المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | يحيى جبران جباري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
اتقوا الله في فلذات أكبادنا، فهم الغد الواعد، إن صلحتم صلحوا وصلحت الأمة، وإن فسدتم فسدوا وفسدت الأمة، إن أحسنتم تعليمهم وتفهيمهم، تقدمت وارتقت الدولة، وإن تكاسلتم وتهاونتم، تأخرت وهوة الدولة، فقد تعدت تربيتهم منا إليكم، وأصبح كل طالب بمعلمه معجب، وكل تلميذة بمعلمتها معجبة، وهذا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله خلق الإنسان وعلمه البيان، أحمده سبحانه وأشكره على الذراري بنات وغلمان، وأستعينه وهو المعين المستعان، وأستهديه وهو الهادي لمن شاء وأيا كان، وأستغفره وهو غافر الزلل والذنب والعصيان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة توحيد وإجلال وإقرار وعرفان. وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله معلم الأمة الأول، وصاحب الحلم والحكمة والبيان، اخرج الله به الناس من غياهب الجهالة والظلم والطغيان، إلى محجة العلم والعدل والإيمان، فصل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، إلى يوم توضع فيه الأعمال على الميزان.
ثم أما بعد: فأوصيكم إخوة الدين ونفسي المقصرة بتقوى الله رب العالمين، فكونوا لها قاصدين، ولها قولا وعملا مطبقين، فما حياتكم الدنيا إلا دنيا إن كنتم للمعنى فاهمين، وما هي إلا دار امتحان للخلق أجمعين، ثم دار البرزخ ما بين الدارين، ثم الدار الآخرة دار الحساب والجزاء، وفيها نجاة المتقين، وهلاك الكفرة والفجرة والظالمين.
يا رب نسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن نكون ووالدينا من الناجين.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحج: 1-2].
أيها المسلمون: اعلموا -يا رعاني الله وإياكم- بأنه محال أن يكون مجتمع جاهل ساد، ولا تقدم أو تزعم أو تفضل أو تميز، جاهل في أي زمان على جماعة ولا أفراد: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 247].
إذن، السبب الأول للأحقية في التقديم والتفضيل، ونيل الشرف للسير بكل جماعة، والصعود بهم الى العلو، والتقدم، ورفع الهمة، وبلوغ القمة، هو: العلم: (لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 22]، وقد جاء دليل التفضيل للعالم في كتاب الله واضحا صريحا، إذ قال سبحانه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: 28]، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: "إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم ،فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافر".
والعلماء هم صمام أمان الأمة، فإذا غاب العلماء عن الأمة ضلت في دينها، فعنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ -رضي الله عنهما- قالَ: سمعتُ رَسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وَسلمَ- يقولُ: "إِنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزَاعاً ينتزِعهُ منْ العبادِ وَلكنْ يقبضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ، حتى إِذَا لمْ يبقِ عالماً اتخذَ الناسُ رُؤوساً جهالاً، فسئلوا فأَفتوْا بغيرِ علمٍ، فضلوا وَأَضلوا"(رواه البخاري ومسلم).
ومليء كتاب الله وكذا سنة رسول الله بأدلة عظيمة، تنصر العلم والعلماء، وترفع شأنهم وتكثر الثناء عليهم، وعظيم الأجور التي لهم.
أيها الأحبة: ما ذكرت على أسماعكم إلا جرعة أبغي بها تنشيط عقول من أريدهم، بهذه الموعظة والوصايا وهم النخبة، وإني لعلى يقين بأن ما عندهم يفوق ما عندي وزياده، وإنما من باب التذكير لهم بفضل الله عليهم، وبفضلهم هم على المجتمعات والدول، بل وكل الإنسانية، وأقصد حملة مشعل العلم، وأهم أسباب الرقي والتقدم؛ أهل الصبر والحلم، والصدور المتسعة للأطفال حنانا وعطفا، حتى طال ذلك الصم والبكم؛ معلمي ومعلمات ومربي ومربيات، جيل اليوم وشباب الغد ورجال ونساء المستقبل، فها هي الصروح التي شيدت لتكون دولا مصغرة لكم دونكم يأتي إليها فلذات أكبادنا يقصدونكم، ليتنقلوا بينكم، يشمون عرفكم، ويرتشفون من رحيقكم، ويرتوون من زلال مائكم، ويأخذون عنكم أعظم ما الله أعطاكم؛ فاتقوا الله فيهم، أخلصوا نياتكم لله، واستشعروا الأمانة التي عليكم ملقاه، فماهم إلا كورق أبيض ما كتبتموه عليهم، كتب، وما يرونه منكم من تصرف وخلق رغب، وما يسمعونه من قولكم وجب.
أنتم في أعينهم القدوة، وأنتم الأخير والأسوة، وستكون لكم في حياتهم أعظم بصمة، فمع جرع العلم التي تعطوهم، أضيفوا محاسن الأخلاق وعليها ربوهم، فعلم بلا أدب كشجر بلا ثمر، دعوهم يرون فيكم كل خلق رفيع، وإياكم أن يسمعوا منكم أي لفظ قبيح وضيع، فإن ذلك يضعف من شخصياتكم أمامهم، لا تخرجوا عن المعقول معهم في الضحك والمزاح، فكم من معلم لهيبته أمام تلاميذه بفعل ذلك أطاح، لا تعينوهم وتسهلوا لهم أمر الغياب، ولا تخرجوهم من جو المدرسة والكتاب، ولا تظنوا بأن الاحترام منهم لكم إنما يكون بالشدة والعقاب، فكم من معلم لا يمسك عصا، والكل يقدم له الاحترام كأنه أخ كبير أو أبا، زيدوا ثقافتكم ومعرفتكم في موادكم وتخصصاتكم، ولا تجعلوا الطلبة يشكون في علميتكم وإتقانكم، فكم من طالب فاق في قاعة الدرس استاذه، فأورث ذلك في عقول التلاميذ أسئلة تحتاج لإجابة، وتذكروا الرعيل الأول الذي كنتم أنتم طلابه، وأزيد على ما أسلفت للمربيات والمعلمات، عسى أن يبلغهن، وإن كنت أعلم بأنهن له عارفات، الفتن بالبنات تعصف، والتغريب لهن يعزف، وسيل الإفساد لهن يجرف.
فيا ربات المدارس: اضربن بيد من حديد، مستعينات بالله، مستشعرات للأمانة التي أنتن أهلها، امنعن السفور والتكشف، فالدين ولنظام معكن في ذلك والكل يعرف، حاربن بذيء الأفعال وإدخال الجوال، فالنظام يعاقب على ذلك أشد العقوبة ولا يخفف، أوصوا التلميذات بتقوى الله وخشيته وهددوهن بإبلاغ أهليهن بكل مخالفة يأتينها، فلا زال ذلك عند البعض يخوف، اعرضوا المتجاوزات دينا وخلقا، على الجهات العليا، فالنظام لا يسمح بالتعدي على الدين ولا بسوء الأخلاق والتصرف، كن لهن خير أمهات، يكن لكن خير بنات.
وحسبنا أن معلمي أجيالنا والمعلمات ينطبق عليهم قول القائل:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم | على الهدى لمن استهدى أدلاء |
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه | والجاهلون لأهل العلم أعداء |
ففز بعلم تعش حيا به أبدا | الناس موتى وأهل العلم أحياء |
اقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله له الكمال، أحمده سبحانه وأشكره ذي العزة والجلال، وأشهد أن لا إله الا الله الكبير المتعال، وأن محمدا عبده ورسوله سوي الخصال، صل الله وسلم عليه وعلى الصحب والآل.
وبعد: يا كل من لاذ بجناب ربه وآل: اتق الله، فمن اتق الله صلح حاله والمآل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].
عباد الله: احفظوا للمعلمين والمعلمات حقهم، واذكروا بعد فضل الله فضلهم، ولا تنظروا لما يتقاضون، فلا مقارنة بينه وبين ما يبذلون ويقدمون.
ويا أولياء الأمور: أعينوهم، تابعوا بناتكم وبنيكم: "فكلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته".
وإليكم -يا منارات النور- أعود لأختم وصيتي إليكم: اتقوا الله في فلذات أكبادنا، فهم الغد الواعد، إن صلحتم صلحوا وصلحت الأمة، وإن فسدتم فسدوا وفسدت الأمة، إن أحسنتم تعليمهم وتفهيمهم، تقدمت وارتقت الدولة، وإن تكاسلتم وتهاونتم، تأخرت وهوة الدولة، فقد تعدت تربيتهم منا إليكم، وأصبح كل طالب بمعلمه معجب، وكل تلميذة بمعلمتها معجبة، وهذا واقع ومشاهد، وإن اجتهد صاحب قرار في أمر فإن كان لأبنائنا وبناتنا فيه خيرا ونفعا فأقروه، وإن كان فيه ضررا وشرا فامنعوه وردوه، فأنتم المستأمنون، فـ (لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنفال: 27].
بلغت شيئا مما في نفسي وآخره بلغت، وقد أكثرت عليكم وزدت، فأسأل الله أن ينفع به وإن قصرت، وفق الله المعلمين والمعلمات، وأعانهم على تحمل وأداء الأمانات، وأصلح لهم القول والعمل والنيات، بفضله وكرمه رب البريات.
ثم كثيرا من سلام وصلاة على الذي آتاه رب الباقيات، مادام في الليل نجوم ساطعات.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد...