العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - التوحيد |
عباد الله: إذا كان الرياء خطيراً، ومحبطاً للعمل، وسبباً لغضب الله -تعالى- ومقته، ومن المهلكات التي تُفضي بصاحبها إلى الشرك الأكبر؛ فجدير بالمسلم أنْ يُشمِّر عن ساق الجِدِّ في إزالته وعلاجه، وقطعِ عُروقه وأصوله، وتحصيلِ الإخلاص لله -تعالى- في كلِّ أحواله وأعماله، ومن أهمِّ وسائل علاج هذا الداء الخطير: أولا: معرفة عظمة الله -تعالى-؛ بمعرفة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: مما جاء في تعريف الرياء والسُّمعة: قول ابنِ حجرٍ الهيتميِّ -رحمه الله-: "الرِّيَاءُ: مَأْخُوذٌ مِنْ الرُّؤْيَةِ، وَالسُّمْعَةُ: مِنْ السَّمَاعِ"، فالرياء يتعلَّق بحاسة البصر، والسُّمعة تتعلَّق بحاسة السَّمع"، وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "الرياء: هو إظهار العبادة لِقَصْدِ رؤيةِ الناس لها، فيحمدوا صاحِبَها".
والرياء على قسمين: فقد يكون شركاً أكبر؛ لأنه يدخل في أساس العمل، وصاحِبُه من المنافقين، الذين قال الله -تعالى- فيهم: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً)[النساء: 142] فالمنافق لا رغبةَ له في القيام بأصل العبادة؛ كالصلاة، أو الصيام، أو الزكاة، أو غيرها إلاَّ رياءً، ولولا ذلك ما صلَّى، ولا صام، ولا ذَكَرَ اللهَ -تعالى-.
وقد يكون الرياءُ شركاً أصغر لا يَخرج صاحبُه من الملة، ولكنه يدخل في تحسين العمل، كالذي يعمل لوجه الله –تعالى-، لكن حسَّنه رياءً وسُمعة؛ كأنْ يُطيل في الصلاة لِيَراه الناس، أو يرفع صوته بالقراءة والذِّكر لَيَسمعه الناس فيحمدوه.
ومن أعظم أسباب الرياء ودوافعه: حبُّ لذة الحمد والثناء والمدح، أو الفرار من الذم، أو الطمع في ما في أيدي الناس
ويشهد له: حديث أبي موسى الأشعريِّ -رضي الله عنه- قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"(رواه مسلم)، فهو "يُقَاتِلُ شَجَاعَةً"؛ لِيُذكر، ويُشكر ويُمدح، ويُثنى عليه، "وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً"؛ أنفةً من أنْ يُغلَب ويُقهَر فيُذم "وَيُقَاتِلُ رِيَاءً"؛ لِتُرَى مكانتُه ومنزلتُه في القلوب.
عباد الله: وللرياء صورٌ كثيرةٌ ومتنوعة، ومن أهم أنواعه: الأول: الرياء بالعمل: كالذي يُرائي بإظهار الخشوع في الصلاة، فيطيل القيام والركوع والسجود، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّهَا النَّاسُ! إِيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: "يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلاَتَهُ جَاهِدًا؛ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ"(صحيح، رواه ابن خزيمة في "صحيحه"؛ والبيهقي في "السنن").
الثاني: الرياء بالقول: كالرياء بالوعظ والتذكير، وحِفْظِ الأخبار؛ لأجل المجادلة والحوار والمناظرة، أو المراءاة بحفظ القرآن الكريم، أو تحريك الشفتين بالذِّكر في محضر الناس، وكذا ذم النفس بين الناس؛ لِيُظهِرَ تواضعَه.
الثالث: الرياء من جهة اللباس: كمَنْ يَلبس ثياباً مُرقَّعة؛ لِيُظِهرَ أنه زاهد في الدنيا، وكذا مَنْ يَلبس الغليظ والخَشِن من الثياب، أو يشمرها كثيراً ليقال عابد.
الرابع: الرياء من جهة البدن: كإظهار النُّحول والاصفرار لِيُرِيَ الناسَ أنه صاحب عبادة، أو التصوير بملابس الإحرام أمام الكعبة؛ ليراه الناس.
ومن مخاطر الرياء وأضراره: أولا: أنه وسيلة قد تُفضي بصاحبها إلى الشرك الأكبر -والعياذ بالله -تعالى-.
ثانيا: أنه يُحبِط الأعمالَ التي يُصاحبها، ويُذهِب بركتَها، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)[البقرة: 264]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ النَّاسَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا، فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ"(حسن، رواه الترمذي).
ثالثا: أنه يكون سبباً في عذاب صاحبه يوم القيامة؛ لقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ كَذَبْتَ، ولكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حتَّى ألُقِيَ في النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ وعَلَّمَهُ، وقَرَأَ القُرآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا. قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأتُ فِيكَ القُرآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وقرَأتَ القُرآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ..."(رواه مسلم).
