المقدم
كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أركان الإيمان |
فقد جمعني قبل أيام مجلسٌ بشاب حصل معه نقاش في بعض الأحكام الشرعية، وحاصل هذا النقاش يتعلق بشيء مشترك بين كثير من الشباب الذين ولدوا في عصر التواصل العالمي عن طريق الفضائيات، والإنترنت، وهذا المشترك: هو كثرةُ طرح الأسئلة والتفنن في تنويعها: لماذا؟ وكيف؟ وما السبب؟ وما الحكمة؟ بينما كان...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
فقد جمعني قبل أيام مجلسٌ بشاب حصل معه نقاش في بعض الأحكام الشرعية، وحاصل هذا النقاش يتعلق بشيء مشترك بين كثير من الشباب الذين ولدوا في عصر التواصل العالمي عن طريق الفضائيات، والإنترنت، وهذا المشترك: هو كثرةُ طرح الأسئلة والتفنن في تنويعها: لماذا؟ وكيف؟ وما السبب؟ وما الحكمة؟ بينما كان الناس إلى عهد قريبٍ، كان الواحد منهم يكفيه أن تُذْكَرَ له آيةٌ، أو يُورَد له حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل قد يكتفي بأن يقال: قال العالم الفلاني كذا وكذا؛ لثقته بعلمه؛ ولأن الله جعل أهل العلم مرجعاً عند خفاء الأحكام: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) [النحل: 43 - 44].
أما اليوم، فإن الحال تغير، وصار من واجب المربي أن يستمع ويجيب ويدفع الشبهة إن وُجِدت، فإن لم يعلم سأل عن ذلك أهلَ العلم.
وقبل هذا كله، فإن هناك أصولاً يجب غرسها في نفوس الناشئة، يرضعونها مع حليب أمهاتهم؛ لتكون سبباً في استقرار الإيمان، وعدم زعزعته.
هذه الأصول هي التي تَربّى عليها الجيلُ الأول من الصحابة والتابعين، يتلقونها غضةً طريّة من القرآنِ ومن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فكانوا نماذج مشرقة في التسليم والانقياد، أثمرت ألواناً رائعة من العبودية لله -تعالى-، والبذل والتضحية لهذا الدين، واضعين نصب أعينهم قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65].
ومن أعظم ثمرات هذه الأصول: أنها تُغلق -بإذن الله- أبوابَ الحيرة والضلال والشك:
الأصل الأول: "أن العقلَ تابعٌ للشرع، وليس العكس": (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه) [البقرة: 140].
فالذي خلق العقل أمرنا أن نستسلم لأمره ونهيه، وأمْرَ رسوله ونهيه، ولأن العقل محدود كما هو حال بصرنا وسمعنا وقوتنا.
الأصل الثاني: أنه ما من شيء في الشرع إلا له حِكمة، ولكننا -معشر البشر- قد ندرك هذه الحكمة وقد لا ندركها، فالواجب الذي علينا هو أن نقول كما قال صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الأولون -الذين نزل القرآن وهم أحياء-: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285].
ولا نقول: لم؟ ولا كيف؟
الأصل الثالث: نمتثل الأحكام، ونصدّق بالأخبار: فإذا ورد في القرآن خبرٌ، أو صحّت به السنّة، فهي على التصديق مطلقاً، سواءٌ استوعبها العقل أم لا: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) [الأنعام: 115].
صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام.
أيها المسلمون: إن هذه الأصول -وغيرهَا- لما سارَ عليها سلفُ هذه الأمة ومَن سار على طريقتهم؛ لم يكن ذلك لضعف عقولهم، أو لقصورٍ في أفهامهم، بل هم الأتقى قلوباً، والأسدّ رأياً، والأذكى عقولاً، والأزكى نفوساً، لكنهم أيقنوا أن أسئلة الحرية تتوقف تماماً عند عتبة العبودية، مرددين في ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 36].
ولقد كان لهم في ذلك مواقف وأخبارٌ يتعجب الإنسان منها، أَكتفي بهذا الموقف الذي يختصر معاني كثيرة جداً في هذا الموضوع: ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما حدّث بحديث الدجال، وسأله الصحابة -رضي الله عنهم-: "وَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ يا رسول الله؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ يَوْمًا؛ يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: "لَا اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ" [مسلم ح(2937)].
فانظر إلى عمق علم الصحابة -رضي الله عنهم-، لم يقولوا: كيف يكون اليوم كسنة أو كشهر أو كجمعة؟! لأنهم يعلمون أن من جعل اليوم أربعة وعشرين ساعة قادر على جعله أسبوعاً -مائة وثمانية وستين ساعة- وقادر على جعله شهراً -سبعمائة وعشرين ساعة- وهكذا، بل سألوا عما يخصهم، وهو أمر دينهم، سألوا عن صلاتهم! فرضي الله عنهم وأرضاهم، ما أعمق علمهم، وأقوى تصديقهم!.
ولم يَزل الأمر في عهد الصحابة -رضي الله عنهم- على مبدأ التسليم والانقياد، حتى بدأت نابتة من نوابت البدع تتحدث خارج أسوار العقل الذي أراده الشرع، فكافحَ السلفُ هذه البدايات من المروق، والخروج عن ربقة الشريعة، واتسع الأمرُ إلى يومنا هذا، فبلغ مبلغاً عظيماً، جعل هؤلاء يَجنون على العقل، ولكنها جنايةٌ -وللأسف الشديد- تُطرح -وكالعادة- بغير اسمها، من أجل التلبيس على العامة والدهماء! إنها الجناية على العقل باسم: حرية الفكر، فلم تلبث هذه الحريّة، حتى أوقعتهم في حفرة الكفر.
وما أجمل قول الطحاوي: "ولا تثبت قَدَمُ الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حُظِرَ عنه علمُه، ولم يقنع بالتسليم فهمه؛ حَجَبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيحِ الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوسا تائهاً، زائغاً شاكاً لا مؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذباً" [انظر: المدينة، العدد الصادر في 4/3/1421هـ، في مقالة د. محمد خضر عريف].
ولهذا، لما تسوّر بعضُ الصغار في عقولهم وأسنانهم على أسوار الانقياد والتسليم، وبدأت أسئلة الاعتراضات على الله ورسوله؛ فاحت رائحة الإلحاد والزندقة في بعض الكتابات والمُعَرّفات.
نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد:
فمن المؤسف أن هذه موضوع "الحرية الفكرية" حينما تُطْرح، فهي تُغَلّف باسم العقل، والاستقلال في التفكير!.
وقد سَرَت إلى عدد ليس بالقليل ممن يسمَّون بالمثقفين والمفكرين، فآل أمرهم إلى أمورٍ عظامٍ، اتضحت رؤيتها بشكل أكثر في وسائل التواصل الاجتماعي، التي بثّ فيها هؤلاء كتاباتٍ تنضح بالإلحاد والزندقة -نسأل الله السلامة والعافية-.
أيها الإخوة: إن الحرية -سواء الفكرية أو السلوكية- التي يطنطن بها هؤلاء لا وجود لها بشكل مطلق، فلا يوجد عاقل لو اعتديتَ عليه باسم الحرية سيقبل اعتداءك! أو سرقتَ ماله أو شتمته سيقبل بذلك، فكيف بالاعتداء على المسلّمات والثوابت التي لا تختص بشخص، بل بالأمة الإسلامية كلها؟! لكن لما كان هذا المصطلح رنّاناً، ووافق في النفوس محلاً بسبب ما تعانيه كثير من المجتمعات من كبت الحريات، ومصادرة الحقوق؛ صار البعض يرددها من غير وعي ولا تأمل.
والمتابع لا يتعب في اكتشاف حقيقة مهمة، وهي: أن حرية الفكر التي يرددها هؤلاء المراد منها باختصار محو الأديان من الأرض كلها، وفتح الأبواب على مصراعيها للشهوات والشبهات، حتى لا يبقى دينٌ يردع، ولا حياء يمنع، ولا مروءة يفيء إليها الإنسان.
أيها الإخوة: إن كثيراً من هؤلاء المتبجحين بالحرية الفكرية وحرية التعبير؛ يعتبرون قدوتهم الليبرالية الغربية، وإلى هؤلاء أقول: والله لا توجد حرية مطلقة حتى في هذه الدول، وإليكم البرهان:
* ففي فرنسا صودرت رواية بسبب ما قيل فيها من عبارات مهينة لليهود ولمعاداتها للسامية [انظر: القدس العربي، الصادر في 9/2/1421هـ].
* وفي فرنسا -أيضاً- حورب الحجاب، مع أنه لباس شخصي محض! فأين الحرية؟
* وقبل بضع سنوات صادرت دولةُ الصين "الوثنية" رواية جنسية اعتبرتها المؤسسة الحاكمة تهديداً للأخلاقيات [هذا جزء من حديث مأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو به، ينظر: مسند أحمد ح(17114)، صحيح ابن حبان ح(935)].
فهل يكون الوثنيون والنصارى أكثر غيرة منا نحن المسلمين على القيم والأخلاق والمبادئ؟!
فوصيتي لكم -معشر الشباب-: الله الله بالتسليم والانقياد، واحذروا ممن يريدون زعزعة دينكم باسم الحرية الفكرية، والاستقلال العقلي، والبسوا شعار الانقياد المطلق لله ورسوله، واطرحوا ما لديكم من أسئلة على أهل العلم الراسخين، فإن تبين الإشكال فهذا المطلوب، وإلا فأعلنوها: الله ورسوله أعلم وأحكم، وطاعتهم أهدى وأقوم، وقولوا كما قال أسلافكم الصالحون: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285].
ولا تكونوا كاليهود الذين قيل لهم: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ، وَاسْمَعُوا).
فكان جوابهم -عياذا بالله- : (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا).
فعوقبوا بعقوبة عظيمة، وهي تعلقهم بغير الله، بل بعجل لا يضر ولا ينفع: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة: 93].
اللهم ارزقنا الانقياد لشرعك، والتمسك بدينك، وتوفنا على ملة الإسلام التي رضيتها لنا.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك قلباً سليماً، ولسانا صادقاً، ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم.
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8].