القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | د عبدالله بن مشبب القحطاني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
وَوِلَايَةُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِحَسْبِ مَحَبَّتِهِ لَهُ؛ يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "الْوِلَايَةُ أَصْلُهَا: الْحُبُّ، فَلَا مُوَالَاةَ إِلَّا بِحُبٍّ، كَمَا أَنَّ الْعَدَاوَةَ أَصْلُهَا: الْبُغْضُ. وَاللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ، فَهُمْ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
يَا عَبْدَ اللَّهِ: أَنْتَ بِحَاجَةٍ إِلَى سَنَدٍ، بِحَاجَةٍ إِلَى مُرَبٍّ، بِحَاجَةٍ إِلَى مَرْجِعٍ، بِحَاجَةٍ إِلَى مَنْ تَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، بِحَاجَةٍ إِلَى مَوْلًى، بِحَاجَةٍ إِلَى مَنْ يُطَمْئِنُكَ بِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ جُبِلَتْ عَلَى كَدَرٍ، أَنْتَ بِحَاجَةٍ إِلَى قَوِيٍّ يَحْمِيكَ مِنْ شُرُورِ أَعْدَائِكَ، أَنْتَ بِحَاجَةٍ إِلَى مَوْلَاكَ.
أَتَيْتُكَ رَاجِيًا يَا ذَا الْجَلَالِ | فَفَرِّجْ مَا تَرَى مِنْ سُوءِ حَالِي |
إِلَى مَنْ يَشْتَكِي الْمَمْلُوكُ إِلَّا | إِلَى مَوْلَاهُ يَا مَوْلَى الْمَوَالِي |
مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى: الْوَلِيُّ وَالْمَوْلَى، قَالَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ: (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)[الشُّورَى: 28]، وَقَالَ: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[الْبَقَرَةِ: 257]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 150]، وَقَالَ: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 11].
فَرَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الْوَلِيُّ الْمَوْلَى لِكُلِّ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ؛ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَتَصْرِيفِ الْأُمُورِ وَالْمَقَادِيرِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ، فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ؛ فَلَيْسَ لَنَا وَلِيٌّ سِوَاهُ يَجْلِبُ لَنَا الْمَنَافِعَ، وَيَدْفَعُ عَنَّا الضُّرَّ وَالشُّرُورَ وَالْمَسَاوِئَ، نَوَاصِينَا كُلُّهَا بِيَدِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ، وَهِيَ وِلَايَةُ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ الشَّامِلَةُ لِلْخَلْقِ كَافَّةً، لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، يَقُولُ رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ-: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ)[السَّجْدَةِ: 4]، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ)[الشُّورَى: 44]، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)[الْأَنْعَامِ: 62].
وَأَمَّا الْوِلَايَةُ الْخَاصَّةُ فَهِيَ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ؛ يُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَيُصْلِحُ لَهُمْ أُمُورَهُمُ الدُّنْيَوِيَّةَ وَالدِّينِيَّةَ؛ فَهِيَ وِلَايَةٌ تَقْتَضِي: الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالْإِصْلَاحَ وَالْحِفْظَ وَالْمَحَبَّةَ، أَمَا قَرَأْتَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[الْبَقَرَةِ: 257]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)[الْأَنْفَالِ: 40]، وَقَالَ: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 11].
وَوِلَايَةُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِحَسْبِ مَحَبَّتِهِ لَهُ، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "الْوِلَايَةُ أَصْلُهَا: الْحُبُّ، فَلَا مُوَالَاةَ إِلَّا بِحُبٍّ، كَمَا أَنَّ الْعَدَاوَةَ أَصْلُهَا: الْبُغْضُ. وَاللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ، فَهُمْ يُوَالُونَهُ بِمَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَهُوَ يُوَالِيهِمْ بِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ، فَاللَّهُ يُوَالِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِحَسْبِ مَحَبَّتِهِ لَهُ".
وَوِلَايَةُ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشُّورَى: 11].
وَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يُوَالِي عَبْدَهُ إِحْسَانًا إِلَيْهِ وَجَبْرًا لَهُ وَرَحْمَةً؛ (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)[الْبَقَرَةِ: 257]، بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُ يُوَالِي الْمَخْلُوقَ لِتَعَزُّزِهِ بِهِ وَتَكَثُّرِهِ بِمُوَالَاتِهِ، لِذُلِّ الْعَبْدِ وَحَاجَتِهِ.
وَأَمَّا الْعَزِيزُ الْغَنِيُّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَلَا يُوَالِي أَحَدًا مِنْ ذُلٍّ وَحَاجَةٍ، فَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ قَالَ: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)[الْإِسْرَاءِ: 111].
وَصِفَةُ الْوَلِيِّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ: أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَيُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَبْغَضُ مَنْ يَبْغَضُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَيَنْتَهِي عَنْ مَعْصِيَتِهِ؛ (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)[الْمَائِدَةِ: 56]، (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[الْمُجَادَلَةِ: 22].
وَالْوِلَايَةُ لَا تُنَالُ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: بِالتَّقْوَى، وَالْإِيمَانِ، فَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَدْ قَالَ: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[يُونُسَ: 62-64].
وَوِلَايَةُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَسْبِيَّةٌ لَهَا أَسْبَابُهَا وَأَعْمَالُهَا الْقَلْبِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ؛ فَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَدْ قَالَ: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 69]، (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الْأَنْعَامِ: 127].
وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِفِعْلِ الْفَرَائِضِ وَرَغَائِبِ الدِّينِ؛ ازْدَادَ مَحَبَّةً وَقُرْبًا مِنَ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، صَحَّ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ"(أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ).
وَلَوْ مَشَى الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- خُطْوَةً أَقْبَلَ عَلَيْهِ خُطُوَاتٍ، فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ: "وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي، أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ"(أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لَهُ)، فَإِذَا قَبِلَكَ اللَّهُ أَحَبَّكَ، فَإِذَا أَحَبَّكَ فَلَا تَعْبَأْ بِشَيْءٍ آخَرَ، إِذَا أَحَبَّكَ اللَّهُ أَلْقَى مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)[طه: 39]، (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)[الْأَنْفَالِ: 19]؛ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مَعَكَ فَمَنْ عَلَيْكَ؟ وَإِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَمَنْ مَعَكَ؟
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
يَا عَبْدَ اللَّهِ: هَذَا التَّوَلِّي الْخَاصُّ يَقْتَضِي: لُطْفَهُ بِعِبَادِهِ وَتَوْفِيقَهُمْ؛ (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[الْبَقَرَةِ: 257].
وَيَقْتَضِي غُفْرَانَ الذُّنُوبِ وَالرَّحْمَةَ؛ (أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 155].
وَيَقْتَضِي النَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ عَلَى الْأَعْدَاءِ؛ (أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[الْبَقَرَةِ: 286].
وَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَدْ قَالَ: (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 150]؛ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ غَزْوَةِ أُحُدٍ: "لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ" فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا تُجِيبُوا لَهُ؟" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَقُولُ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ"(أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ).
وَالْوِلَايَةُ تَقْتَضِي: دُخُولَ الْجِنَانِ وَالنَّجَاةَ مِنَ النِّيرَانِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الْأَنْعَامِ: 127]، وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)[فُصِّلَتْ: 32-33].
وَمِنْ نِعَمِ اللَّهِ الْكُبْرَى: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَلِيَّكَ، قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)[الْأَنْفَالِ: 40].
فَإِذَا كَانَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلِيَّكَ فَقَدْ حُزْتَ الْأَمْنَ فِي الدَّارَيْنِ؛ (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الْأَنْعَامِ: 82].
وَإِذَا كَانَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلِيَّكَ فَقَدْ أُعْطِيتَ الْحِكْمَةَ؛ (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[الْبَقَرَةِ: 269].
إِذَا كَانَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلِيَّكَ فَقَدْ عِشْتَ رَاضِيًا، فَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ مَا مَنَعَكَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ شَرٌّ، وَإِنْ أَصَابَتْكَ آفَةٌ عَلِمْتَ أَنَّهَا مِنْ مَوْلَاكَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَعَلِمْتَ أَنَّ خَلْفَهَا فَرَجًا وَسُرُورًا؛ (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشَّرْحِ: 5]، وَصَحَّ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ؛ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ؛ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ)؛ فَأَنْتَ مُطْمَئِنٌّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ -جَلَّ وَعَلَا- مَعَكَ، لِسَانُكَ يَقُولُ دَائِمًا؛ (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[التَّوْبَةِ: 51].
يُشَدِّدُ عَلَيْكَ، وَيُضَيِّقُ عَلَيْكَ لِيَصْطَفِيَكَ؛ (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)[الْقَصَصِ: 5].
فَإِذَا تَوَلَّاكَ مَوْلَاكَ فَأَنْتَ فِي عِنَايَةٍ مُشَدَّدَةٍ، وَفِي نِعْمَةٍ كُبْرَى، تُخْطِئُ فَيُعَاقِبُكَ، تُسْرِفُ فَيُقَتِّرُ عَلَيْكَ، تَسْتَعْلِي فَيُؤَدِّبُكَ؛ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ اللَّهَ -جَلَّ وَعَلَا- مَوْلَاكَ؛ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
وَأَنْتَ تَعْلَمُ عِلْمَ يَقِينٍ أَنَّ هَذَا عِقَابُ مُحِبٍّ وَلَيْسَ عَذَابًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحْبَابَهُ؛ (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ)[الْمَائِدَةِ: 18]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشُّعَرَاءِ: 61]، وَفِرْعَوْنُ مِنْ وَرَائِهِمْ وَالْبَحْرُ أَمَامَهُمْ، فَقَالَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشُّعَرَاءِ: 62].
إِلَهِي أَنْتَ لِلْإِحْسَانِ أَهْلٌ | وَمِنْكَ الْجُودُ وَالْفَضْلُ الْجَزِيلُ |
إِلَهِي بَاتَ قَلْبِي فِي هُمُومٍ | وَحَالِي لَا يُسَرُّ بِهِ خَلِيلُ |
إِلَهِي تُبْ وَجُدْ وَارْحَمْ عُبَيْدًا | مِنَ الْأَوْزَارِ مَدْمَعُهُ يَسِيلُ |
إِلَهَيْ جُدْ بِعَفْوِكَ لِي فَإِنِّي | عَلَى الْأَبْوَابِ مُنْكَسِرٌ ذَلِيلُ |
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الْمَوْلَى أَنْ تَمُنَّ عَلَيْنَا بِدُخُولِ الْجَنَّةِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَأَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لَنَا خَيْرًا.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَأَخْرِجْنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا، وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّتِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَاجْعَلْنَا مُبَارَكِينَ أَيْنَمَا كُنَّا.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.