رابعا: أنه من الفتن التي خافها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على الأمة؛ حيث قال: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟" قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: "الشِّرْكُ الْخَفِيُّ؛ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلاَتَهُ؛ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ"(حسن، رواه ابن ماجه)، وقال أيضاً: "إنَّ أَخْوَفَ ما أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الأصْغَرُ" قالوا: وما الشِّرْكُ الأَصْغَرُ يا رَسُولَ الله؟ قال: "الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ -تعالى لهم (يَومَ القِيَامَةِ) إذا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إلى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ في الدُّنيا، فانظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً"(صحيح، رواه أحمد في "المسند").
خامسا: أنه يُورث الذلَّ والصَّغارَ والهَوَانَ والفضيحةَ في الدنيا والآخرة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ"(رواه البخاري ومسلم).
سادسا: أنه سببٌ في هزيمة الأمة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا؛ بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاَتِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ"(صحيح، رواه النسائي)، وهذا يُبَيِّن أنَّ الإخلاص لله سبب في استحقاق نَصْرِه، وأنَّ الرياء سببُ هزيمةِ الأمة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
عباد الله: إذا كان الرياء خطيراً، ومحبطاً للعمل، وسبباً لغضب الله -تعالى- ومقته، ومن المهلكات التي تُفضي بصاحبها إلى الشرك الأكبر؛ فجدير بالمسلم أنْ يُشمِّر عن ساق الجِدِّ في إزالته وعلاجه، وقطعِ عُروقه وأصوله، وتحصيلِ الإخلاص لله -تعالى- في كلِّ أحواله وأعماله، ومن أهمِّ وسائل علاج هذا الداء الخطير: أولا: معرفة عظمة الله -تعالى-؛ بمعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله معرفةً صحيحة مبنيَّة على فهم الكتاب والسنة، بفهم السلف الصالح.
ثانيا: الاستعانة بالله -تعالى- على الإخلاص، واللجوءُ إليه بالدعاء، والتعوذ من الرياء، وقد علَّمنا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ! اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ؛ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ" فقال بعضُ الصحابة: كَيْفَ نَتَّقِيهِ، وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ نَعْلَمُ"(حسن، رواه أحمد في "المسند").
ثالثا: معرفة أنواع العمل للدنيا، وأنواع الرياء وأقسامه وأسبابه، ثم قَطْعُها واستئصال شأفتها، فالإنسان قد يؤتى من جهله، أو من قِلَّة حذره.
رابعا: معرفة عاقبة الرياء في الدنيا والآخرة، يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: "مَنْ تزيَّنَ بما ليس فيه؛ شانَه الله"، وقال الخطابي -رحمه الله-: "مَنْ عَمِلَ عملاً على غير إخلاصٍ، وإنما يُريد أنْ يراه الناسُ ويسمعوه؛ جُوزِيَ على ذلك بأنْ يُشهره الله ويَفضحه، ويُظهر ما كان يُبطنه".
ومن عواقب الرياء في الآخرة: الفضيحة على رؤوس الأشهاد؛ كما في حديث الثلاثة الذين هم أول مَنْ تُسعَّر بهم النار.
خامسا: كِتمان العمل وإسراره، وقد نصَّ القرآن على أفضلية الصدقة المُخفاة. ومن السَّبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلاَّ ظله: "رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ"(رواه البخاري ومسلم)، وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ"(رواه مسلم).
سادسا: تَذَكُّر الموت وقِصَر الأمل، والخوف من سوء الخاتمة.
سابعا: معرفة ثمرات الإخلاص وفوائده في الدنيا والآخرة، ومصاحبةُ أهل الإخلاص والتقوى، فالجليس المُخلِص لا يُعدِمَكَ الخير، بعكس الجليس المُرائي.
أيها المسلمون: هناك أمور يظنها البعض أنها من الرياء، وليست منه، ومن أهمها: أولا: إذا عَمِلَ الرجلُ عملاً صالحاً خالصاً لله -تعالى-، ثم ألقى اللهُ له الثناءَ الحَسَن في قلوب المؤمنين وألسنتهم، ففَرِحَ بذلك، لم يضره ذلك، ولا يُعَدُّ من الرياء، قال الله -تعالى-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 58]، وسُئِلَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يعمل العملَ من الخير ويحمَدُهُ الناسُ عليه، فقال: "تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ"(رواه مسلم).
ثانيا: نشاط الإنسان في عمل الخير، وفي والعبادة عند رؤية العابدين، وعند مجالسة أهل الإخلاص والصالحين.
ثالثا: كتمان الذنوب وعدم إظهارها لا يُعتبر من الرياء، بل هو واجبٌ شرعي؛ لأنَّ الله -تعالى- يَكره ظهورَ المعاصي، ويُحب سترها.
رابعا: إظهار شعائر الإسلام؛ كالجمعة والجماعة، والحج والعمرة، وغيرها، فالمسلم لا يكون مرائياً بإظهارها؛ لأن تاركها يستحق الذمَّ والمقت.