المؤخر
كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...
العربية
المؤلف | عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المعاملات |
فالوصيّة قد بيّن الله حكمَها في القرآن، وبيّن ذلك رسول الله بيانًا واضحًا، وذلك أنّ المسلمَ في هذه الحياة لا يخلو مِن أن يكون له على النّاس حقوق أو يكون له حقوقٌ في ذِمم الآخرين، فلا يخلو من أن تُشغَل ذمّته بحقوق الآخرين أو أن تشغل ذمّة غيره بما له مِن حقوق، ولمّا كان الأمر كذلك لا بدّ من بيان الوصايا، وحُكم هذه الوصيّة، ومتى تكون لازمة، ومتى تكون...
الخطبة الأولى:
أمّا بعد:
فيا أيّها الناس: اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله: يقول الله جلّ جلاله وهو أصدق القائلين: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْولِدَيْنِ وَلأقْرَبِينَ بِلْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:180-182].
أيّها المسلمون: في هذه الآيات أحكامُ الوصايا حتى يكونَ المسلم مع بصيرةٍ من أمره، فالوصيّة قد بيّن الله حكمَها في القرآن، وبيّن ذلك رسول الله بيانًا واضحًا، وذلك أنّ المسلمَ في هذه الحياة لا يخلو مِن أن يكون له على النّاس حقوق أو يكون له حقوقٌ في ذِمم الآخرين، فلا يخلو من أن تُشغَل ذمّته بحقوق الآخرين أو أن تشغل ذمّة غيره بما له مِن حقوق، ولمّا كان الأمر كذلك لا بدّ من بيان الوصايا، وحُكم هذه الوصيّة، ومتى تكون لازمة، ومتى تكون مستحبّة ومرغَّبًا فيها.
فالله -جلّ وعلا- قال لنا في هذه الآية: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْولِدَيْنِ وَلأقْرَبِينَ بِلْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة:180]. هذه الآية فيها بيان مَن يُستحبّ في حقّه الوصية وأنّه الذي ترك خيرًا وهو المال الكثير، فهو الذي يستحَبّ في حقّه أن يوصِي، وأمّا من ليس كذلك ممّن ماله قليل وورثتُه كثير فإنّ عدمَ الوصيّة في حقّه أولى؛ لأنّ انتفاعَ من بعده بما وراءه أولى مِن أن يوصِيَ لغيرهم، فيضيّع من يجِب عليه أن يعولَه.
أيّها المسلمون: وإنّ للوصية في الشريعةِ أحكامًا عظيمة:
فأوّلاً: نعلم أنّ أصلَ الوصيّة مستحبّ، ولكنّها تجِب في أحوال، وتحرم في أحوال، ولمّا فرض الله المواريثَ وأعطى كلَّ ذي حقّ حقَّه أصبَحت الوصية مستحبّةً في غير الوارثين، وحرام أن يوصيَ لأحدٍ من الوارثين.
فمِن أحكام الوصايا أولاً أنّ الوصيةَ تكون واجبةً على المسلم في أمور، منها أن يكونَ متعلِّقًا بذمّتِه حقوقٌ لله أو حقوق لعبادِ الله، فلو تعلّق بذمّته حقوقٌ لعباد الله مِن ودائعَ عنده وأماناتٍ عنده وحقوق للآخرين عندَه، إمّا ودائع وأمانات، وإمّا أمورٌ واجبة يجِب عليه أن يؤدّيَها، حقوقٌ للآخرين تعلَّقت بذمّته، ليس عليها وثائِق تثبِتُها، فالواجب عليه أن يسجِّل وصيّته، فيذكَر ما عنده من أماناتٍ وما عنده مِن حقوق للآخرين، يسجّلها ويكتبُها ويُشهِد عليها، حتّى يلقى الله سليمًا من تبعاتِها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما حقُّ امرِئ مسلم عندَه شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيّته مكتوبةٌ عندَه". فمَن عنده حقوق؛ زكاةٌ تأخّر إخراجها، يجِب أن يوصيَ بها حتى يقفَ عليها من بَعده، فيؤدّيَها. فريضةُ حجٍ ما أدّاها يوصِي بها حتّى تؤدَّى عنه. نذرٌ ما أدّاه يوصِي به حتّى يُخرَج عنه. ودائع للآخرين وأماناتٌ ووثائق للآخرين يوصِي بها حتّى تؤدَّى. حقوقٌ لآخرين عندَه مِن معاملاتٍ بينه وبين شركائِه ومَن يتعامل معهم أو مَن ينفِّذ له عملاً... إلى غير ذلك من الحقوقِ التي يجب عليه أن يؤدّيَها، فسجّلها في وصيّته ليقفَ عليها من بَعده، فينفّذها حتّى يلقى الله خاليًا من التّبِعات بتوفيقٍ من الله.
