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت معافى في أهلك؟" فقال: "والله ما أحب أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويُصاب رسول الله بشوكة".
وتلك المرأة الأنصارية التي ذاقت حلاوة الإيمان، بلغها أن النبي قد قُتل في أحد، فانطلقت إلى ساحة المعركة، فإذا أبوها مقتول، قالت: "ما فعل رسول الله؟" فإذا أخوها مقتول، قالت: "ما فعل رسول الله؟" فإذا ابنها مقتول، قالت: "ما فعل رسول الله؟" فإذا زوجها مقتول، أبوها، وأخوها، وابنها، وزوجها، إلى أن وقعت عينها على شخص النبي -عليه الصلاة والسلام- فاطمأنت، وقالت: "يا رسول الله! كل مصيبة بعدك جلل" أي تهون، فهذه ذاقت حلاوة الإيمان, فكانت كل مصيبة عندها هينة مادام رسول الله سليماً معافى.
أيها الأحبة: إن الصحابة الكرام وتابعيهم بإحسان ذاقوا حلاوة الإيمان؛ فبذلوا الغالي والرخيص، والنفس والنفيس؛ كما قال بعض العاشقين:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ | وليتك ترضى والأنام غضاب |
وليت الذي بيني وبينك عامر | وبيني وبين العالمين خراب |
وليت شرابي من ودادك سائغ | وشربي من ماء الفرات سراب |
هذا حال من ذاق طعم الإيمان، فمن يذق طعم الإيمان لو قطتعه إرباً إرباً لا يتزحزح، وضعوا على صدر سيدنا بلال صخرةً؛ ليكفر، فما زاد عن أن قال: "أحدٌ أحد, فرد صمد".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدرًا، وأحاط بكل شيء خبرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، خُصَّ بالمعجزات الكبرى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين, أما بعد:
أيها المؤمنون: إن القلب إذا ذاق هذا الطعم فلن يعجبه شيء بعد ذلك، ومن عرف الله زهد فيما سواه، وإن من يذق حلاوة الإيمان يفعل المعجزات، إذا دخل الإيمان إلى القلب صرت إنسانا آخر، يسعدك أن تعطي لا أن تأخذ عكس الناس، يسعدك أن تقدم جهدك للآخرين لا أن تأخذ جهدهم، يسعدك أن تكون أقل الناس شأناً وأحظاهم عند الله -عز وجل-.
إن الإنسان إذا ذاق حلاوة الإيمان يبتعد عن الآمال، ويتجه إلى الأعمال، كل إنسان يعيش في الأمل، يتمنى ولا يعمل؛ ما ذاق حلاوة الإيمان، وكل إنسان يقوم إلى الصلاة ولم يذق حلاوة الإيمان، فإنه يؤدي العبادات بتثاقل، ولو ذاق حلاوة الإيمان لكان كالمرجل، حلاوة الإيمان تعطيك قوةً عجيبة، تعطيك قوةً تنسى بها كل شيء.
إخواني: إن من ذاق حلاوة الإيمان، ومعرفة الله -عز وجل-، والقرب منه، والأنس به، لم يكن له أمل في غيره، وإن تعلق أمله بسواه، فهو لإعانته على مرضاته ومحابه، فهو يؤمله لأجله ولا يؤمله معه.
وهذه الحلاوة أداة يذوقها القلب واللسان والجوارح، ويجد المرء أثر ذلك في نفسه؛ فأنت ترى أن بعض الموفقين يحسن بكلمة طيبة إلى مظلوم أو مسكين فيجد في نفسه شعوراً عجيباً، وآخر يعطي فقيراً مالاً فما أن يتناوله من يده حتى ينصرف بشعور عجيب ينقذف في نفسه، وآخر يتفكر في كلام الله -تعالى- فيجد في نفسه شعوراً لا يعدله شعور بمتعة طعام!.
من يذق حلاوة الإيمان يشعر بلذة نفسية عظيمة تدفعه إلى التلذذ بالطاعات, وتحمل المشاق في الدين, وإيثار الله والآخرة على متاع الدنيا وزخرفها, حتى إنه ليتفانى في سبيل دينه ومرضاة ربه, ويضحي من أجله بكل شيء.
فما أجدرنا أن نعظم ربنا ونوقره، ونخافه ونتقيه، لنذوق حلاوة الإيمان, ويكون حالنا مع الطاعة انشراح ولذة وشوق بلقاء الله -تعالى-, كما كان حال نبينا -عليه الصلاة والسلام- حين ينادي بلالاً: "قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ"(أبو داود)
ثم صلوا وسلموا على الهادي البشير؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).