الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | راشد بن عبد الرحمن البداح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
والمصيبةُ أن خصوماتٍ تستمرُ سنينَ، ويعودُ عليهما عيدٌ بإثرِ عيدٍ، وحبلُ الوصلِ مُنْصَرِمٌ. ولا تجِدُ مِن أهلِ الحكمةِ مَنْ يَسعَى للصُلح. فيَتركونَ المتشاحِنِينَ لشياطينِ الإنسِ والجنِ، يوقِدونَ نارَ الفتنةِ بينَهما، ويزيدونَها اشتعالاً....
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه؛ أعلَمُ الخلقِ بربهِ -عزَّ وجلَّ-، وأخشاهُم وأتقاهُم له، فصلى اللهُ وسلمَ عليهِ تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: حَدَثٌ مخيفٌ حصلَ أمسِ الخميسَ؛ فهل علِمتمْ أنه بغروبِ شمسِ الأمسِ قد توقفَ قبولُ أعمالِ طائفةٍ من عبادهِ، وأن اللهَ في عليائهِ قد حكمَ أن يُؤجِّلَ النظرَ في أعمالِهم عقوبةً لهم؟! كيفَ ذلكَ؟!
استمِعُوا للخبرِ الصِدقِ من الصادقِ المصدوقِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ حيثُ يقولُ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ". وفي رواية: "تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ؛ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ. إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"، وفي رواية: "اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا"(صحيح مسلم 2565 و2566).
أتدري أن ثلاثةَ إكراماتٍ يُحْرَمُها المَتَهَاجِرُ مع أخيهِ المسْلِمِ: لا تُفتحُ له أبوابُ الجنةِ. وتؤخَّرُ مغفرةُ اللهِ له. ولا تُعرَضُ أعمالُهُ الصالحةُ على ربهِ تعالى؛ لأن ربَه ساخطٌ عليهِ.
يَوْمَا الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ يومانِ مَهِيْبَانِ، فاستعِدَّ لهما قبلَ أن يُقبِلا عليكَ، وراجِعْ علاقتَكَ مع إخوانكَ. كانَ بعضُ التابعينَ يَبْكي إلى امرأتهِ يومَ الخميسِ، وتبكيْ إليهِ، ويقولُ: اليومَ تُعْرَضُ أعمالُنا على اللهِ -عز وجلَّ-. (لطائف المعارف ص: 101، تفسير ابن رجب الحنبلي: 1/ 224).
وللمُتهاجرَينِ فرصةُ ثلاثةِ أيامٍ لِيُراجِعا نَفسَيهِما، ولِتهدأَ ثورةُ غضبِهِما. وبعدَ الأيامِ الثلاثةِ يكونانِ قد دَخلا منطقةَ الخطرِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ"(صحيح البخاري: 6077).
وقالَ: "فإن مرَّتْ به ثلاث فلْيَلقَهُ، فليُسَلِّمْ عليه، فإن ردَّ عليه السَّلام فقد اشتركا في الأجرِ"، -وخَرَجَ المُسلِّمُ من الهِجْرَة- "وإن لم يَرُدَّ عليه فقد باءَ بالإثم"(سنن أبي داود 4912، وصحح الحافظ ابن حجر إسناده في الفتح: 10/ 495). نعمْ؛ قدْ لا تعودُ المودةُ كما هيَ، لكنْ يكفيْ أن "السلامَ يرفعُ إثمَ الهجرِ"(الزواجر 2/ 609).
فإنْ مضتْ شهورٌ على صِرامِهِما، حتى تمَّتْ سَنَةٌ، فقد بلغَ الخطرُ مَبْلَغَه، وصارَ المتهاجِرُ مع أخيهِ كأنه قاتلٌ تَقطرُ يدُه دمًا: قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَن هَجَرَ أخاه سنةً، فهو كَسَفْكِ دَمِهِ"(سنن أبي داود 4915).
أيُها المتحابونَ بجلالِ اللهِ: هلْ تدرونَ ما أكبرُ أسبابِ التهاجُرِ؟ هما سببانِ رئيسانِ: مَقصُودٌ لَمْ يُفْهَمْ، ومَفْهُومٌ لَمْ يُقْصَدْ، أَو خِلافَاتٌ مَاتَتْ أَحيَاهَا شَيطَانُ إِنسٍ أوْ جِنٍّ.
