المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
ومع ما نعلمه من التقصير في بعض الأمور، وسعي البعض للإصلاح، إلا أن الوسيلة لذلك لا ينبغي أن يكون ضررها أكثر من نفعها، وبعض الوسائل التي يؤمل فيها البعض إصلاحًا ربما كانت مضرة خالصة أو مفسدة غالبة، ولعل هذا ينطبق على التظاهرات، وتلك موجة شاعت في الفترة الأخيرة في بلدان من بلاد الإسلام كثيرة ..
إن الحمد لله...
أما بعد: سنة الله في الحياة أنها لا تدوم على حال، فيوم رخاء ويوم شدة، زمن تصفو الحياة فيه وزمن تتكدر، وتلك سنة ربانية ليتمحص الصف، وتبين الحقائق، ويظهر المحق من المبطل، والوفي من الدعي، والعدو من الصديق.
ونحن -أيها الكرام- نعيش في بلدٍ نغبط فيه على ديانة أهله، وتلاحم الراعي والرعية في رحابه، نعيش في دولة شعائر الإسلام فيها ظاهرة، والأمن فيها إلى حدٍّ كبيرٍ مستتب، يذعن أهلها لولاة أمرها، وذاك أمرٌ تحسده عليه البلاد، وتلاحم قد لا تراه في أي مكان آخر، وما كان لهذا التلاحم أن يقع بعد توفيق الله إلا لعلم الناس بحق ولاة أمرهم عليهم؛ ولذا فهم يطيعون الولي في غير ما معصية، لا خوفًا بل ديانة لله الذي قال لهم: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59]، وإذعانًا لرسول الله الذي قال: "مَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي". واستجابة لأمر الرسول -عليه السلام- حين قال: "عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ".
حصل هذا التلاحم في البلاد لوعي الناس بما تجره الفتن من غوائل، وما تورثه من مفاسد، فالبلاد إذا أمنت أطاع الناس ربهم بسكينة وطمأنينة، وصلحت لهم دنياهم وسلمت آخرتهم، وحين تحل الفتن والاضطرابات تركس فيها من رغب ومن لم يرغب، لم تحرّك في أهل هذه البلاد دعوات التظاهرات ساكنًا لأنهم يصدرون عن رأي علمائهم، وكبار العلماء في البلاد رأوا تحريم التظاهرات هنا لما يترتب عليها من مفاسد تخشى، حصل التلاحم لأن البلاد قامت على التوحيد، فتحقق لها الأمن لا بقوة رجالها ولا بتقدم إمكانياتها، بل بقدر تحقيقها لتوحيد ربها: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، وبقدر تفريطها في هذا فإنها تفقد الأمن.
نعم -أيها الكرام- إنه تلاحم ما زال جميلاً، وإنها وحدة نرجو أن لا تكدرها المكدرات، وأمن نسأل الله أن يديمه ويزيده.
ومع كل هذا التلاحم المشهود، إلا أن ثمة مكدرات قد تصدع الجدار، وخوارم قد تثلم اللحمة، وأمور قد يدخل من قبلها الخلل، وهي جديرة بأن يرعاها أهل الأمر ويبادروا برفعها لئلا تستغل في تهييج الناس، وإذكاء النفوس.
معشر الكرام: ومع ما نعلمه من التقصير في بعض الأمور، وسعي البعض للإصلاح، إلا أن الوسيلة لذلك لا ينبغي أن يكون ضررها أكثر من نفعها، وبعض الوسائل التي يؤمل فيها البعض إصلاحًا ربما كانت مضرة خالصة أو مفسدة غالبة، ولعل هذا ينطبق على التظاهرات، وتلك موجة شاعت في الفترة الأخيرة في بلدان من بلاد الإسلام كثيرة، ولئن آتت أكلها في بعضٍ، والبعض الآخر في الطريق، إلا أنه لا يلزم من ذلك أن ما صح عند غيرك صح عندك، فالجلّ يدرك الفرق الكبير بين هذه البلاد وبين غيرها، فالبلد هنا تقام فيها شعائر الإسلام، لا يضايق من تعبد لله، ومجالات الخير متاحة، رغم القصور الموجود، البلاد هنا تحكّم الشريعة، ووقوع بعض الأخطاء من قبل الراعي أو من حوله لا تسوغ سلوك طرق كهذه أفتى علمائنا الأجلاء بحرمتها، وأفتوا بذلك نصحًا للأمة وخشية من الاستغلال السيئ من قبل الأعداء لها، البلد هنا تعج بأطياف من التوجهات، ويُخشى أكثر ما يُخشى في مثل هذه التظاهرات من الاستثمار الخارجي لها من قِبل أعداء الدين، الذين ظل هاجس إفساد البلاد وأهلها وإِشاعة الفوضى بينهم طِلبة لهم، وهم يتحينون الفرصة للدخول في البلاد بالقوة عبر أية ذريعة، ويُخشى من التنازع الداخلي الذي قد يحصل من منطلق قبلي أو تمسك بكرسي، وكل هذا أمر وارد، وأشد من ذلك كله الافتتان الطائفي الذي تذكيه الدولة الفارسية، والروافض في البلاد يتحينون الفرصة لكسب أكبر قدر من المكاسب عبر هذه التظاهرات التي أشاعوها في البلاد وعزموا على البدء بها، ولنا فيما حلّ بالبحرين وقبل ذلك لبنان والعراق من إشاعة الرافضة للفوضى، وتقلب الولاء، وتلقف الدعم المعنوي والمالي الخارجي لنا في كل ذلك عبرة، وليست بلادنا بعيدة عن هذا، وها هي بوادر تبدل الولاء من الرافضة لأهل ملتهم في طهران بدأت. فليكن شبابنا على حذر من أن تستجرهم دعاوى تظاهر يكون الشباب وقودها، وهم أقل الناس ربحًا فيها، بل عليهم حارّها، ولغيرهم من أصحاب الأفكار المنحرفة قارّها.
وقد علمتنا الأحداث من حولنا أن مثل هذه المظاهر يترتب عليها ضحايا، وأن استتباب الأمن بعد انتهائها فيه عسر، وقد يجني المجتمع من لظى فقده مُددًا، وما دام الوالي مسلمًا والمرء في عنقه لولي أمره بيعة فليس من حقه أن يفعل أمرًا يفرق الوحدة ويوهن الصف، وحين تكون الفتنة نائمة فإن من أيقظها يبوء بإثمها.
وقد أفتت هيئة كبار العلماء في هذه البلاد وغيرهم من كبار العلماء بتحريم التظاهرات في هذه البلاد، وأن المشاركة فيها لا تجوز؛ لأن الضرر المتوقع أبلغ من الإصلاح المرجو، قال الشيخ ابن باز: "فالمسيرات في الشوارع والهتافات والتظاهرات ليست هي الطريق للإصلاح والدعوة، فالطريق الصحيح بالزيارة والمكاتبة التي هي أحسن، فتنصح الرئيس والأمير وشيخ القبيلة بهذا الطريق لا بالعنف والتظاهرة". اهـ.
ولعل قائلاً أن يقول: إن التظاهرة السليمة ما هي إلا وسيلة من وسائل التعبير، وطريق من طرائق التغيير، آتت أكلها في جهاتٍ، وليس بالضرورة أن يكون من قام بها يريد تغيير حكم أو إسقاط نظام أو يخلع بيعة في عنقه!!
والجواب: أن هذا الكلام من حيث التنظير حسن، لكن الواقع يناقضه، فكل الدول التي من حولك بدأت الأمور فيها سلمية، ولكن الشارع بعد ذلك يساق إلى ما لا يريده المتظاهرون، حين يدخل في الصف من يريد الاضطراب ومن يشيع الفوضى، وحينها فقد ينفرط العقد وينقدح الزناد، ويصعب على الجميع تدارك الوضع ورأب الصدع، وإذا حلّت الفتن خرجت الأمور من أيدي العقلاء، ويشاء الله أن يجعل لنا في الدول حولنا عبرة، فلئن سقطت أنظمة فاسدة، وهوت زعامات ظالمة، فإن الأمور قد لا تقاس بمبادئها، بل بمآلاتها، ونسأل الله أن يجعل عواقب أحوال المسلمين في كل صقع إلى خير، وأن يصلح أحوالهم ويدبرهم على خير دينهم ودنياهم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
معشر الكرام: وبعد ما سبق من الكلام، فإن من لباب القول أن يقال: إن استدامة التلاحم والأمن في البلاد يستدعي منا جميعًا الوضوح والمصارحة، فالمجاملات لا تصنع حبًّا، ولا تسد جوعة جائع، ولا ترفع ظلامة مظلوم.
عباد الله: إن إغلاق بابٍ من أبواب التعبير، وما سبق من التحذير من التظاهرات من جهة المفاسد المتوقعة منها، لا يعفينا من المسؤولية في وسائل الإصلاح الأخرى، فلا خير فينا إن لم نناصح ولاة أمرنا، ولا خير فيهم إن لم يقبلوها، إن من حق الولي على رعيته أن ينصحوا له، والدين النصيحة لله ورسوله ولأئمة المسلمين، ومن النصح لهم، ومن حقهم علينا أن نتعاون في رأب كل ما من شأنه صدع الجدار، وثلم اللحمة، عبر كل وسيلة متاحة، بالزيارة، والكتابة، وعبر كل وسيلة متاحة.
إن تطاول أهل الشرّ -عبر وسائل عديدة- على الدين، والسخرية منهم بأهل العلم وبالناصحين بلا نكير ولا حسيب، والسعي الحثيث من قبل هؤلاء لتغريب المجتمع، يؤثر في النفوس، ويصدع جدار التلاحم.
ووجود الفساد المالي لدى بعض المسؤولين، وبقاء أعداد من السجناء من نوعٍ آخر دون محاكمة ولا يشملهم عفوٌ وهم لم يتهموا بتفجير ولا إرهاب، كل هذا مما يصدع الجدار، ومما يؤمل الناس في ولاة أمرهم النظر بجدٍّ فيه، سيما وقد أسعد ولي الأمر الكثير بقرارات متعددة كان منها العفو عن عدد من سجناء الحق العام.
إن البلاد سيتحقق فيها الأمن، وترتدُّ كل دعوة من دعوات التخريب في نحرها إذا حافظنا جميعًا -أمراء ومأمورين- على ثوابت الدين، وسعينا في تحقيق مصالح الدين والدنيا، وفي رفع المظالم قبل أن يأتي من يستغل الجماهير، ويسوقها لأمورٍ لا ترضي.
اللهم أدم على بلادنا أمنها وإيمانها.
اللهم صل وسلم...