العربية
المؤلف | محمد بن سليمان المهوس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
اعْلَمُوا أَنَّ الدُّخَانَ خَبِيثٌ وَمُحَرَّمٌ، وَهُوَ قَتْلٌ لِلنَّفْسِ، وَإِزْهَاقٌ لَهَا، فيحرم شُرْبُهُ وبَيْعُهُ وَالاِتِّجَارُ بِهِ، وَهُوَ أَيْضًا إِسْرَافٌ وَتَبْذِيرٌ. وَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا كَسَبَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ ثُمَّ أَحْرَقَهُ لَعُدَّ مَجْنُونًا، مَعَ أَنَّ إِحْرَاقَ الْمَالِ خَارِجَ الْجِسْمِ فِيهِ مُصِيبَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ فَقْدُ الْمَالِ، وَأَمَّا إِحْرَاقُهُ -أَيِ: الْمَالِ- بِالدُّخَانِ دَاخِلَ الْجِسْمِ فَفِيهِ مُصِيبَتَانِ: إِتْلَافُ الْمَالِ، وَضَرَرُ الْجِسْمِ. وَهُوَ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَبَاحَ لَنَا جَمِيعَ الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ وَالْمُضِرَّاتِ؛ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ تَفَضُّلاً مِنْهُ وَوِلاَيَةً، وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ وَالْمُضِرَّاتِ عِنَايَةً مِنْهُ وَوِقَايَةً، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَقُولُ اللهُ -تَعَالَى-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء: 70].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "تَكْرِيمُ اللهِ لِلإِنْسَانِ يَتَجَلَّى فِي خَلْقِهِ لَهُ عَلَى أَحْسَنِ الْهَيْئَاتِ وَأَكْمَلِهَا، وَفِي أَنْ جَعَلَ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَفُؤَادًا، يَفْقَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الأَشْيَاءِ، وَيَعْرِفُ مَنَافِعَهَا وَخَوَاصَّهَا، وَمَضَارَّهَا فِي الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ".
وَمِنْ تَكْرِيمِ اللهِ لِلإِنْسَانِ: أَنْ أَرْشَدَهُ إِلَى الطَّيِّبَاتِ وَالتَّنَعُّمِ بِهَا، وَإِلَى الْخَبَائِثِ وَالْبُعْدِ عَنْهَا وَتَجَنُّبِ ضَرَرِهَا؛ إِلاَّ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُبَدِّلُ هَذَا التَّكْرِيمَ، وَيَعْكِسُ هَذِهِ الْفِطْرَةَ الطَّيِّبَةَ، فَيَتَنَاوَلُ الْخَبِيثَ مِمَّنْ حَرَّمَهُ اللهُ وَمَنَعَهُ؛ كَالَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ كثَيِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، إِلاَّ مَنْ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ شُرْبِ الدُّخَانِ الْخَبِيثِ، وَالَّذِي فَشَا شُرْبُهُ وَانْتَشَرَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ.
وَلاَ شَكَّ أَنَّ هَذَا الْخَبِيثَ آفَةٌ عَلَى الإِنْسَانِ فِي مَالِهِ وَصِحَّتِهِ، وِالْمَالُ وَالصِّحَّةُ فَضْلٌ مِنَ اللهِ، وَهُمَا مِلْكٌ لَهُ لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِهِمَا أَنْ يَهْدِرَهُمَا فِي مُحَرَّمٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ؛ وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْإِسْلامُ الْإِسْرَافَ حِفَاظًا عَلَى الْمَالِ، وَحَرَّمَ عَلَى الْإِنْسَانِ قَتْلَ نَفْسِهِ أَوْ إِهْلاكَهَا، أَوْ تَعَاطِيَ مَا يَضُرُّ بِهَا حِفَاظًا عَلَى النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالْعَجَبُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ؛ حَيْثُ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ مَا يَضُرُّهَا وَمَا يُهْلِكُهَا، ضَارِبًا بِالْأَمْرِ بِالْحِفَاظِ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ عُرْضَ الْحَائِطِ، غَيْرَ مُلْتَفِتٍ بِعَقْلِهِ إِلَى مَا يَنْفَعُهُ أَوْ يَضُرُّهُ؛ فَتَرَاهُ يُهْلِكُ أَعْضَاءَ جَسَدِهِ وَيُتْلِفُهَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ بِسِيجَارَةٍ يَشْرَبُهَا، مَعَ مَا يَبْذُلُهُ مِنَ الْمَالِ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ، فَهُوَ يَقْضِي عَلَى صِحَّتِهِ بِمَالِهِ، مُسْتَعِدٌّ لِأَنْ يَشْتَرِيَهُ مَهْمَا غلاَ ثَمَنُهُ؛ وَلَوْ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ أَنْفَقَ مَالَهُ هَذَا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى أُسْرَتِهِ أَوْ فِي أَوْجُهِ الْخَيْرِ الْمُخْتَلِفَةِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ"، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ"(صححه الألباني -رحمه الله-).
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِيِ سُنَنِهِ مِنْ حَديثِ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ"(صححه الألباني -رحمه الله-).
فَمِنْ شُكْرِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْمَالِ وَالصِّحَّةِ: أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا فِي طَاعَةِ مَوْلاَهُ وَخَالِقِهِ؛ فَتَصَوَّرْ أَيُّهَا الْمُدَخِّنُ لَوْ كُنْتَ فَقِيرًا مُعْدَمًا، أَوْ مَرِيضًا مَرَضًا مُزْمِنًا لَكَانَتْ غَايَةُ أَمَانِيكَ صِحَّةً وَمَالاً، وَهَا أَنْتَ بِخَيْرٍ وَعَافِيَةٍ وَرِزْقٍ؛ فَاشْكُرِ اللهَ الْمُنْعِمَ الْمُتَفَضِّلَ الَّذِي أَعْطَاكَ وَقَادَرٌ عَلَى أَنْ يَسْلُبَكَ مَا أَعْطَاكَ، وَالَّذِي وَهَبَكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَحْرِمَكَ.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الإِنَابَةَ إِلَيْكَ وَالرُّجُوعَ إِلَى طَاعَتِكَ وَالتَّوْبَةَ مِنْ مَعَاصِيكَ.
اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَقِنَا شُرُورَ أَنْفُسِنَا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الطَّيِّبَاتِ وَفِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، وَاعْلَمُوا أَنَّ الدُّخَانَ خَبِيثٌ وَمُحَرَّمٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)[الأعراف: 157].
وَهُوَ قَتْلٌ لِلنَّفْسِ وَإِزْهَاقٌ لَهَا، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)[النساء: 29-30] فَهُوَ حَرَامٌ شُرْبُهُ وَحَرَامٌ بَيْعُهُ وَالاِتِّجَارُ بِهِ مَعَ مَا يُسَمَّى بِالشِّيشَةِ، وَالَّتِي انْتَشَرَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهُوَ أَيْضًا إِسْرَافٌ وَتَبْذِيرٌ، وَاللهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (وَلاَ تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]، وَقَالَ: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)[الإسراء: 27].
وَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا كَسَبَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ ثُمَّ أَحْرَقَهُ لَعُدَّ مَجْنُونًا، مَعَ أَنَّ إِحْرَاقَ الْمَالِ خَارِجَ الْجِسْمِ فِيهِ مُصِيبَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ فَقْدُ الْمَالِ، وَأَمَّا إِحْرَاقُهُ -أَيِ: الْمَالِ- بِالدُّخَانِ دَاخِلَ الْجِسْمِ فَفِيهِ مُصِيبَتَانِ: إِتْلَافُ الْمَالِ، وَضَرَرُ الْجِسْمِ، وَهُوَ أَذِيَّةٌ لِخَلْقِ اللهِ فِي الْبُيُوتِ وَالْمَسَاجِدِ وَالأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ، وَاللهُ يَقُولُ: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الأحزاب: 58].
هَذَا؛ وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).