الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أركان الإيمان |
فقد كان الإسراء والمعراج من أكبر النِعَم على هذه الأمة، وقد نوّه الله بشأنه في كتابه، وبيّن الحكمة فيه في سورة الإسراء وفي سورة النجم. وقد أكرم الله فيه نبيّه، وأراه من آياته الكبرى، وفرض على أمته الـ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، على فضله وإحسانه حمداً طيباً كثيراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به إلى السموات العُلى، فنال بذلك فضلاً كبيراً، وخيراً كثيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيّها الناس: اتقوا الله، واشكروا نعمته عليكم، ومن أَجَلِّ نِعمه: بعثةُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليكم.
وما خصّه الله به من الخصائص العظيمة، وما شرّفه به من المنزلة الكريمة، ومن ذلك: معجزة الإسراء إلى المسجد الأقصى والمعراج إلى السماء.
فقد كان الإسراء والمعراج من أكبر النِعَم على هذه الأمة، وقد نوّه الله بشأنه في كتابه، وبيّن الحكمة فيه في سورة الإسراء وفي سورة النجم.
وقد أكرم الله فيه نبيّه، وأراه من آياته الكبرى، وفرض على أمته الصلوات الخمس التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، فرضها خمسين صلاة في اليوم والليلة.
ثم خفّفها إلى خمس صلوات في العمل، وهي عن خمسين في الثواب، ورأى في هذه الرحلة المباركة من آيات الله الكبرى ما قرّت به عينه، وقوي به يقينه، وصار هذا الإسراء من أكبر معجزاته، وأعظم آياته، قد فرح به أهل الإيمان، واغتاظ منه أهل الكفر والطغيان؛ كما قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ) [الإسراء: 60].
فأقام الله به الحجة، واستنارت به المحجّة، فآمن مَن آمن على يقين من ربه، وكفر مَن كفر بعد أن قامت عليه الحجّة.
فواجب المسلمين في كل عصر: أن يشكروا الله على هذه النعمة بأداء ما أوجب الله عليهم فيها من الصلوات الخمس في اليوم والليلة في أوقاتها، في بيوت الله وجماعاتها، وأن يتجنبوا الذنوب التي أخبر النبي -صلى الله عليه- أنه رأى في هذه الليلة أهلها يعذبون بها أشد العذاب، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم: "أنه أتى على قوم تُرضخ رؤوسهم بالصخرة، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتّر عنهم من ذلك شيء، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة، ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الإبل والنَّعَم، ويأكلون الضريع والزقّوم، ورضَف جهنم وحجارتها، فقال: فما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم، وما ظلمهم الله -تعالى- شيئاً، وما الله بظلاّم للعبيد.
ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر، ولحمٌ آخر نيء قذِرٌ خبيث، فجعلوا يأكلون اللحم النيء الخبيث، ويدعون النضيج الطيب، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيبة، فيأتي امرأة خبيثة، فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيباً، فتأتي رجلاً خبيثاً، فتبيت معه حتى تصبح.
قال: ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك يكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها، ويريد أن يحمل عليها.
ثم أتى على قوم تُقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قُرضت عادت كما كانت، لا يُفَتّر عنهم من ذلك شيء، فقال: ما هذا يا جبريل؟ فقال: هؤلاء خطباء الفتنة.
ثم أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج، فلا يستطيع، فقال: ما هذا يا جبريل؟ فقال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها، فلا يستطيع أن يردّها.
وأتى صلى الله عليه وسلم على قومٍ بطونهم كالبيوت فيها الحيّات، ترى من خارج بطونهم، فقلت: "مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكَلَة الرِبا" [الحديث رواه ابن جرير بسنده عن أبي هريرة].
عباد الله: إن النبي -صلى الله عليه وسلم-، رأى هؤلاء المجرمين يعذّبون بجرائمهم، وأخبر عن ذلك تحذيراً للأمة من ارتكاب هذه الجرائم الشنيعة، ومنها: التكاسل عن أداء الصلاة المكتوبة في وقتها مع الجماعة.
وقد كثر ارتكاب هذه الجريمة، فتكاسل كثير من الناس عن أداء الصلوات قبل أن يواجهوا هذا المصير المؤلم.
ومنها: منع الزكاة، وهي قرينة الصلاة، والوعيد على منعها شديد، فالواجب على أصحاب الأموال إخراج زكاتها كما أمر الله بذلك.
ومنها: ارتكاب جريمة الزنا، وهو من أشنع الجرائم، وعقوبته في الدنيا والآخرة من أشد العقوبات، وقد قال الله -تعالى-: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) [الإسراء: 32].
وذكر الله الزنا قريناً للشرك، وقتل النفس، قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ)[الفرقان: 68 - 70].
هذا عذاب الزاني في الآخرة.
وأما عذابه في الدنيا، فالذي يزني بعدما تزوج واستمتع بزوجته يُرجم بالحجارة حتى يموت.
وهذا مما يدل على شناعة الزنا وفحشه وقبحه، وشدة عذابه في الدنيا والآخرة.
ومنها: خيانة الأمانة، فقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- الخائن لأمانته، قد كلف تعذيباً له بحمل حزمة لا يستطيع حملها، وهو يجمع عليها زيادة.
