الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - المهلكات |
تخيّلْ أنْ تواجهَ شخصًا في حياتنا الاجتماعية، لا وجهَ ولا كلمة، ولا خُلقَ ولا امتثال. يقابلُك بشخصيةٍ نفاقية متناهية، إن قال: كذبَ وزوّر، وإنِ ائتمنتَه: لم يحفظ لك أمانةً ولا وديعةً، وإن عاهدته غدرَ وراوغ، وإذا حلّت خصومةٌ أو شاهدته فيها، لاح لك شبحُ الفجور الهائج، أو الوقيعة السافرة..
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ أكرمنا بدينه، وشرَّفنا بطاعته، وجعلنا خيرَ أمة ٍأُخرجت للناس، والحمدُ لله زاننا بالأخلاق، ورفع شأنَنا بالآداب، وقال في محكم كتابه العزيز: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم:4].
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا اللهَ وراقبوه، وأطيعوه ولا تجحدوه، واشكروه ولا تكفروه؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق:4].
إخوةَ الإسلام: ما أبغضَ المسلمون كلمةً، مثلَ النفاق، وما كرِهَ عبدٌ أن يُعيّر َبشيء كلفظةِ "منافق"، ولذلك وردَ التحذيرُ من المنافقين وصفاتهم، وأن ينتبهَ المسلمُ لدينه وخلقه، وأن يراعي نعمةَ الإسلام عليه، فيحفظَ أخلاقَه ومعاملاتِه مع الناس.
يقول -صلى الله عليه وسلم- كما في المتفقِ عن عبد الله بن عمرو بن العاصِ -رضي الله تعالى عنهما-: "أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنافِقًا خالِصًا، ومَن كانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حتّى يَدَعَها: إذا اؤْتُمِنَ خانَ، وإذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا عاهَدَ غَدَرَ، وإذا خاصَمَ فَجَرَ"(صحيح البخاري:٣٤).
تخيّلْ أن تواجهَ شخصًا في حياتنا الاجتماعية، لا وجهَ ولا كلمة، ولا خُلقَ ولا امتثال. يقابلُك بشخصيةٍ نفاقية متناهية، إن قال: كذبَ وزوّر، وإنِ ائتمنتَه: لم يحفظ لك أمانةً ولا وديعةً، وإن عاهدته غدرَ وراوغ، وإذا حلّت خصومةٌ أو شاهدته فيها، لاح لك شبحُ الفجور الهائج، أو الوقيعة السافرة.. فهل تصبرُ على مثلِ هذا اللون من البشر؟!
ولا خيرَ في وُدِّ امْرِئٍ مُتَمَلِّقٍ | حلْوِ اللسانِ وقلبهُ يَتَلهبُ |
يلقاكَ يحلِفُ أنَّهُ بِكَ وَاثِقٌ | وإذا تَوَارى مِنْكَ فَهُوَ العَقْرَبُ |
يُعْطيكَ من طَرَفِ اللِّسَانِ حَلَاوَةٍ | ويَرُوغُ مِنْكَ كمَا يَرُوغُ الثَّعْلَبُ |
يقول الله -تعالى-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء:142]، ولهذا كان عقابهم أليمًا ونهايتهم تعيسة؛ لأنهم جانَبُوا الإسلام في صفاتهم، وخالفوا الهديَ في شمائلِهم. وإلا فما قيمةُ المسلم بلا صدق وأمانة، وبلا وفاءٍ وحفظٍ للعهود؟!
وقال -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119]، ومقصدُ الحديث هنا "النفاق العملي"؛ الذي يشعر فيه المسلمُ أنه يشابهُ جماعةَ المنافقين، فيتخلقُ ببعض صفاتهم، كالكذب والخيانة، وليس النفاق الاعتقادي الموحي بالخروج من الملة. وفيه من التخويف والنذارة ما لا يخفى.
وأن المسلمَ المنسلخ من صفاتهِ بالكلية، قد يصيرُ من المنافقين إذا أدمنَ هذه الصفات:
وأولاها: الخيانة المضادةُ للأمانة، والمقتضية للحفظ والصيانة، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[النساء:58]، ولكن لضعف إيمانهِ، أو لخسةٍ في طبعهِ، لا يحفظ أمانةً ولا يصون حقًّا للناس، من أملاكٍ وأقوال وودائع.. ومن الأمانة المرعية القيامُ بالدينِ وتكاليفه، قال -عز وجل-: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[الأحزاب:72].
وثانيها: الكذبُ المضادّ للصدق، فلا يربو النفاقُ إلا في مستنقعات الكذابين المخبرين بخلاف الحقيقة، والمتاجرين بالزورِ والمين، قال -تعالى-: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)[المنافقون:1]، ويحصلُ بالكذب الفتنةُ والوقيعة بين الناس، والافتراءُ على الله. قال -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يزال الرجلُ يكذبُ ويتحرى الكذبَ، حتى يُكتب عند الله كذابًا".
وقال الأحنف -رحمه الله-: "ما خانَ شريفٌ، ولا كذب عاقلٌ، ولا اغتاب مؤمنٌ. وكانوا يحلفون فيحنثون، ويقولون فلا يكذبون".
ثالثها: الغدرُ المضاد لحفظ العهد؛ إذ ليس له كلمةٌ ولا عنده ميثاق، ولا يدوم له عهد.. قال -تعالى-: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)[النحل:91]. وفي الصحيحين قال -عليه الصلاة والسلام-: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ".
رابعها: الفجورُ الحادثُ في الخصومة "وإذا خاصمَ فجر"، وفسّروه بالخروج عن الحق عمدًا، لكي يجعلَه باطلاً أو يجعلَ الباطل حقًّا بالأكاذيب والمحاليف وشهودِ الزور.
كالذي يحلفُ عند القاضي كاذبًا على شيء ليس له، أو يستعمل شهودَ الزور لإثباته، وهذا عنصرٌ من أقبحِ الناس، وصحَّ قوله -عليه السلام-: "إن أبغضَ الرجالِ إلى الله الألدُ الخَصِم".
عافانا الله وإياكم من صفات أهل النفاق، وطهَّر قلوبنا من الآفات والأسقام، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه، فيا فوزَ المستغفرين التائبين.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وحده، والصلاةُ والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه أجمعين.
أيها الإخوةُ الفضلاء: لاريبَ أن سماعَ مثلِ هذا التحذيرِ النبوي، لجديرٌ أن يُرهبَ قلوبنا، وأن يمنعَ نفوسَنا من الانحراف لهذا المسار الاجتماعي المَشين، والمُهين لكل مسلم. فمَن منكم يحبُّ أن يُعرَفَ بالكذب، أو الخيانة، أو إخلافِ الوعود، وكثرة الغدر والخصومة؟!
إنها صفاتُ تنفر ُمنها الطباع، ويضيق منها الأخيار، ويأباها أصحابُ الشرف والمكانة.. قال -عز وجل-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)[سورة البقرة:204-205].
فاحفظوا مجتمعكم -يا مسلمون- من النفاق، وصونوا نفوسكم من سماته، وتواصلوا بحبٍّ وصدق، وكن عبدَ الله مؤمنًا على سجيتك، واترك صفات الذين لا يعقلون، واعلم أن الصدق منجاةٌ، والأمانةَ دينٌ، والوعد ميثاق، والعهد رقابة والتزام؛ (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[سورة الفتح:10].
وصلوا وسلموا -يا خيار- على البشير النذير، والسراج المنير، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.