المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | عدنان مصطفى خطاطبة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة |
فئة المُتخاذلين، وفئة المُخذّلين، وفئة الخائنين، موجودة فينا منذ زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذه الفئة، هي الأخطر، هي الأشد ضررًا على المجتمع والأمّة والدولة؛ لأنَّ نبينا -صلى الله عليه وسلم- وصَفهم بأنهم منّا وفينا،....
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
أما بعد: أيها المسلمون: إن الأحداث التي تمرّ بها الأمة والمجتمعات والدول في كل زمان ومرحلة تاريخية، فيها حِكَم عديدة، وعِبر كثيرة، فهي تكشف عن واقع الناس ومعادنهم، وتُظهر حقيقة مواقفهم ومخبوءاتهم ودفائنهم، وتحدّد القريب من البعيد، والصديق من العدو، والإيجابي من السلبي، وتميز الحبيب من البغيض، والوفي من الخائن، والخبيث من الطيب.
وغالبًا ما تُظهر الأحداث الجسام التي تقع للأُمَّة وللمجتمعات وللدول، أن هناك فئة صادقة مخلصة أمينة، وهناك فئة منافقة مخذّلة خائنة، وهناك فئة محايدة ساكتة متفرّجة.
أيها المسلمون: فئة المُتخاذلين، وفئة المُخذّلين، وفئة الخائنين، موجودة فينا منذ زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذه الفئة، هي الأخطر، هي الأشد ضررًا على المجتمع والأمّة والدولة؛ لأنَّ نبينا -صلى الله عليه وسلم- وصَفهم بأنهم منّا وفينا، بأنهم من بني جلدتنا، بأنهم يتحدثون بألسنتنا، أجسامهم أجسام إنس، ولكن بواطنهم وصدورهم وقلوبهم منتكسة دجّالة، هي قلوب الشياطين.
يخبرك عنهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، بأنهم عرب، مسلمون، يتظاهرون بأنهم ينتمون لمجتمعهم ودولتهم ووطنهم وأمتهم، ولكنهم في الحقيقة غير ذلك. ففي صحيح مسلم، عن حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ، يَقُولُ:
كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ، مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ" قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: "قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ"، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: "نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: "هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا".
وقال –تعالى-: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ)[المنافقون:4]، قال السعدي: "(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) من روائها ونضارتها، (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) أي: من حُسْن منطقهم تستلذ لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدى الصالح شيء، ولهذا قال: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض".
أيها المسلمون: لذلك، جزء كبير من المسؤولية نتحمله نحن، وليس بالضرورة الأعداء الخارجيين، حينما يوجد في صفّنا الداخلي من يخذل مجتمعه ويخون أمته ووطنه وبلده، فإن هذا يجعلنا نحن مَن يتحمل المسؤولية الأكبر، بسبب وجود هؤلاء.
أيها المسلمون: من هنا، ركزّ القرآن الكريم، وركزت السنة النبوية على كشف حقيقة هؤلاء المخذلين الخائنين، وتبيين صفاتهم وأفعالهم ومواقفهم، حتى تحذر الأمة والمجتمعات والدول المسلمة من هؤلاء الذين يُشكّلون وبالاً على أوطانهم وأمتهم.
نعم، المتخاذلون، والمخذّلون، والخائنون، لدينهم ولأمتهم ولأوطانهم ولأهل بلدهم، يتخذون الكفار بطانة وأولياء من دون المؤمنين، فالكفار والأعداء أقرب إليهم من المؤمنين، وأحبّ إليهم من بلادهم وأوطانهم.
كما وصفهم القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)[آل عمران:118]، قال السعدي: "ينهى -تعالى- عباده المؤمنين أن يتخذوا بطانة من المنافقين من أهل الكتاب وغيرهم يُظْهِرونهم على سرائرهم أو يولونهم بعض الأعمال الإسلامية؛ وذلك أنهم هم الأعداء الذين امتلأت قلوبهم من العداوة والبغضاء فظهرت على أفواههم (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)، مما يسمع منهم فلهذا (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي: لا يقصرون في حصول الضرر عليكم والمشقة وعمل الأسباب التي فيها ضرركم ومساعدة الأعداء عليكم قال الله للمؤمنين (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ) أي: التي فيها مصالحكم الدينية والدنيوية (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فتعرفونها وتفرقون بين الصديق والعدو، فليس كل أحد يجعل بطانة، وإنما العاقل من إذا ابتُلِيَ بمخالطة العدو أن تكون مخالطة في ظاهره ولا يطلعه من باطنه على شيء ولو تملق له وأقسم أنه من أوليائه".
فالله -جل وعلا- في هذه الآيات، ينهى أن نتخذ الأعداء مقربين لنا، ثقة لنا، وأن نُطلعهم على أسرار المسلمين ومجتمعاتهم وأوطانهم وأمتهم؛ لأن هذا سيشكل خطرًا وضررًا كبيرًا. ولكننا نجد فينا، أولئك المخذّلين الخائنين الذي يفعلون هذا، فيلحقون الضرر ببلادهم وأمتهم. قال –تعالى- فيهم: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)[المائدة:80]. فكانوا على ضدّ مراد الله الذي أراد المؤمنين (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)[الفتح:29]، فنجد هؤلاء في الملمّات والمحن والاقتتال والصراع، يكشفون للأعداء عورات الأمة، ونقاط الضعف في أوطانهم، ومكامن القوة فيها، فيستقوي عليهم عدوهم بسببهم.
أيها المسلمون: ومن صفات وأعمال المتخاذين والمخذّلين والخائنين لأمتهم وبلادهم ومجتمعاتهم، التي كشفها القرآن الكريم وبيّنها لنا، أنهم يشيعون في الناس الجبن والتخويف، والهلع، والمبالغات والشائعات التي تفتّ من عضد الناس وتضعف إرادتهم. فتراهم يخوّفون الناس بقوة العدو، ويصغرون شأن قوة المؤمنين، وقوة بلادهم، ويَسْخَرون من اتكّالهم على الله، واستعانتهم به -سبحانه-. قال الله -تعالى- في ذلك: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء:83].
قال السعدي: "هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق. وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمّة والمصالح العامَّة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطًا للمؤمنين وسرورًا لهم وتحرزًا من أعدائهم فعلوا ذلك.
وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة، ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة. وفي هذا دليلٌ لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا فيحجم عنه؟".
أيها المسلمون: ومن صفات وأعمال المتخاذين والمُخذّلين والخائنين لأمتهم وبلادهم ومجتمعاتهم، التي كشفها القرآن الكريم وبيّنها لنا، أنهم يتندّرون من الفئة المؤمنة، القائمة بأمر الله، المجاهدة في سبيل الله، المُقاوِمَة لأعداء الأمة والوطن والمجتمع المسلم، يلومونهم؛ لماذا قاتلتم؟، لماذا جاهدتم؟، ولماذا تدافعون عن بلادكم وأمْنكم وإيمانكم وأوطانكم؟، وأنكم لو صرتم مثلنا كسبتم السلامة والمال.
يقول الله في أمثال هؤلاء: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[آل عمران:168]، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[آل عمران:156].
أيها المسلمون: ومن صفات وأعمال المتخاذين والمخذّلين والخائنين لأُمتهم وبلادهم ومجتمعاتهم، التي كشفها القرآن الكريم وبيّنها لنا، أنهم يتركون الأمة لوحدها في الأزمات، ويتذرعون بحجج واهية، قال الله في أمثال هؤلاء: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا)[الأحزاب:13]، وقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا)[آل عمران:155].
أيها المسلمون: ومن صفات وأعمال المتخاذين والمخذّلين والخائنين لأمتهم وبلادهم ومجتمعاتهم، التي كشفها القرآن الكريم وبيّنها لنا، أنهم يحسنون الفذلكة الإعلامية، يُظْهِرون لعامة الناس كلامًا غير الذي في صدورهم وأنفسهم، فإذا جاءوا الأعداءَ، وإذا ما التقوا بالأعداء، قالوا لهم غير ذلك: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)[آل عمران:167]، (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ)[آل عمران:154]، (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)[محمد:30].
أيها المسلمون: ومن عجيب صفات وأعمال المتخاذين والمخذّلين والخائنين لأمتهم وبلادهم ومجتمعاتهم، التي كشفها القرآن الكريم وبيّنها لنا، أنهم مثبّطون، أنهم معوّقون، أنهم يهمدون النشاط والفاعلية عند المسلم المخلص لأمته وبلده ومجتمعه.
قال الله في أمثال هؤلاء: (إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ)[النساء:72]. ومن عجيب دلالة الآية، أن هذا الصنف من المخذّلين، يتباطأ في نفسه، ويبطئ غيره. فلا هو للخير والحق نصير، ولا هو تارك غيره ينصر الخير والحق، قال ابن عاشور: "وَبَطَّأَ -بِالتَّضْعِيفِ- قَاصِرٌ، بِمَعْنَى تَثَاقَلَ فِي نَفْسِهِ عَنْ أَمْرٍ، وَهُوَ الْإِبْطَاءُ عَنِ الْخُرُوجِ إِبْطَاءٌ بِدَاعِي النِّفَاقِ أَوِ الْجُبْنِ. وَالْإِخْبَارُ بِذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ، وَالتَّعْرِيضَ بِهِ".
وقال السعدي: "(وَإِنَّ مِنْكُمْ) أي: أيها المؤمنون (لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) أي: يتثاقل عن الجهاد في سبيل الله ضعفا وخورا وجبنا، هذا الصحيح. وقيل معناه: ليبطئن غيرَه أي: يزهده عن القتال، وهؤلاء هم المنافقون".
وقال الله -تعالى- أيضًا في هذه الصفة المترسخة في أمثال هؤلاء: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا)[الأحزاب:18]. قال السعدي: "ثم توَّعد -تعالى- المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) عن الخروج، لمن لم يخرجوا (وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ) الذين خرجوا: (هَلُمَّ إِلَيْنَا) أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم: (يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)، وهم مع تعويقهم وتخذيلهم (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) أي: القتال والجهاد بأنفسهم (إِلا قَلِيلاً)؛ فهم أشد الناس حرصًا على التخلف، لعدم الداعي لذلك، من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق، وعدم الإيمان".
أيها المسلمون: ومن صفات وأعمال المتخاذين والمخذّلين والخائنين لأمتهم وبلادهم ومجتمعاتهم، التي كشفها القرآن الكريم وبيّنها لنا، أنهم لا ينتمون حقيقة، لا إلى إسلامهم, ولا إلى أمّتهم، ولا إلى أوطانهم، ولا إلى مجتمعاتهم.
بل مواقفهم وكلامهم كله تظاهر في تظاهر، ولكن همّهم الوحيد مصالحهم الخاصة المادية، والظهور بأنفسهم، والوصول إلى المناصب والحظوة، ولو على حساب مصالح بلادهم وأمتهم ومجتمعاتهم. فالمهمّ عندهم هو أنفسهم وذواتهم. قال القرآن الكريم في أمثال هؤلاء: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ)[آل عمران:154]، (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا)[الفتح:11]، (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ)[التوبة:42].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
هذا كله، وغيره، تُميّزه الأحداث والصراعات، وتكشفه المحن والابتلاءات الكبيرة، وأمام هؤلاء المخذّلين المثبّطين، والعملاء، والخونة لله ولرسوله والأمة والبلاد، والعباد والأوطان، لأجل مصالحهم الشخصية، لا بد للمؤمنين: دولة وجماعة وأمة ومجتمعًا ومؤسسات، من أن يتابعوا هؤلاء، ويكشفوا حقيقتهم وزيفهم وأعمالهم.
ولا بد من أن يستعينوا بالله عليهم، ويصبروا على كيدهم، وطول الطريق معهم، ولا بد أن يحاسبوهم، ويمنعوا كيدهم وخيانتهم، لتبقى البلاد والعباد والأوطان في أمن وأمان وإيمان. (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)[الأنفال:37]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ)[النساء:71]، (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ)[المنافقون:4].
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خاصة.