الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | مقبل بن حمد المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
وفي التعدُّد ضمانٌ اجتماعي لعددٍ من النساء؛ خاصَّة الأرامل والمطلقات اللواتي يفقدنْ مَن ينفق عليهنَّ، فيجدن بالزواج من آخَر -ولو متزوجًا- سدًّا للحاجة، وبُعدًا عن تكفُّف الناس، وقطعًا لتسويلات الشيطان بسلوك الطرق المنحطَّة لكسب المال. وفي التعدُّد مصلحة للمجتمع بتقوية لُحْمته وتماسُك بنيانه، وتكثير سواد الأمَّة، وفي الحديث: "فإني مُكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة" ..
الحمدُ لله ربِّ العالمين، هدانا للإسلام وما كنا لنهتديَ لولا أنْ هدانا الله، أحمده تعالى وأشكُره على جزيل عطاياه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، ولا وليَّ ولا نصير لنا سواه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله، وخليله ومجتباه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومِن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتَّقوا الله عبادَ الله، اتَّقوا الله تفوزوا بمطلوبِكم، وتنجوا مِن مرهوبكم، (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [البقرة: 189].
إخوة الإسلام: إنَّ شرائع دِيننا لعظيمة سامية، كيف لا وهي تشريع الحكيم العليم؟! ومن تلك الشرائع شريعةٌ تدلُّ على كمال هذا الدِّين وصلاحه، اختصَّت بها هذه الأمَّة، وفيها من المقاصد السامية والأهداف النبيلة ما يُناسب الفِطرة السويَّة، إنها مَنْقبةٌ مِن مناقب هذا الدين، وإنْ عدَّها الأعداء مثلبةً وظلمًا، إنها فضيلة وإحصان وإنْ رأتها الأفلامُ والمسلسلات والروايات والعلمانيون سعارًا وشهوانية ورجعية، تلكم هي شريعة تعدد الزوجات.
عباد الله: إنَّ تعدُّد الزوجات سنةٌ للقادر على ذلك؛ يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا) [النساء: 3]، ولقد عدَّد رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- والصحابةُ -رضي الله عنهم- مِن بعده، واستمرَّ عملُ النَّاسِ على هذا في كلِّ عصرٍ ومصر.
والتعدُّد هو الأصل عندَ أمْن الحيف والظلم، وهو الذي اختارَه الله لنبيِّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهو لا يختار له إلا الأفضل؛ روى البخاريُّ وغيره أنَّ سعيد بن جبير قال: قال لي ابنُ عباس: هل تزوجتَ؟! قلت: لا، قال: فتزوَّج؛ فإنَّ خير هذه الأمة أكثرُها نساءً.
عباد الله: إنَّ الحديث عن هذا الموضوع ذو حساسية عالية لدَى البعض، فمِن مؤيِّد ومِن معارض، وما ذلك إلا لعدم النظر الدقيق لحِكَم هذا الموضوع وأبعاده، بعيدًا عن إشباع الغرائز فقط، مع أنَّ هذا حق مشروع ما دام في الحلال، ولو أردْنا أن نستقصيَ الحِكمة من شرعية تعدُّد الزوجات لطال بنا المقام، وحسبنا أن نوجِز بعضها:
فمِن ذلك: الرحمة بالمرأة المسكينة التي قدْ يفوتها قطارُ الزواج لسبب أو لآخَر، أو تكونُ مطلَّقة أو أرملة، والحفاظُ على شرَفها في ظلِّ المغريات التي لا تَخْفى على أحد، كما أنَّ الدراساتِ أظهرتْ أن نسبة النساء في أي مجتمع تفوق نسبة الرجال؛ لما يتعرَّض له الرجال مِن حوادث وحروب ونحوها، وبناءً عليه فإنَّ اقتصار الرجل على امرأة واحدةٍ سببٌ في إهمال العدد الكثير مِن النساء، فيصبحن نهبًا للضياع وعُرضةً للفتن.
ومن الحكم: سدُّ حاجة الرجل مِن الذرية عندَ مرض أو عُقم الزوجة الأولى، أو توقفها عن الإنجاب، والرجل محتاجٌ إلى الذرية بحُكم فطرته، فزواجه بامرأة أخرى والحالة هذه خيرٌ من طلاقه للأولى وتشرُّدها.
ومن الحكم: مراعاة حالة الرجل الجنسيَّة؛ إذ من الرجال من لا تسدُّ المرأةُ الواحدة حاجتَه، مع ملاحظة ما يطرأ عليها مِن حيض وحمْل ونفاس مانِع من التمتُّع بها، فكان في التعدُّد مصرفٌ لشهوته بالحلال.
عباد الله: وفي التعدُّد ضمانٌ اجتماعي لعددٍ من النساء؛ خاصَّة الأرامل والمطلقات اللواتي يفقدنْ مَن ينفق عليهنَّ، فيجدن بالزواج من آخَر -ولو متزوجًا- سدًّا للحاجة، وبُعدًا عن تكفُّف الناس، وقطعًا لتسويلات الشيطان بسلوك الطرق المنحطَّة لكسب المال.
وفي التعدُّد مصلحة للمجتمع بتقوية لُحْمته وتماسُك بنيانه، وتكثير سواد الأمَّة، وفي الحديث: "فإني مُكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة".
وفيه كذلك: أمْن -بعد رحمة الله- مِن كثيرٍ من الجرائم الأخلاقية، التي لجأ إليها الغربُ وبعض الدول العربية التي سلكتْ نهجهم، فاستعاض الرجل هناك عن التعدُّد بالعشيقات والبِغاء والفساد.
ثم إنَّنا لا نعلم أسرار وخبايا البيوت، فقد تكون الزوجةُ فقيرةَ العواطف باردةً، لا تُشبِع حاجاتِ زوجها الذي يغضُّ بصرَه عن غيرها؛ فيجد في الزواج بأخرى زيادةَ غض وإحصان؛ ولذا لا يلزم أن يكون التعدُّد لسببٍ ظاهر مدرَك للناس، فقد يكون لسبب خفي، وقد يكون لحاجةٍ في النفس يحفزها اتباع هدْي سيِّد المرسلين -صلوات ربي وسلامه عليه-.
عباد الله: ولنعلم حقَّ العِلم أنَّ شرعية التعدد لا تكون لكل أحد، فمِن الرجال من هو غير مؤهَّل لذلك: إما لضعْف إدارته لشؤون بيته، أو قلَّة ذات يده، أو جَوره وظلمه، أو غير ذلك؛ ولذا فلا بدَّ عند التعدد من إدراك شروطه؛ حتى لا يجلب الإنسانُ لنفسه ولا لغيره المشكلاتِ، ويشوه هذه الشريعة السامية.
فمن شروط ذلك: أولاً: العدد، فلا يجوز بأيِّ حال الزيادةُ على أربع نِسوة كما هو ثابت بنص الكتاب والسُّنة.
ثانيًا: القُدرة المالية والجِنسية، وهذا شاملٌ للوطء، وللطعام والشراب، والكسوة والمسكن، أو ما يلزم مِن أثاث يناسب المرأة، وهذا متروكٌ للعُرْف والعادة، ولقد دلَّت آية التعدُّد على اشتراط ذلك.
الشرط الثالث: العدْل بين الزوجات، وقد صرَّحت به الآية، والعدل المطلوب هو ما كان مستطاعًا عليه، مقدورًا على تحقيقه، وهو العدلُ بينهنَّ في المأكل والمشرب، والملبس والمسكن، والمبيت والمعاملة، أمَّا ما لا يستطاع كالميل القلبي وما يتْبعه من الوطء، فلا يلزم العدلُ فيه؛ لقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "اللهمَّ هذا قَسْمي فيما أملِك، فلا تَلُمْني فيما تملِك ولا أملك". رواه أبو داود والترمذي، وفيه مقال.
ومَن فرَّط في هذا الشرط فإنَّه على خطَر عظيم، وعقوبته شديدة يومَ القيامة؛ روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "مَن كانتْ له امرأتان فمالَ إلى إحداهما، جاءَ يوم القيامة وشقُّه مائِل". رواه أحمد والترمذي.
الشرط الرابع: أن لا يجمع بيْن مَن يحرُم الجمعُ بينهنَّ، فلا يجمع بين الأختين، ولا بين المرأة وعمَّتها أو خالتها، لا من النَّسَب ولا من الرَّضاعة.
عباد الله: إنَّ التعدد شريعةٌ محسومةٌ لا نملك أمامها إلا التسليم، وإن خالفتْ هوى بعض الأنفس؛ فالله -تبارك وتعالى- يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36].
وعلى المرأةِ أن ترضَى بشرع ربها، وأن تُغالب الغَيْرةَ الفطرية في قلْبها، وأن تُحِبَّ لأخواتها ما تحبُّه لنفسها؛ لتُرضِيَ بذلك ربها، وتسهِم في القضاء على الفساد في أمَّتها.
إخوة الإسلام: علينا -نحن الرجالَ- أن نعلم أنَّ مشروع التعدد وإنْ أدركنا عظيمَ ثمرته لمَن استطاعه، إلا أنه يحتاج إلى تريُّث واستخارة ومشاورة، فالأمر أكبر من أن يُقدِم الإنسان عليه لمجرد التجرِبة أو لمجرد تحدٍّ، أو إصرار الجلساء والأصدقاء عليه وحثهم له، وكم إنسانٍ أقدم على هذا المشروع، ثم طلَّق الثانية المسكينة وقد يكون معها ولدٌ منه؛ لأنَّه لم يدرك أبعاد هذا المشروع قبل القدوم عليه.