وأمرٌ آخر، فهذه الوصيّة واجبةٌ ولازمة لا يجوزُ له تركها وإهمالُها، وكذلك لو كانَ له حقوقٌ في ذِمَم الآخرين فيجب أن يسجِّلها ويكتبها، لماذا؟! أوّلاً: حتى لا يضيِّعَ حقَّ الورثة، وأمرٌ آخر: حتى يبرِّئ الغرماءَ ممّا في ذمّتهم، فلا يَلقَوا الله ولم يسلّموا ما عليهم، فيوصِيهم ويقول: في ذمّة فلان لي كذا، وعندَ فلانٍ لي كذا، ويوثِّقها، ويبيّن وثائقَها الثّابتة، حتّى إذا جاء مَن بعده طالبوا بِها، فأبرؤوا ذمَمَ الآخرين، ولم يجعلوهم يعيشون بهذه الحقوقِ مِن حيث لا يعلمون.
وهذِه الوصيّة الواجبةُ أكّدها الله في كتابه بقوله: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء:11]، (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء:12]، (من بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء:12]، (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء:12]. ذلك أنّ الوصيّة لا مطالبَ لها، فلهذا أكّدها الله وقدّمَها على الدين وإن كان الدّينُ أهمَّ منها ومقدَّمًا عليها، لكن قدّم ذكرَها لأجلِ الاهتمام بها، وحتّى لو لم يطالِب بها أهلُها لوجَب على من عنده الوصيّة أن ينفّذَها لتسلَم ذمّتُه من تبِعات العباد.
وأمّا غير ذلك فإنّ الشارع حثَّ المسلمَ أن يوصيَ بعد موتِه بما يعود عليه بالنّفع في آخرته، فإنّه "ليس لك من مالك إلاّ ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبِست فأبليتَ، أو تصدّقتَ فأبقيتَ، وما سِوى ذلك فتاركُه للورثةِ". هكذا يقول -صلى الله عليه وسلم-.
إذًا فالمستحبّ للمسلم إذا رزقه الله خيرًا ومالاً أن يوصيَ بأمرٍ ينفعه بعدَ موته، ليجريَ عليه نفعُه بعد موتِه، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ماتَ ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفَع به، أو ولدٍ صالح يدعو له"، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ الله تصدّق عليكم عندَ موتكم بثلثِ أموالكم زيادةً في حسناتكم".
وثالثًا: أنّ كونَ المسلم ينفِّذ وصيَّتَه في الأعمال الخيّرة في حياتِه أولى من أن يجعلَ تنفيذَها بعد موته، لأنّه في حياتِه إذا نفّذها دلّ على رغبتِه في الخير، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أفضلُ الصدقة أن تتصدّقَ وأنت شحيحٌ صحيح، تأمَل الغنى، وتخشى الفقرَ، ولا تهمِل حتّى إذا بلغتِ الروح الحلقومَ قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان كذا"، لأنّ هذه الوصيّةَ عند الموت قد يكون أمرُها سهلاً؛ لأنّ الدنيا ترخُص في نفسِ صاحبها عند حضورِ الموت، ولكن إذا نفّذها في صحّته وسلامتِه دلّ على رغبِته في الخير.
ومِن أحكام الوصايا أيضًا أنّ الوصيّة الشرعيّة تكون بالثّلثِ فأقلّ، ولا تجاوِز الثّلث، بل استحبّ العلماء للمسلم أن تكونَ وصيّته بالخمس، فإن جاوزَ فالرّبع، فإن جاوز فالثّلث، ولا يجوز الزّيادة على الثلث.
عاد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سعدَ بن أبي وقاص -رضي الله عنه- في مرضٍ ألمَّ به، قال: يا رسول الله: إنّه لا يرِثني سِوى ابنة لي، وإنّي أحبّ أن أوصيَ بمالي كلِّه، قال: "لا"، قال: يا رسول الله: فالشّطر؟! قال: "لا"، قال: فالثّلث؟! قال: "الثلث، والثلث كبير -أو قال:- كثير، إنّك أن تذَرَ ورثتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تذَرهم عالةً يتكفّفون النّاس".
ومِن أحكام الوصايا أنّه لا يجوز للموصِي أن يحابيَ في وصيّته، ولا أن يُضارَّ بوصيّته. ومِن الإضرار أن يوصيَ بها لقصدِ حرمانِهم الانتفاعَ من المال، فيقتطِع الثلثَ لا لله، ولكن لأجلِ أن ينقص الورثة من حقوقِهم، أو يحاول حرمانَهم الميراث، فربّما سجّل ديونًا، وربّما سجّل في ذمّته دينًا لبعضِ الورثة وقال: فلان يطلبني كذا، وفلان بِعته الدارَ بكذا، وفلان بكذا، ومقصودُه أن يوزّع عليهم التركةَ حتى يحرم البقيةَ أن ينتفِعوا بها، (وَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة:220]. وهذه وصيّةٌ آثمة، صاحبُها معرَّض لسخَط الله، حتى إنّه يروى في الحديث أنّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّ العبدَ ليعمل بمعصية الله سبعين سنة، يحضره الموت، فيعدِل في وصيّته، فيختم له بخير، فيدخل الجنّة. وإنّ العبدَ ليعمل بطاعةِ الله سبعين سنة، فيحضره الموت، فيجور في وصيّته، فتجب له النّار". والله يقول: (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مّنَ اللَّهِ) [النساء:12]، فالمضارّ في وصيّته الذي يوصي لأجلِ حرمانِ بعضِ الورثة، فيقتطع جزءًا كبيرًا من المال بدعوى أنّه حقّ لفلان، وقيمة دارٍ اشتراها، وثمنٌ اقترضه، إلى غير ذلك، والله يعلم منه ما يخفيه على الآخرين، فإنّ الله يعلم السرَّ وأخفى، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ) [غافر:19].
ومِن أحكام الوصيّة أيضًا أنّ المسلمَ يحصي جميعَ الأموال ويوضّحها ويبيِّنها، ثمّ يجعل وصيّةً واضحة في أسلوبِها وعباراتها، لا إجمالَ فيها ولا اضطراب، فكم من وصيّةٍ سبّبت للورثةِ قطيعةً وتفرقة وعداوةً وبغضاءَ واختلافًا في مفهوم ما يريده الميّت، فالواجب عليه أن يجعلَها وصيّةً واضحة بيّنة يفهمها كلّ من قرأها أو سمِعها، حتى يرتاحَ في قبره، وحتّى لا تختلف ذريّته بعده، فيجعلها وصيّة يبيِّن الأمورَ التي يريدها في الصّدقات والأعمالِ العامّة، ويبيّن ما للورثةِ، وإن خصّ أحدًا بشيء علّل ذلك وقال: فلان لفقرِه، أو فلان لمرضِه، ونحو ذلك، ولكن هذه الأشياء الخاصّة تنتهي بانتهاءِ مسبِّباتها، حتى لا يقعَ إشكال ولا اختلاف بين الورَثة.
ومِن أحكامِها أن يختارَ لها من ورثتِه مَن يعلم ثقتَه وأمانتَه وصِدقه وأهليّته لتحمّل تلك الوصيّة، وإذا تعدّد الأولادُ ورأى أنّ الكفاءةَ فيهم جميعًا جمعهم وبيّن لهم ووضّح لهم، حتّى يكونوا على بصيرة، فإن رأى أنّ واحدًا قد لا يقوم بالمهمّة أشرك معه غيرَه، حتّى تطمئنّ النّفوس، ولو كانت أمّهاتُهم متفرّقة وكلّهم ذو عدالةٍ ورشد حاوَل أن يشركَ بعضَهم أو أن يشركَهم جميعًا في الوصيّة حتى تطمئنّ النفوس، ولا يكون في صدرِ أحدٍ حرجٌ على أحد، فهذا هو المطلوب من المسلم.
أيّها المسلم: كلّما اتّقيتَ الله في وصيّتك وكلّما عدلتَ فيها وكلّما راقبتَ الله فيها فإنّها وصيّة ستكون نافعة، وكلّما خالفتَ شرعَ الله فيها فإنّها وصيّة ضارّةٌ آثمة.
أخي المسلم: وإذا طُلب منك الشهادةُ على وصيّة فاتّق الله، وانصَح، واشهَد بما تراه حقًّا مناسبًا، ولا تشهَد بما تراه ظلمًا وجورًا، والله يقول: (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة:182]. فأصلِح الوصيّة، وأرشِد الموصي، وخوِّفه من الله، وقل: يا أخي: أنتَ في آخر الدنيا وتنتقل إلى الآخرة، فاتّق الله وانتقِل بخير، واعدِل في وصيّتك، واجتنِب الهوى، واجتنِب الظّلم، واجتنِب الحيفَ، وكن متّقيًا لله، والله يقول: (إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) [النساء:135]. وإن رأيتَه خصَّ بعضَ الورثة فقل له: إنّ الوصيةَ للوارث غيرُ صحيحة، والنبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنّ اللهَ قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقّه، فلا وصيّةَ لوارث". وإن رأيتَه خصّ بالوصيّة من ليس عدلاً في دينِه وأمانتِه فقل: يا أخي: اتّق الله، واختَر لها من فيه خير. وإن رأيتَه أيضًا خصّ بها من تعلَم أنّ إخوانَه لن يسمَعوا ولن يستجيبوا له فحاوِل الإصلاحَ وإشراكَهم حتى تكون الوصيّة عادلة، وحتّى لا تكون سببًا لنزاع واختلاف بين الورثة.
فلنتّقِ الله في أمورِنا، ولنتّق الله في الحقوقِ في ذمَمِنا، ولنبرّئ ذمَمَنا من الحقوق قبل لقاءِ الله، وأسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية والعونَ على كلّ خير، وأن يختمَ لي ولكم بخاتمةِ خير.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فيا أيّها النّاس: اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله: إذا علِمنا أنّ الوصيّة لا تصحّ لوارث، المرادُ بها لو أوصَى له بجزءٍ من المال، فقال: لفلان مبلغٌ من المال، هذا أمرٌ لا يصحّ باتّفاق المسلمين، ولكن لو جعل في وصيّته أمرًا ينفع بعضَ الورثة، لو كان عنده شيء من عقار، وقال: هذا البيت تسكُنُه المطلّقة من بناتِي والفقراءُ من أولادِي ونحو ذلك، إذا كان قصدُه منفعتُهم لفقرِهم وحاجتِهم فهذا أمرٌ جائز، فالزّبير -رضي الله عنه- جعل في وصيّته أن تسكنَ المردودةُ من بناته في هذه الدّار، بمعنى أن تسكنَ المطلّقة من بناتِه في هذه الدّار؛ لأنّه راعَى بذلك فقرَها وحاجتَها، وإذا انتفتِ الحاجة فإنّ الوصيّة تكون للجميع.
فليتّقِ المسلم ربّه، عندما يخصِّص لشيء فليراقبِ الله، وليكُن تخصيصُه مبنيًّا على أمرٍ شرعيّ، لا على هوًى وميولٍ مع البعض دون البعض.
أيّها المسلمون: وعلى الورثةِ جميعًا تقوى الله، وعلى الجميع تقوَى الله، وعند النّزاع في الوصيّة أن يرجعوا إلى أهلِ العلم، ويسألوا عمّا أشكل عليهم، ويحاوِلوا الإصلاحَ بينهم، وأن لا تكونَ الوصايا والأوقاف سببًا للاختلاف وقطيعةِ الرّحم، بل يجب التّواصي والتعاون على الخير والتقوى، فإنّ من قصد الخيرَ وأراده سهّل الله أمره.
أيّها المسلمون: وينبغي للمسلم إذا أراد أن يوصيَ أن يستشيرَ ذا علمٍ ومعرفة حتّى تكون وصيّته على المنهجِ الشرعيّ، وأن يشهِدَ عليها فإنّ الشهادةَ عليها تثبِتها وتقطع دابرَ النّزاع والخلاف.
وكان سلفُ الأمّة يوصون بأمورِ الخير مِن المشاريع العامّة التي تنفع المجتمعَ، فيوصي للفقراء ولا سيّما إن احتاج أحدُ ورثتِه، فإنّهم مقدّمون على غيرهم، ويوصي في بناءِ مساجد، ويوصي في إعانةِ المحتاجين مِن كلّ أنواع الحاجة، مِن إعانةِ المتزوّجين وقضاءِ دين المدينين والتنفيس عن المكروبين ومَن حلّت بهم الحاجة والضّرورة، فإنّ هذه هي الوصايا النافعة التي يعود عليه نفعُها وهو في لحدِه، فيستأنِس بتلك الأعمالِ الصالحة، ويجري عليه ذلك الثواب.
وكانوا في وصاياهم يوصون أولادَهم ومَن بعدهم بتقوى الله ولزومِ دينِ الإسلام والمحافظةِ عليه والمحافظة على الصلاةِ والزكاة وأعمالِ الخير والتواصي بالحقّ، قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: كانوا -أي: الصحابة- يكتبون في صدرِ وصاياهم: هذا ما أوصى به فلان ابن فلان بأنّه يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا عبد الله ورسوله، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريمَ وروح منه، وأنّ الجنة حقّ والنار حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريبَ فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، ويوصِي مَن بعده بما أوصَى به إبراهيم ويعقوب بنيه: (يَـابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [البقرة:132]، ويوصيهم بالصّلاة والزّكاة، وأن يتّقوا الله ويصلِحوا ذاتَ بينهم، ويلزَموا دينَ الإسلام ويعمَلوا بشريعة الإسلام، ويوصيهم بالتّواصي بينهم بالحقّ، وأن يرحَم كبيرهم صغيرَهم، وأن يحترمَ صغيرهم كبيرَهم، يوصيهم بهذه الوصايا، ويسأل اللهَ لهم التوفيقَ والهداية.
أسأل الله أن يعينَني وإياكم على كلّ خير، وأن يهديَنا جميعًا طريقَه المستقيم، وأن يرزقَنا الثباتَ على الإسلام والاستقامة عليه إلى أن نلقاه، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا -رحمكم الله- أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد -صلى الله عليه وسلم-، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا -رحمكم الله- على محمّد -صلى الله عليه وسلم- امتثالاً لأمر ربّكم؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...