فتفكرْ أيُها المبارَكُ، والأيامُ تُطوَى، وأعمالُ العبادِ مرفوعةٌ تَتْرَى، والربُ الكريمُ يجودُ بالغفرانِ والرِضى، وذلكُما ما زالا يقالُ لهما: "أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا".
فالأجدرُ بمَنْ كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ، أنْ يَضَعَ يَدَهُ في يَدِهِ، وَيَغْسِلَ ما قَدْ عَلِقَ في قَلْبِهِ؛ حَذَرًا مِنْ سَدِّ أَبْوَابِ الْقَبُولِ، وخَوْفًا مِنِ ارْتِهانِ الأَعْمالِ في سُلَّمِ الْوُصولِ.
أيُها المؤمنونَ: والمصيبةُ أن خصوماتٍ تستمرُ سنينَ، ويعودُ عليهما عيدٌ بإثرِ عيدٍ، وحبلُ الوصلِ مُنْصَرِمٌ. ولا تجِدُ مِن أهلِ الحكمةِ مَنْ يَسعَى للصُلح. فيَتركونَ المتشاحِنِينَ لشياطينِ الإنسِ والجنِ، يوقِدونَ نارَ الفتنةِ بينَهما، ويزيدونَها اشتعالاً.
وفي المقابلِ: فبارَكَ اللهُ فيمنْ أعانَ على إصلاحِ ما فسَدَ بينَ أُولي قُرباهُ وذويهِ، وسدَّدَ مسعاهُم. من امرأةٍ حكيمةٍ مع بناتِ جنسِها، أو شابٌ بارٌّ مع أبيهِ؛ حيثُ يَتدارَكونَ المُشاحِنَ قبلَ أن يروُهُ مُمَدّدًا على مِغسلةِ الموتى.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي كفَى ووقَى، والصلاةُ والسلامُ على إمامِ الهُدَى.
أما بعدُ: فإنَ البحثَ عن أسبابِ تطهيرِ قلوبِنا من الشحناءِ أمرٌ ينبغي أن نسعَى حثيثًا فيهِ.
وأولُ وأَولَى الأسبابِ الدعاءُ: فادْعُ لمن خاصمْتَهُ؛ لتَقْهرَ نفسَك المتعالِيةَ. لنَدْعُ كما دعَا الصالحونَ من عبادِ اللهِ، فقالوا: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر:10].
ثانيًا: تَهَادَوا؛ فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ الضَّغَائِنَ، وتُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ.
ثالثًا: الرقابةُ على الظنونِ والوِشاياتِ، ودفنُها في مَهْدِها قبلَ أن تكبُرَ فتُهلِكَ.
رابعًا: المجاهدةُ بعدَ ذلكَ، واللهُ –سبحانَه- يقولُ: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت:34].
وهَذِهِ الدارُ لا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ، فلنتدارَكْ أعمارَنا، ولنجاهدْ أنفُسَنا الأمارةَ بالسوءِ، ولنَعتذرْ لمن خاصمْناه قبلَ أنْ يموتَ أو نموتَ. وسنجِدُ لهذهِ المُسامحةِ لذةً لا تَعدِلُها لذةٌ: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:35].
فاللهمَ لَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
اللهمَ لكَ الحمدُ على الهدايةِ للإيمانِ، والأمنِ في الأوطانِ، والعافيةِ في الأبدانِ.
اللهمَ لكَ الحمدُ على اجتماعِ الكلمةِ على التوحيدِ والسنةِ، وعلى السمعِ والطاعةِ لمن ولاهُ اللهُ أمرَنا.
اللهم آمِن أوطانَنا، وأيِّدْ بالحقِ إمامَنا، ووليَ عهدِه، وأعزَّ بهمْ دينَك، وارزقهُم بطانةً صالحةً ناصحةً، دالّةً مُذكِّرةً.
اللهم احفظْ مجاهدِينا ومرابطِينا، وجنودَنا على حدودِنا، واكفِنا وإياهم وبلادَنا شرَّ الحاسدِينَ، وكيدَ الخائنين.
اللهمَ أعنَّا على أنْ نشكُرَكَ على لُطفِكَ في بلائِكَ، وأن علمتَنا سبيلَ دفعهِ، ورفعهِ. اللَّهُمُّ وَاِرْفَعْ عَنَا الْوَبَاءَ والداءَ.
اللهم باركْ في إجازتِنا، واجعلها عَونًا على طاعتِكَ. وأصلِح وِلدانَنا، وارحم والدِينا.
اللَّهُمَّ صَلِّ وسلمْ عَلَى مُحَمَّدٍ.