المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | فيصل بن عبد الرحمن الشدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصلاة |
الصلاة ميدان جهاد للآباء والأمهات مع أبنائهم وبناتهم، فمرُوهم وانصحوهم وذكِّروهم ورغِّبوهم ورَهِّبوهم ولا تيأسوا ولا تستطيلوا الزمن، .. حذار من تضييعهم، فما والله تطرّق كثير من الفساد للأبناء إلا بإهمال الآباء، ومن ضيَّع أبناءه صغارًا لم ينفعوه كبارًا.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الراجي صدقاً من رجاه، والداعي حقّاً من دعاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعالى عن الأضداد والأنداد والأشباه، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله اختاره على البشر واصطفاه، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه ما انشق صبح وأشرق ضياه.
أما بعد: فكلما تشبّهت الشبهات وتزيّنت الشهوات كان اللياذ بالتقوى مُلِحّاً، والدعاء إليها مُهِمّاً، فاتقوا الله رحمكم الله.
عباد الله: ما أعظم الشأن!، وما أجلّ المنزلة!، بها جاء الأمر وعُظِّم الأجر، وكبُر المقت في التارك والوزر؛ إلا مَن ترك لعذرٍ، إنها صلاة الجماعة، صلاة الجماعة في المساجد، صلاة الجماعة يا لعظمها! وإنْ هوَّن المهونون وشوَّش المشوشون وتكاسل المتكاسلون.
ألا إنَّ صلاة الجماعة واجبةٌ على الرجال في الحضر والسفر وفي حال الأمان وحال الخوف وجوباً عينياً؛ قال الله -تعالى-: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)[البقرة: 43]، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "أي: صلّوا مع المصلين، ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها".
وقال -تعالى-: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)[النساء: 102].
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: "آية صلاة الخوف هذه من أوضح الأدلة على وجوب الجماعة؛ لأن الأمر بها في هذا الوقت الحرج دليل واضح على أنها أمر لازم، إذ لو كانت غير لازمة لما أمر بها في وقت الخوف؛ لأنه عذر ظاهر".
ومن الأدلة على وجوبها ما ورد في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ".
وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ، فَلاَ صَلاَةَ لَهُ، إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ: "تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ، حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وأَتَى رَجُلٌ أَعْمَى إِلَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَسَأَلَه أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ، فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: "هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَأَجِبْ"(رَوَاهُ مُسلِمٌ).
وفي حديث أُبَيّ بن كعب -رضي الله عنه- قال: "صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصبح، فقال: شاهِد فلان؟ فقالوا: لا، فقال: شاهِد فلان؟ فقالوا: لا، فقال: شاهِد فلان؟ فقالوا: لا، فقال: "إن هاتين الصلاتين من أثقل الصلوات على المنافقين، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً"(رواه أحمد والدارمي وأبو داود وحسنه المنذري والألباني).
وفي قول الصحابة وحالهم مع صلاة الجماعة جاء حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "مَن سرَّه أن يلقى الله -تعالى- غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن؛ فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلّف في بيته لتركتم سُنَّة نبيكم، ولو تركتم سُنَّة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيُحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنةً ويرفعه بها درجة ويحطّ عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤْتَى به يُهَادَى بين الرجلين حتى يُقَام في الصّفّ"(رواه مسلم).
وقد كَتَبَ عُمَرُ بنُ الخَطَابُ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- يَومًا إِلَى عَامِلِهِ: "إِنَّ أَهَمّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصّلَاةُ، مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ ".
يا عباد الله: أبعد هذه الآيات والأحاديث من عذر؟! في ساحة المعركة جاء الأمر بها.. ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهمّ بالتحريق بالنار لبيوت لا تشهدها.. ومن سمع نداءها فحُكْمُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا صلاة له إلا من عذر، ولله صحب رسول الله يُؤتى بأحدهم مريضاً يتهادى بين رجلين حتى يقام في صفها؛ فأين المفرطون فيها؟! المتخلفون عنها؟! ألا من يقظة قبل الرحيل والوقوف بين يدي العزيز الجليل؟!
اعتذر المعتذرون في الترك لصلاة الجماعة بجائحة كورونا والخوف من الوباء، ولهم في هذا عذر، أما وبعدها قد خرجوا للأسواق ومجامع الناس ولقاءاتهم وخفَّ الوباء فحينها لا عذر، لا سيما وأنتم تنظرون أن المساجد من أفضل البيئات التزاماً بالإجراءات الوقائية، فلنتق الله ولنجب أمر ربنا (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)[البقرة: 43].
أقول ما قلت، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
وبعد: فإن الله -تعالى- يقول: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه:132]، وفي دعاء الأنبياء في القرآن (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)[إبراهيم:40].
وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَمَا أَمْسَى، فَقَالَ: "أَصَلَّى الْغُلَامُ؟"(رواهُ أبو داودَ وصححه الألباني).
وفي حديثٍ صحيحٍ صريحٍ قالَ نبيُّ هذهِ الأمَّةِ -صلى الله عليه وسلم- للآباءِ والأمهاتِ: "مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ"(أخرجه الترمذي وأبو داود وحسنه النووي والألباني). وفي هذا التوجيهِ النبويِّ الكريمِ من حُسنِ التدرُّجِ واللُطفِ بالصغيرِ الشيءُ الكثيرُ؛ فهوَ خلالَ فترةِ ثلاثِ سنواتٍ قد نُودِيَ إلى الصلاةِ أكثرَ من خمسةِ آلافِ مرةٍ. فغالباً أنه لا يحتاج إلى ضرب عليها لأنه قد اعتادها.
عباد الله: الصلاة ميدان جهاد للآباء والأمهات مع أبنائهم وبناتهم، فمرُوهم وانصحوهم وذكِّروهم ورغِّبوهم ورَهِّبوهم ولا تيأسوا ولا تستطيلوا الزمن، بل لوصية ربكم احفظوا (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)؛ حذار من تضييعهم، فما والله تطرّق كثير من الفساد للأبناء إلا بإهمال الآباء، ومن ضيَّع أبناءه صغارًا لم ينفعوه كبارًا.
اللهم صلِّ على محمد وآله وصحبه أجمعين.