ولنعلم في المقابل أنَّه لا يجوز لنا التثبيطُ عن التعدُّد، وربطه بالمشاكل وإتعاب الجسد والبال -كما هو شأن الجبناء والعاجزين-، بل هو شريعةٌ مطلوبة لمَن توفَّرت فيها شروطه.
ولنعلم أنَّ المشكلاتِ التي تناط بالتعدُّد تنطلق إما مِن غَيْرة المرأة المفرِطة، وإما مِن حماقة بعض الأزواج في سياسته لزوجاته وأولاده، ولو انضبط هذان الأمران لانعدمتْ تلك المشكلات أو خفَّت كثيرًا، وأصبحتِ السعادة ترفرف على كثير من البيوت.
وعلاج ذلك لا يكون بمنع التعدُّد أو تقييده، بل يكون في إصلاح النفوس وتهذيبها وتقويم سلوكها، والتزام العدْل في كلِّ المجالات، سواء كان بيْن الزوج وزوجاته، أو حتى بين الأب وأولاده مِن زوجاته.
أسأل اللهَ أن يوفِّقنا لما يُرضيه، وأن يُعيننا على أمور ديننا ودنيانا، وأن يرزقنا القناعةَ والعمل بأحكام شرْعه، إنَّه سميعٌ مجيب.
أقول ما تسمعون.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين.
إخوة الإسلام: إنَّ للتعامُل مع الزوجات إذا تعدَّدن أدبًا قلَّ مِن الناس مَن يحسنه، ولكي يستطيعَ الزوج إقامةَ العدْل بين زوجاته، فعليه -بعدَ مراقبته الله- أن يُساوي بين زوجاته فيما يستطيعه، وأن لا يُفصِح عمَّا يحدث بينه وبين إحدى زوجاته للأخريات، وأن لا يسمح لإحدى زوجاته أن تَنال من غيرها مهما كانتِ الأسباب، وأن لا يتحدَّث عن إحدى زوجاته عندَ الأخريات لا بمدْح ولا بذم، وأن لا يُعاقِب زوجته على خطأ ارتكبتْه أمام ضرَّتها، لا بتوبيخ ولا بضرْب ونحوه.
وعليه أن لا يساوم الزوجةَ الأولى على ليلتها، ويطلب منها أن تتنازل عنها للأخيرة بأيِّ حُجَّة كانتْ، كما هو حاصلٌ من البعض، وقد تستجيب الأولى مكرهةً؛ درءًا للمشاكل، ودفعًا لغضب الزوج أو تكدُّر مزاجه عندَ عدم موافقتها.
عباد الله: إنَّني عندما أتحدَّث عن التعدد، فإنَّني لا أدْعو إليه بقدْر ما أدعو إلى تحقيق العدْل فيه، والتزام شروطه عندَ الإقدام عليه مِن الاستعداد البدني والنفسي والمادي، فالذي يحلُّ له التعدد هو ذلك الذي يخاف الله فيمَن تحت يده مع حُسن إدارة، وجودة تدبير، وبراعة قيادة لدفَّة هذه المملكة الصغيرة، ومتى ما حضرتِ التقوى لله حضَر الوئام والاستقرار والرِّضا، أما مَن ظلم ولم يعدل ودخَل باب التعدُّد مِن غير دراسة ولا فِقه له، فهجر أو أساء المعاملة، أو قتَّر في النفقة، فليحذرْ عذاب الله وعقابه.
ألا فلا يدخلنَّ أحدٌ منكم هذا الباب، ولا يقدم على هذا المشروع إلا بعدَ رويَّة، وغلبة ظنٍّ بتحقيق العدل، ودراية بأدب التعامُل مع الزوجات، وإدراك لفنِّ الجمْع بين الزوجات، فالأمر يتجاوز إشباعَ النزوة وإرضاء الشهوة، مع مشروعيته إلى ما هو أبعد مِن ذلك بكثير.
ويَنبغي للزوج أن لا يَحمِل زوجته الأولى أو الثانية على ما لا ترْغب من الزيارة بينهما أو المهاتَفة، أو نحو ذلك، فإنَّ الله فطَر المرأة على الغَيرة التي قد لا تأنس بسببها بتلك الزيارة، وليكن الزوج حكيمًا في تقريبِ القلوب وكسْب رِضا الزوجات، وإشعارهنَّ بحكمة الله في التعدُّد مِن خلال تطبيقه خيرَ تطبيق.
أسأل الله أن يختار لنا ما فيه صالِح دِيننا ودنيانا، إنَّه سميعٌ مجيب.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا.