العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أهل السنة والجماعة |
عباد الله: ما من عقيدة ولا عبادة ولا خلق ثابت في هذا الدين إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تقصير أو غلو، فقصر بأقوام عن فعل الواجب والمأمور به، وتجاوز بآخرين إلى تعدي الواجب، والغلو فيه، فقوم قصَّر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد بالوسواس. وقوم قصَّر بهم عن إخراج الواجب من المال، وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم وقعدوا كَلًّا على الناس، مستشرفين إلى ما بأيديهم. وقوم قصَّر بهم عن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله حق تقواه وراقبوه مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه.
ثم اعلموا -رحمكم الله- أن الله -تبارك وتعالى- قد امتدح هذه الأمة -أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بأنها الأمة الوسط، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143]، بهذا امتدح الله هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، امتدحها بالوسطية، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تفسير الوسط بأنه العدل؛ كما في البخاري وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وَالوَسَطُ العَدْلُ"، وثبت تفسير الآية بهذا المعنى عند غير واحد من الصحابة والتابعين.
عباد الله: إن أحمد الأشياء أوسطها، وخير الأمور أوسطها، والله -تبارك وتعالى- إنما وصف هذه الأمة بأنهم وسط لتوسطهم في الدين بين غلو الغالين وتقصير المقصِّرين، ودين الله -تعالى- وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الوسط، يروى عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "عليكم بالنمط الأوسط فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل".
وأهل النمط الأوسط هم الذين ارتفعوا عن تقصير المقصرين المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المتجاوزين المعتدين، ولكنهم كانوا أهل توسط واعتدال، فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها.
وقد نهى الله -تبارك وتعالى- عن الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء، والزيادة والنقصان، وأمر بالتوسط والاعتدال في غير آية من القرآن، يقول الله -تعالى-: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)[الإسراء: 29]، ويقول: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا)[الإسراء: 26]، ويقول: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان: 67]، ويقول: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]، ويقول: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ)[لقمان: 19]، والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
عباد الله: يقول بعض السلف: "ما أمر الله -سبحانه- بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر" فهو يشام نفس الإنسان؛ فإن رأى الغالب عليه المهانة والإحجام أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور وثقَّله عليه وهوَّن عليه تركه حتى يتركه جملة أو يقصر فيه ويتهاون به.
وإن رأى الغالب عليه القوة والإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به ويوهمه أنه لا يكفي، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة، فيقصر بالأول، ويتجاوز بالثاني.
ومن رأى حال الناس يجد أن أكثرهم إلا القليل قد اقتطعوا في هذين الواديين -وادي التقصير والجفاء، ووادي المجاوزة والتعدي-، والقليل منهم الثابت على الصراط المستقيم والمحجة البيضاء التي كان عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
عباد الله: ما من عقيدة ولا عبادة ولا خلق ثابت في هذا الدين إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تقصير أو غلو، فقصر بأقوام عن فعل الواجب والمأمور به، وتجاوز بآخرين إلى تعدي الواجب، والغلو فيه، يقول ابن القيم -رحمه الله- ضمن كلام عظيم له في كتابه: "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" يصف فيه أحوال الناس الذين انحرف بهم الشيطان عن الصراط المستقيم إلى التقصير أو الغلو: "فقوم قصَّر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد بالوسواس.
وقوم قصَّر بهم عن إخراج الواجب من المال، وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم وقعدوا كَلًّا على الناس، مستشرفين إلى ما بأيديهم.
وقوم قصَّر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم، وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم.
وكذلك قصر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.
وقصَّر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات، كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام.
وقصَّر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكله، وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على الدماء المعصومة.
وكذلك قصَّر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به.
وقصَّر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم، وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص.
وقصَّر بقوم حتى زين لهم ترك سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من النكاح فرغبوا عنه بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام.
وقصَّر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح وأعرضوا عنهم ولم يقوموا بحقهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله -تعالى-.
وكذلك قصَّر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حلَّلوه والحرام ما حرموه، وقدَّموا أقوالهم على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة الصريحة.
وقصَّر بقوم حتى قالوا: إن الله -سبحانه- لا يقدر على أفعال عباده ولا شاءها منهم -القدريون-، ولكنهم يعملونها بدون مشيئته وقدرته، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: إنهم لا يفعلون شيئا ألبتة، وإنما الله -سبحانه- هو فاعل تلك الأفعال حقيقة، فهي نفس فعله لا أفعالهم. والعبيد ليس لهم قدرة ولا فعل البتة.
وقصَّر بقوم حتى قالوا: إن رب العالمين ليس داخلاً في خلقه ولا بائناً عنهم ولا هو فوقهم ولا تحتهم ولا خلفهم ولا أمامهم ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: هو في كل مكان بذاته، كالهواء الذي هو داخل في كل مكان.
وقصَّر بقوم حتى قالوا: لم يتكلم الرب -سبحانه- بكلمة واحدة ألبتة، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: لم يزل أزلاً وأبدا قائلا: (يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)[ص: 75]، ويقول لموسى: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ)[طـه: 24] فلا يزال هذا الخطاب قائما به ومسموعاً منه، كقيام صفة الحياة به.
وقصَّر بقوم حتى قالوا: إن الله -سبحانه- لا يشفِّع أحدا في أحد البتة، ولا يرحم أحدا بشفاعة أحد، وتجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده بغير إذنه، كما يشفع ذو الجاه عند الملوك ونحوهم.
وقصَّر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل، فضلا عن أبى بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة.
وقصَّر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الرب -تعالى- وصفاته وعطلوه منها، وتجاوز بآخرين حتى شبَّهوه بخلقه ومثلوه بهم.
وقصَّر بقوم حتى عادَوا أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقاتلوهم واستحلوا من حرمتهم، وتجاوز بقوم حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة من العصمة وغيرها. وربما ادعوا فيهم الإلهية.
وكذلك قصَّر باليهود في المسيح حتى كذبوه ورموه وأمه بما برأهما الله -تعالى- منه، وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله، وجعلوه إلهاً يُعبد مع الله.
وقصَّر بقوم حتى نفوا الأسباب والقوى والطبائع والغرائز، وتجاوز بآخرين حتى جعلوها أمراً لازماً لا يمكن تغييره ولا تبديله، وربما جعلها بعضهم مستقلة بالتأثير.
وقصَّر بقوم حتى تعبدوا بالنجاسات، وهم النصارى وأشباههم، وتجاوز بقوم حتى أفضى بهم الوسواس إلى الآصار والأغلال، وهم أشباه اليهود.
وقصَّر بقوم حتى تزينوا للناس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات ما يحمدونهم عليه، وتجاوز بقوم حتى أظهروا لهم من القبائح ومن الأعمال السيئة ما يسقطون به جاههم عندهم.
وهذا باب واسع جداً لو تتبعناه لبلغ مبلغا كثيراً، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة".
عباد الله: حق على كل مسلم أن يدرس هذا الباب دراسة متأنية، ويجتهد مع نفسه في السلامة من هذين المسلكين الخطيرين: الغلو والجفاء، الإفراط والتفريط، ولا سبيل إلى النجاة من ذلك إلا بالاعتصام بكتاب الله، والتمسك بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والبعد عن الأهواء المطغية، والبدع المردية.
حمانا الله وإياكم ووقانا ووقاكم منها.
اللهم ارزقنا التمسك بكتابك، والاهتداء بسنة نبيك -صلى الله عليه وسلم-، واجعلنا هداة مهتدين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنب فاستغفروهُ يغفِر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.