ومنها: الخطباء الذين يوقدون الفتنة بخطبهم، ويحرشون بين الناس تقرض ألسنتهم وشفاههم.
وما أكثر خطباء الفتنة اليوم في النوادي والإذاعات، ممّن يحرّضون على الثورات، وسفك الدماء، والإخلال بالأمن.
ومنها: أن الذين يتكلمون بالكلام المحرّم من كذب وشتم وغيبة ونميمة، وشهادة زور، وأيمان فاجرة، فيفسدون بين الناس ولا يستطيعون إصلاح ما أفسدوا، ولا استرجاع ما تكلموا به من الفحش والزور.
ومنها: أن أكَلَة الربا تتضخّم بطونهم، فتصير كالبيوت العظيمة فيها الحياة المروعة، ومصداق هذا في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة: 275].
أي: لا يقومون من قبورهم عند البعث إلا كقيام المصروع الذي به مسٌّ من الجن، فهو يقوم ويسقط.
وما أكثر أكَلَة الربا اليوم، بسبب تضخم الأموال ووجود البنوك الربوية التي تستثمر فيها تلك الأموال في الداخل والخارج، حتى أصبح الربا وسيلة اقتصادية مألوفة يُستغرب مَن ينكرها، ويُسخر منه؛ كما قال المرابون من قبل: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) [البقرة: 275].
أيها المسلمون: إن واجبنا أن نستفيد من حادث الإسراء والمعراج: العبرة والعظة، والتمسك بأوامر الله، واجتناب مناهيه.
ولا يكون حظنا منه إحداث البدع بإقامة الاحتفالات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي حذّرنا منها نبيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فكثير من الناس لا يعرف عن هذه الآية إلا أنها وقت سنوي يقيمون فيه احتفالاً مبتدعاً، في موعد حددوه من عند أنفسهم، كأن النعمة بهذه الآية العظيمة لا تحصل إلا في تلك الليلة الواحدة من السنة، وليس لها أثر مستمر باستمرار الصلوات الخمس في اليوم والليلة، ومستمر كلما تليت هذه الآية في القرآن –لكنها التقاليد الفاسدة والطقوس الفارغة التي شابهوا بها اليهود والنصارى هذا فقههم للأحداث وتفقههم في الدين.
فاتقوا الله -عباد الله- واستفيدوا من سيرة نبيّكم القدوة الحسنة، والعبرة والعظة، وأحيوا السنن، واحذروا البدع، فهذا هو سبيل النجاة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 7].
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه المنير: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الإسراء: 1].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو العليم الخبير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المؤيد بالبيِّنات المعجزات، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وناصروه، وجاهدوا معه، ونشروا دينه في مشارق الأرض ومغاربها، حتى ظهر على سائر الأديان.
أما بعد:
أيّها الناس: اتقوا الله -تعالى-، وتأملوا هذا الحديث العظيم الذي نوّه الله بشأنه، فقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء: 1].
مجدّ الربّ نفسه لقدرته الباهرة حيث: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ) محمد -صلى الله عليه وسلم- بأن نقله في جنح الظلام: (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) بمكة المشرفة: (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) وهو بيت المقدس الذي بفلسطين –مسجد الأنبياء من عهد إبراهيم الخليل -عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام-، مع بُعد ما بين المسجدين من المسافة، ثم عرج به من هناك حتى تجاوز السبع الطباق، والتقى بالأنبياء وكلّمه الله من وحيه بما شاء، وفرض عليه الصلوات الخمس، ثم عاد إلى مكة من ليلته، وحدّث الناس بذلك، فآمن به مَن آمن، وكفر مَن كفر، كما قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ) [الإسراء: 60].
روى البيهقي بسنده عن عائشة قالت: لما أُسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى أصبح يحدّث الناس بذلك، فارتدّ ناس ممّن كانوا آمنوا به وصدّقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل: أن يصبح؟! قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة.
فلذلك سميّ أبو بكر الصديق، وهذا هو الإيمان الراسخ واليقين الصادق.
ومنه نأخذ القاعدة العظيمة في أصول العقيدة، وهو: أن المدار على ثبوت الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا ثبت آمنّا به وصدّقناه بدون اعتراض أو شك أو استغراب؛ لأنه نبي صادق لا ينطق عن الهوى، وقدرة الله تامة لا يعجزها شيء،
فما هي الغرابة إذاً؟ وكيف نصدّقه أنه رسول الله يأتي بالوحي، ولا نصدقه في خبره أن الله أسرى به إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء، ورجع إلى مكة في ليلة واحدة؟
ليس هناك شبهة أمام هؤلاء المكذّبين إلا بُعد المسافة في هذه الرحلة، ونسُوا قدرة الله التي لا يعجزها شيء، ونسُوا سرعة وصول الوحي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من السماء، وهو بمكة؟
أليس الله قد أقدر البشر الآن على قطع المسافات الطويلة في ساعات قليلة بواسطة المخترعات الحديثة؟
إن الذي أقدر البشر على ذلك قادر على أن يسري برسوله من مكة إلى بيت المقدس وإرجاعه في ليلة واحدة، من باب أولى، وهو على كل شيء قدير، وصدق الله ورسوله.
أيها المسلمون:
إن خير الحديث كتاب الله | إلخ |