الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | د عبدالحميد بن سعد السعودي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
لئن صارَع الإنسانُ في عنفوان شبابه الشهواتِ والصبواتِ، وكان له مع الشيطان جولات ومغامرات، فإن له في بقية المرحلة فسحة، فعهد الصبوات والشهوات المحرمة يجب ألَّا يدوم طويلًا، بل يجب أن يراجع المرء نفسه، ويتوب إلى ربه...
من اختيارات الشيخ رحمه الله
الخطبة الأولى:
أما بعد، فيا أيها الإخوة في الله، بعد أيام قليلة يُطِلّ علينا عامٌ هجريٌّ جديدٌ، جعَلَه الله عامَ خيرٍ وبركةٍ، وأمنٍ وأمانٍ، وجمَع فيه كلمة المسلمين على الحق، وأعزَّ الإسلامَ وأهلَه، وأذلَّ الشركَ وأهلَه، وأبرَم لهذه الأمة من أمرها رَشَدًا، يُعِزُّ فيه أهلَ الطاعة، ويُذِلُّ فيه أهلَ المعصية، ويؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، إنه سميعٌ مجيبٌ.
إن هذه الأعوام تتجدَّد عامًا بعد عام، فإذا دخَل العام الجديد نظَر الإنسان إلى آخِره نظرَ البعيد، ثم تمر به الأيام سراعًا، فينصرم العام كلمح البصر، فإذا هو في آخِر العام، وهكذا عمر الإنسان، يتطلَّع الإنسان إلى آخِره تطلُّعَ البعيد، فإذا به قد هجمَ عليه الموتُ (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)[ق: 19].
يؤمِّل الإنسان بطول العمر، ويتسلَّى بالأمانيِّ، فإذا الأمل قد انصرم، وبناء الأماني قد انهدم.
لقد تحدَّث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أعمار هذه الأمة فقال: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلُّهم من يَجُوز ذلك"، ستون أو سبعون سنةً يتقلَّب فيها المرء بين ضَعْف الطفولة وقوة الشباب وضَعْف الكهولة، حيث تُسلِمه إلى الشيخوخة المضنِية، فالهَرَم فالفَناء (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)[الروم: 54].
فطوبى لعبد شغَل أعوامَه بالطاعات، واجتنَب المعاصيَ والسيئاتِ، طوبى لعبد اتَّعظ بما في هذه الأعوام، من تقلُّبات الأمور والأحوال، وطوبى لعبد استدلَّ بهذه التقلبات على ما لله فيها من أسرار وحِكَم بالغات؛ (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النور: 44].
أيها الإخوة في الله: لقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن عُمْر المؤمن كلما طال؛ ازداد بذلك خيرًا عند الله، ومَنْ كان كذلك فالحياة خير له من الموت، وقد صحَّ من دعائه -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم اجعل الحياةَ زيادةً لي في كل خير، والموتَ راحةً لي من كل شر".
وجاء في الحديث: روى الترمذي عن أبي بكرة -رضي الله عنه- أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ خيرُ الناسِ؟ قال: "مَنْ طال عمرُه وحَسُنَ عملُه" قال: ومَنْ شرُّ الناسِ؟ قال: "مَنْ طال عمرُه وساء عمَلُه"، وقال: (هذا حديث صحيح).
إنه ما من ميت يموت إلا وندم، إن كان محسنًا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون استعتب؛ ولهذا كان السلف الصالح -رضي الله عنهم- يتأسفون عند موتهم على انقطاع أعمالهم الصالحة.
بكى معاذ -رضي الله عنه- عند موته، وقال: "إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومُزاحَمة العلماء بالرُّكَب عند حِلَقِ الذِّكْرِ".
وقال أحد الصالحين عند موته: "إنما أبكي على أن يصوم الصائمون ولستُ فيهم، ويصلي المصلُّون ولستُ فيهم، ويذكر الذاكرون ولستُ فيهم"، بل إنهم كانوا يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل ما كانوا بالأمس، فكانوا لا يرضون كلَّ يوم إلا بالزيادة في عمل الخير.
أيها الإخوة في الله: إن هذه الأيام والليالي مراحل نقطعها إلى الدار الآخرة، حتى نصل إلى آخِر مرحلة في هذا السفر، وكل يوم يمر بنا فإنه يبعدنا من الدنيا، ويقربنا من الآخرة، وغدًا نحن نستقبل عامًا جديدًا لا ندري أنستكمِله أم لا. وقد ودَّعْنا عامًا قبلَه، فليحاسب كلٌّ منا نفسَه؛ ماذا عمل في العام المنصرم؟ فإن كان قد فرَّط في شيء من الواجبات فليتُبْ إلى الله، وليتدارَكْ ما فات، وإن كان ظالِمًا لنفسه بفعل المعاصي والمحرَّمات، فليُقلع عنها قبل حلول الأجل والفوات، وإن كان ممَّنْ مَنَّ اللهُ عليه بالاستقامة وعمل الصالحات والتسابق إلى الخيرات فليحمَدِ اللهَ على ذلك، وليسأله الثباتَ عليها إلى الممات.
وعَظ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- رجلًا فقال له: "اغتنِمْ خمسًا قبل خمس؛ شبابَكَ قبل هَرَمِكَ، وصحتَكَ قبل سَقَمِكَ، وغِنَاكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغِكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ".
في الشباب قوة وعزيمة، فإذا هرم الإنسان وشاب ضعفت القوة، وفترت العزيمة، وفي الصحة نشاط وانبساط، فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه، وضاقت نفسه، وثقلت عليه الأعمال، وفي الغنى راحة وفراغ، فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش الكريم له ولعياله، وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال، فإذا مات العبد انقطع عنه الاستزادةُ من تلك الأعمال، إلا صدقة جارية، أو ولدًا صالحًا يدعو له، أو علمًا يُنتَفَع به.
ثبَت في صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخَذ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنكَ غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ"، وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءَ، وخذ من صحتكَ لمرضكَ، ومن حياتكَ لموتكَ"، وفي رواية: "وَعُدَّ نفسَكَ من أهل القبور".
وجاء عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "ارتحلت الدنيا مدبرةً، وارتحلت الآخرةُ مُقبلِةً، ولكلٍّ منهما بنونَ، فكونوا من أبناء الآخِرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حسابٌ، وغدًا حسابٌ ولا عملٌ".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، مَنِ اعتَصَم بحبله وفَّقَه وهداه، ومن اعتمد عليه حَفِظَه ووقاه، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى أصحابه والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الإخوة في الله: لئن صارَع الإنسانُ في عنفوان شبابه الشهواتِ والصبواتِ، وكان له مع الشيطان جولات ومغامرات، فإن له في بقية المرحلة فسحة، فعهد الصبوات والشهوات المحرمة يجب ألَّا يدوم طويلًا، بل يجب أن يراجع المرء نفسه، ويتوب إلى ربه، ويرجع إلى صوابه عن غيِّه، سيما إذا أشرَف على الكهولة فما بعدَها، فإن المعصية منه حينئذ تكون أشد قبحًا وفظاعةً؛ لضَعْف الدافع إليها.
ومَنْ بلَغ ستينَ سنةً فقد أعذَر اللهُ إليه، كما صح بذلك الحديثُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعذَر اللهُ إليه حيث مدَّ له في الأجل، وأقام عليه بذلك الحجةَ، وترَك له الفرصة للتوبة والإنابة، فلم يبقَ له أن يعتذر بضيق الأجل لتدارُكِ ما فاته بحُسْن العمل، استمِعوا إلى قول الله -تعالى-: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)[فاطر: 37]، أَوَمَا عشتُم في هذه الدنيا أعمارًا، لو كنتُم ممَّن ينتفع بالحق لَانتفعتم به مدةَ عمركم؟! فأخرسهم بإقامة الحجة، وألزمهم العذاب، فكل مجترئ على معصية الله لم ينتفع بالفسحة له في الأجل، ولم يغتنم الفرصة بإحسان العمل، فإنه مؤاخَذٌ على التفريط، مستحِقٌّ بفعله الوعيد، أمَّا مَنْ كان في سن الشباب فإنَّ مما يغري بملء العمر بالطُّهْر والعفاف والطاعة ما أخبَر به رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عن مصير الشابِّ الذي نشَأ في عبادة ربه، إذ يظله الله بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
وإن مما يردَع ويَزجُرُ عن التمادي في المعاصي وسلوك دروب الرذيلة، والجري وراء الشهوات، والتهاون بالأوامر والواجبات؛ أن الموت يأتي فجأةً، فليس كل أحد يُمَدّ له في العمر حتى يبلغ الستين أو السبعين، كم شابٍّ أدركَتْه المنيةُ وهو في ريعان الشباب، كم شابٍّ هجَم عليه هادمُ اللذات قبل أن يُكمِل دراستَه، كم شاب سمعتَ بموته قبل أن يتقلَّد وظيفةً، كم شاب علمتَ برحيله قبل أن تتحقَّق آمالُه، كم شاب عُزِّيَ أبوه فيه، فليس الموت -يا أخي- خاصًّا بمن بلغ الستين أو السبعين، بل الموت يأتي على الصغير والكبير، يأتي على الصبيان والشباب والكهول والرجال والنساء، فإذا جاء الأجل الموعود، فلا تقديم ولا تأخير، كما قال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34].
فاتقوا الله -عباد الله-، واستدرِكُوا ما فات بالتوبة، واستقبِلُوا ما بَقِيَ بالعمل الصالح، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7-8].
هذا واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله...