العليم
كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
وفي التضرع إعلان لافتقار العبد إلى الرب -سبحانه وتعالى- واستجابة لما قرره الجليل -عز وجل- حين قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر: 15]؛ فالعبد إذا تضرع إلى ربه وتمسكن له، فإنه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: عبادة مهجورة؛ غفل كثير من الناس عنها، مع أنها أصل العبادات وجوهرها ولبها؛ إنها عبادة التضرع إلى الله؛ فأيما عبادة من العبادات اقترنت بالتضرع فحري أن يقبلها الله -تعالى-، وأيما عبادة تجردت منها فقد فقدت روحها ولبها؛ فكل صلاة أو حج أو زكاة أو دعاء أو ذكر خلت من التضرع فقد خلت من مقصودها.
والتضرع هو الخشوع والخضوع والتذلل والانكسار لله -عز وجل-، وقد عرَّف ابن تيمية التضرع بأنه: "التذلل والتمسكن والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء"، وقال ابن الأثير: "التضرع: التذلل والمبالغة في السؤال والرغبة... وتضرع: إذا خضع وذل".
أيها المؤمنون: إن للتضرع أهمية بالغة وشأنًا عظيمًا بين سائر العبادات، بل هو -كما قلنا- سر قبول تلك العبادات جميعًا، لذا فقد أمر الله به في كل عبادة؛ ففي الدعاء قال الله -عز وجل-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)[الأعراف: 55]؛ يقول الأوزاعي -رحمه الله-: "أفضل الدعاء الإلحاح على الله -عز وجل- والتضرع إليه".
وأمر الله -تعالى- بالتضرع إليه عند ذكره -سبحانه وتعالى-؛ فقال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً)[الأعراف: 205]... وما ذلك إلا لما للتضرع من مكانة عند الله -تعالى-.
وبالتضرع يرفع الله -سبحانه وتعالى- البلاء النازل؛ يقول -عز وجل-: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ)[الأنعام: 63-64]، فإنهم لما دعوا الله متضرعين أنجاهم ورفع عنهم البلاء.
والتضرع يُنجي من عذاب الله -عز وجل-، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)[الأنعام: 41-42]؛ فلو تضرعوا لله -تعالى- لرفع الله -عز وجل- عنهم العذاب، يقول ابن القيم: "والله -تعالى- يبتلى عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه، وقد ذم -سبحانه- من لم يتضرع إليه ولم يستكن له وقت البلاء؛ كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)[المؤمنون:76]، والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه، والرب -تعالى- لم يرد من عبده أن يتجلد عليه، بل أراد منه أن يستكين له ويتضرع إليه.
وفي التضرع إعلان لافتقار العبد إلى الرب -سبحانه وتعالى- واستجابة لما قرره الجليل -عز وجل- حين قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر: 15]؛ فالعبد إذا تضرع إلى ربه؛ فإنه يقر بعجزه وحاجته إلى الغني -سبحانه وتعالى- ليسد تلك الخلة وذلك الفقر.
وهو ما علَّمه رسولنا -صلى الله عليه وسلم- لابنته فاطمة قائلًا: "ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي إذا أصبحت، وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين"(رواه الحاكم في المستدرك)؛ فهذه الكلمات تقطر افتقارًا ومسكنة وتضرعًا وتجردًا من الحول والقوة إلى حوله وقوته -سبحانه-... وهذا مما يحبه الله ويرضاه، وما أروع ما كان يردده شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
أنا الفقير إلى رب البريات | أنا المسيكين في مجموع حالاتي |
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة | ولا عن النفس لي دفع المضرات |
وليس لي دونه مولى يدبرني | ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي |
ولست أملك شيئًا دونه أبدًا | ولا شريك أنا في بعض ذرات |
والفقر لي وصف ذات لازم أبدًا | كما الغنى أبدا وصف له ذاتي |
أيها المتضرعون: إن للتضرع لله -عز وجل- آدابًا ينبغي مراعاتها ليؤتي التضرع فائدته والغاية منه، فمنها:
أن يصل به تضرعه إلى مشهد الذل والانكسار والخضوع والافتقار للرب -جل جلاله-؛ فيشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقارًا تامًا إلى ربه ووليه، ومن بيده صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها، وإنما تدرك بالحصول، فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شيء، بحيث يرى نفسه؛ كالإناء المرضوض تحت الأرجل، الذي لا شيء فيه ولا به ولا منه، ولا فيه منفعة، ولا يرغب في مثله، وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيمه، فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما من ربه إليه من الخير، ويرى أنه لا يستحق قليلًا منه ولا كثيرًا.
ومن تلك الآداب: أن يوقن أن الله يسمع تضرعه، ويقدر على إجابته، ويحب ذلك منه؛ فيكون تضرعه بقلبه وفؤاده وجوارحه وكيانه كله، وإلا لم ينفعه تضرعه بلسانه، ولم يؤت ثمرته، وفي الحديث: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه"(رواه الترمذي).
ومنها: أن يسجد القلب لله قبل الجسد؛ فإن الله "لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم"(رواه مسلم)، وقد قيل لبعض العارفين: أيسجد القلب؟ قال: "نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء"؛ فهذا سجود القلب.
وإذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع الجوارح، وعنا الوجه حينئذ للحي القيوم، وخشع الصوت والجوارح كلها، وذل العبد وخضع واستكان، ووضع خده على عتبة العبودية، ناظرًا بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: إن العبد إذا تضرع لله حق التضرع، وراعى الآداب الظاهرة والباطنة، أثمر ذلك في نفسه ثمرات لا حصر لها، ومن تلك الثمرات ما يلي:
الثمرة الأولى: بلوغ محبة الله -سبحانه وتعالى-؛ فإن هذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله، وترميه على طريق المحبة، فيفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق، وإن كانت طرق سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابًا من المحبة، لكن الذي يفتح منها من طريق الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس، ورؤيتها بعين الضعف والعجز والعيب والنقص والذم، بحيث يشاهدها ضيعة وعجزًا وتفريطًا وذنبًا وخطيئة، نوع آخر وفتح آخر.
الثمرة الثانية: التضرع أقصر الطرق إلى استجابة الدعاء: لأن المتضرع قد جمع أهم أسباب استجابة الدعاء؛ "فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه، وذلت جوارحه وخشع صوته؛ حتى أنه ليكاد تبلغ ذلته وسكينته وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق، وقلبه يسأل طالبًا مبتهلًا"، ومن يجاب إن لم يُجب من هذا حاله؟!
الثمرة الثالثة: القلب الخاشع المتضرع أحب القلوب إلى الله وأقربها إليه؛ قال ابن القيم في معرض كلامه عن مشهد الذل، والانكسار، والخضوع، والافتقار لله: "فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه! وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه! وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم، وأحب القلوب إلى الله -سبحانه- قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذلة"، ويقول ابن رجب الحنبلي: "فهو -سبحانه وتعالى- يتقرب من القلوب الخاشعة له، كما يتقرب ممن يناجيه في الصلاة، وممن يعفر له وجهه في التراب بالسجود، ومن شروط التضرع الانكسار والتذلل والخشوع لله.
الثمرة الرابعة: رضا الله وجنته؛ يقول الله -تبارك وتعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[هود: 23]، والمتضرع إلى الله -تعالى- إنما هو من المخبتين؛ المتواضعين المتمسكنين المتذللين لربهم.
أيها المسلمون: تضرعوا إلى الله وتذللوا بين يديه يصلح لكم جميع أحوالكم، ويسعدكم بدنياكم وآخرتكم؛ فإن من تضرع إليه أكرمه وحباه وأسعده في الدارين ونجاه.
اللهم إنا نسألك الذلة بين يديك والإخبات إليك.
اللهم ارحم ضعفنا وذلنا بين يديك، واجعل في قلوبنا نورًا نهتدي به إليك، ووفقنا لكل عمل صالح نتقرب به إليك يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقرهم إليك، واجعلنا في أمورنا نتوكل عليك، اللهم لا تفضحنا يوم العرض عليك، واجعل لنا قلبًا يخشاك.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.
وصلوا وسلموا على البشير النذير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].