الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن حسين حريصي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | صلاة العيدين |
في يومِ العيدِ تنطلقُ السجايا على فطرتها، وتبرزُ العواطفُ والميولُ على حقيقتِها، وقد قيل: إذا أردتَ أن تعرفَ أخلاق أمه فراقبها في أعيادِها. فلا يُخرجنكم ُ الفرح إلى الأشرِ والبطر، فيا مَن منّ اللهُ عليكَ بإدراك العيد -أسألُ اللهَ أن تكونَ سعيداً- تذكر يومَ العيد وأنت تقبلُ على والديك، وتأنسُ بزوجكَ وإخوانكَ وأولادِك وأحبابِكَ وأقربائِكَ، فيجتمعُ الشملُ على الطعام اللذيذ، وتتجاذبُ معهم أطرافَ الحديث، وترى البسَماتِ من ها هنا وها هناك ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس، إن يومكم هذا يوم عظيم، يوم عيد الفطر، يومٌ توج الله به شهر رمضان، وافتتح به أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، وهو يوم شكر لله على إكمال العدة، (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185]، وهو يوم فرحٍ بإكمال العدة، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
الله أكبر كلما لمع نجم وسطع، الله أكبر كلما تضوع مسك وفاح، الله أكبر كلما غرد حمام وناح، الله أكبر كلما تاب مذنب ورجع، الله أكبر كلما أناب عبد ورجع، الله أكبر كلما وسّد الأموات التراب، الله أكبر ما وقف الحجيج بصعيد عرفات، وباتوا بمزدلفة في أحسن مبات، ورموا بمنى تلك الجمرات، الله أكبر كلما ارتفع علَم الإسلام، الله أكبر كلما طِيف بالبيت الحرام، الله أكبر كلما دكدكت دولة الأصنام.
لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
(كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:88]، لا إله إلا الله: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْـالِ وَالإكْرَامِ) [الرحمن:26-27]، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، لا إله إلا الله ذو العرش المجيد، لا إله إلا الله رب السموات والأرض وهو على كل شيء شهيد.
معاشـر المـسلمين: يومُ العيدِ يومٌ تلتقي فيه قوة الغني وضعفُ الفقير على محبةٍ ورحمةٍ وعدالة عنوانها الزكاة والإحسان، يتجلى العيدُ على الغنيّ المترف فينسى تعلقَهُ بالمال، ويجعلُ التواضعَ له شعاراً ودثاراً، فيمحو إساءةَ عامٍ بإحسان يوم، ويتجلى العيدُ على الفقيِر المترب فيطرحُ همومهُ وينسى مكاره العامِ ومتاعبَهُ.
الله أكبر الله أكبر، لا اله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
معاشرَ المســلمين: ودعَ شهرُ رمضان الناس، وودع الناسُ شهرَ رمضان، والناسُ بالنسبةِ لرمضان من حيثُ القبول أصنافٌ أربـــعــة:
الأولُ: مَن هو مخلصٌ غيرُ مصيب، أي مخلصٌ في نيتهِ غيرُ مصيبٍ في عملهِ وعبادتهِ، لم يدع قولَ الزورِ والعملَ بهِ والجهل.
والثاني :مَن هو مصيبٌ غيرُ مخلص.
والثالث: مَن هو غيرُ مخلصٍ ولا مصيب.
والرابع :من هو مخلصٌ ومصيب، وهذا هو صاحب السعادةِ في الدارين، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداءِ والصالحين وحسنَ أولئك رفيقاً.
الله أكبر الله أكبر، لا إله الا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
معـاشرَ المسـلمين: في يومِ العيدِ تنطلقُ السجايا على فطرتها، وتبرزُ العواطفُ والميولُ على حقيقتِها، وقد قيل: إذا أردتَ أن تعرفَ أخلاق أمه فراقبها في أعيادِها. فلا يُخرجنكم ُ الفرح إلى الأشرِ والبطر، فيا مَن منّ اللهُ عليكَ بإدراك العيد -أسألُ اللهَ أن تكونَ سعيداً- تذكر يومَ العيد وأنت تقبلُ على والديك، وتأنسُ بزوجكَ وإخوانكَ وأولادِك وأحبابِكَ وأقربائِكَ، فيجتمعُ الشملُ على الطعام اللذيذ، وتتجاذبُ معهم أطرافَ الحديث، وترى البسَماتِ من ها هنا وها هناك، تذكروا -رحمكم الله- وأنتم تعيشونَ فرحةَ العيدِ مع أسركم وذويكم كم من يتيمٍ ينشُدُ حنانَ الأمومةِ الحادِبَةِ، ويتلمّسُ عطفَ الأبوّةِ الحانِيَةِ، ويرنو إلى مَن يمْسَحُ رأسَه، ويخفّفُ بؤسَهُ عندما يرى أطفالَ المسلمين وما ينعمونَ فيه من سائر النعم في أعيادهم!.
وكم من أرملةٍ توالت عليها المحن فقدت عشيرها وتذكرت بالعيد عِزاً قد مضى تحتَ كنفِ زوجٍ عطوفٍ! وكم من أسرة فقدت عائلها فتذكروا بالعيدِ أعياداً كانوا فيها مجتمعين، فاعتاضوا عن الفرحة بالبكاء، وحل محل البهجة الأنينُ والعناءُ! وكم من مريض أقعدهُ المرض عن حضور مُشاهدةِ العيد مع أسرته وإخوانه فهو رهين السرير الأبيض، كلُّ هؤلاء وأمثالهُم قد استبدلوا بالعزّ ذُلاَّ، وبعد الرخاءِ والهناءِ فاقةً وفقراً، ولسنا -والله!- بأحسنَ منهم إلا بمقدار التقوى والسير على المنهج القويم، وشرع الله الحكيم.
تذكر جموعاً كاثرةً من المسلمين في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها شردهمُ الطغيان ومزقهم كلَ مُمَزَّق، فإذا هم بالعيدِ يشرقونَ بالدمعِ، ويكتوونَ بالنار، ويفقدونَ طعمَ الراحةِ والاستقرار.
تذكر يومَ العيد وأنت تأوي الى ظلٍ ظليل، وتنزلُ في منزلٍ فسيح، وفِراشٍ وثير، تذكر إخواناً لكَ يفترشونَ الغبراء، ويلتحفونَ الخضراء، ويتضورونَ في العراء، وتذكر أنكَ حينَ تأسو جراحهم، وتسعى لسدِ حاجتِهم، أنك إنما تسعىَ لسدِ حاجتِكَ، وتأسو جراحكَ.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
معـاشر المسـلمين: ها نحنُ في يومِ العيد، وفي العامِ الماضي عيد، فبِأي حالٍ عُدت يا عيد؟ إن هناك في يومِ العيد من الناس من يأخذهُ الأشرُ والبطر، وما هذا حالُ الشاكرين، وليتذكروا وهم في العيد هذهِ فلسطين موطنَ أولي القبلتين، مسرى رسولِ الله، الأرض المباركةِ تقاسي الهوان، قد اجتمعَ على اهتضامِها عُتُوّ الأقوياء، وكيدَ الضعفاء، يُريدونَ أن يُطفئوا نور اللهِ ويحسِروا ضِياء الإسلام عنها، طرقت حِماها غارة شعواء من الشهواتِ والأهواءِ، يحميها الحديدُ والنار، وعمرتها قُطعانٌ من ذئاب البشر، وشراذم من عُبَّاد المال.
ويا عيد هذه جراحُ باكستان المسلمة غائرة راعِفة، انبجست هذا العام سيولٌ جرارة، فمنازل مهدومة، وأسر مكلومة.
ويا عيد، ماحالُ شمال أفريقيا؟ أصبحَ أهلها في سموم من الاستعمار، وحميم وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم، أفسدَ الاستعمارُ أخلاقهم، ووهَّن عزائمهم، وفرَّقَ بين أجزائهم، وقطع الصلة بينهم وبين ماضيهم، وضربَ بينهم وبين العالم بسورٍ له باب، ومكن فيهمُ الضعفَ والانحلال بما زين لهم من سوء الأعمال، وبما غزاهم به من أفكار ومغريات.
ويا عيد، هذه كشمير تُسام خسفاً وتعذيباً على أيدي الهندوس. ويا عيد، الجريحة كوسوفا لم تنهض من كبوتها، وتلك البوسنة تتجرعُ غصتها.
ويا عيد، ما حال الشعب العراقي المسلم؟ لم يهنأ بالعيد منذ عشر سنين، تحت سيطرة عدو شديد، وسلاحهم بليد، وسلاح عدوهم نارٌ وحديد، كم شابٍ قتلوه، ومسجدٍ حرقوه ومصحف -حسبُنا الله عليهم- مزَّقوه، وكم عِرْضٍ انتهكوه، وبلدٍ خربوه، وعالِم من أهل السنة والجماعة اغتالوه.
يا عيد، ينام أهل العراق على الكوارث المفزعة، ويستيقظون على دوي المدافع ورجف القنابل المفجرة، في ظل هيمنة غربية، ومباركة رافضية، في ظل هيئة أمم لم تجمع متفرقاً من هوى، ولم تزجر عادياً من عدوان، إلى مجلس أمن لم يُؤمِّن خائفاً، ولم ينصر مظلوماً، مجلسُ أمن وليس مجلس أمن! إنما هو كرةٌ بين اللاعبين اليهود، يتحكمون به ضد الإسلام كيفَ شاءوا، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج:40].
اللهُ أكبر اللهُ أكبر، لا اله لا الله، واللهُ أكبر الله ولله الحمد.
معـاشر المسـلمين: أيها المسلمون: أمة شرفها الله بالإسلام، فكيف ترضى غيره بديلاً؟ كيف يحلو لها أن تتخلف عن السير تحت لوائه، وترضى أن تقاد ذليلة تحت ألوية الجاهلية؟ ليس إلا الإسلام جامعاً للقلوب المتنافرة، و ليس غير الدين مؤلفاً بين هذه الشعوب المتناثرة، جامعة إسلامية تتضاءل أمامها الثارات القبلية، و الدعوات العنصرية، و الانتماءات الحزبية؛ بها تتلاشى كل دعاوى الجاهلية.
أيها الإخوة في الله: ألم تنتبه الأمة بعد طول هذه المعاناة، وبعد هذا التمزق المخزي في سراديب مظلمة، وطرق ملتوية، ألم تستيقن بأن التخلي عن دينها هو الانتحار و الدمار؟ و هو قرة عين الاستعمار؟!.
إننا إذا أردنا الإصلاحَ فيجب أن يبدأ الإصلاح من الداخل، يجب إيقاف جميع حركات التمزيق الفكري و الروحي، يجب القضاء على الانهزام النفسي في مجالات التربية و المناهج و الإعلام، لقد جرب المسلمون في هذه الأعصار وفي كثير من الأمصار مناهج و مشارب، وتعددت منهم مسالك ومذاهب، فلم يصح لهم منها شيء، ولم تغنهم لا قليلاً و لا فتيلاً؛ بل كلها طريق إلى التمزق والتبار.
لا طريق إلا صراط الله، و لا نهج إلا نهج المصطفى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بعداً وسحقاً لفكر التكفير ومنهج التفجير! عاراً ومقتاً على المارقين على جماعة المسلمين وإمامهم في هذه البلاد! كانوا مَن كانوا وزعموا ما زعموا! بُعداً لدعاة الاختلاط والانحلال! تباً لدعاة العلمانية واللبرالية! ولمثل هؤلاء وأمثالهم نقول: دونَكم خرط القتاد! فلا مجال في بلاد الحرمين إلا لأهل طاعة الله وطاعة ورسوله -صلى الله عليه وسلم- المطيعين لولاة أمرهم كما أمرهم الله بذلك في قوله: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء:59]، الطاعة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين.
معاشر المسلمين: أذكركم ونفسي بتلك الشعيرة العظيمة، بتلك الفريضة الجليلة، بالصلوات الخمس؛ لا حظَّ في الإسلام لـِمَن تركها، مَن تركها فعليه لعنة الله، من تركها خرج من دين الله، من تركها انقطع عنه حبل الله، من تركها خرج من ذمة الله، من تركها أحل دمه وماله وعرضه.
تارك الصلاة عدو الله، عدو لرسول الله، عدو لأولياء الله؛ تارك الصلاة محارب لمنهج الله، تارك الصلاة مغضوب عليه في السماء، مغضوب عليه في الأرض؛ تارك الصلاة تلعنه الكائنات، والعجماوات، تتضرر النملة في جحرها من تارك الصلاة، وتلعنه الحيتان في الماء؛ لأنه ترك الصلاة.
تارك الصلاة لا يؤاكَل، ولا يُشارب، ولا يجالس، ولا يرافق، ولا يصدّق، ولا يؤتمن؛ تارك الصلاة خرج من الملة، وتبرأ من عهد الله، ونقض ميثاق الله؛ تارك الصلاة يأتي ولا حجة له يوم العرض الأكبر.
اللهَ اللهَ في الصلاة! فإنها آخر وصايا محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل فراق الدنيا، وهو في سكرات الموت.
عباد الله، لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، أوصيكم ونفسي بصلاة الجماعة، والمحافظة عليها في المساجد، فمن صلاها بلا عذر في بيته فلا قبلها الله، فإن من شروط صحتها صلاتها في جماعة؛ ولذلك يقول -عليه الصلاة والسلام-: "والذي نفسي بيده! لقد همَمْتُ أنْ آمُرَ بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار".
الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
الخطبة الثانية:
(لْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوتِ وَلأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَلنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام:1]، (الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَـاوتِ وَلأرْضِ جَاعِلِ الْمَلَـائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ) [فاطر:1].
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفَةً لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدّره تقديراً.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
معاشر المسلمين: احذروا من قطيعة الأرحام؛ فإن الله تبارك وتعالى لعَنَ قاطعي الأرحام، فقال -عَزَّ مِن قائل-: (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ) [الرعد:25]، وقال -جَلَّ ذكره-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ * أَوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَـارَهُمْ) [محمد:22].
فقاطع الرحم ملعون، لعنه الله في كتابه، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لمــَّا خلق الله الخلق، وفرغ منهم، "قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب! قال: فذلك لك".
فعهد الله أن يصل من وصل رحمه، وعهد الله أن يقطع مَن قطع رحمه، وهذا العيد -يا عباد الله- مِن أكبر الفُرَص للعودة إلى الحي القيوم، فمَن لم يعُدْ إلى الله فما استفاد من العيد، ومن لم يتفقد أرحامه بالصلة والزيارة والبر فما عاش العيد.
العيد أن تصل مَن قطعك، العيد أن تعطي من حرمك، العيد أن تعفو عمَّن ظلمك، العيد أن تسلَّ السخيمة من قلبك، العيد أن تخرج البغضاء من روحك، العيد أن تعود إلى جيرانك بالصفاء والحب والبسمة، العيد أن تُدخل الطمأنينة في قلوب المسلمين، العيد ألا يخافك مسلم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن!"، قيل: ومَن يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه".
الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
معاشر المسلمين، لقد كان شهركم شهر رمضان المبارك ميداناً للتنافس شريفاً، اجتهد فيه أقوام، جعلوا رضا الله فوق أهوائهم، وطاعته فوق رغباتهم، أذعنوا لربهم في كل صغير و كبير.
لقد صاموا شهرهم، وحافظوا على صيامهم، فعظم في ربهم رجاؤهم، و قصر آخرون فأضاعوا أوقاتهم، و خسروا أعمالهم، ما حجبهم إلا الإهمال و الكسل، والتسويف وطول الأمل.
والأدهى من ذلك والأمَرّ أن يوفق أناس لعمل الطاعات، والتزود في فُرَص الخيرات، حتى إذا ما انتهى الموسم نقضوا ما أبرموا، وعلى أعقابهم نكصوا.
أين دروس الصلاح والطهر والاستقامة والتقى من هذا الشهر الكريم؟! إن استدامة العبد على النهج المستقيم، والمداومة على الطاعة من غير قصر على وقت بعينه، أو شهر بخصوصه، أو مكان، من أعظم البراهين على القبول: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99]، (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب:23].
معاشر الصائمين والصائمات: ومن مظاهر الإحسان بعد رمضان الإحسان في العيد، فالعيد موسم بهجة بعد أداء الفريضة، إن العيد في الإسلام -أيها الإخوة- غبطة في الدين و الطاعة، و بهجة في الدنيا والحياة، ومظهر للقوة والإخاء.
إنه فرحة بانتصار الإرادة الخيرة على الأهواء و الشهوات، والخلاص من إغواء شياطين الإنس والجن، والرضا بطاعة المولى، كم هو جميل أن تظهر أعياد الأمة بمظهر الواعي لأحوالها و قضاياها، فلا تحول بهجتها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فئام من أبنائها، حيث يجب أن يطغى الشعور بالإخاء قوياً، فلا تنسى البوسنة والهرسك، ولا تنسى فلسطين، ولا الصومال والفلبين، والإخوة في الهند وكشمير، ولا أراضي للمسلمين أخرى منكوبة بمجاهديها وشهدائها، بيتاماها وأراملها، بأطفالها وأَسْراها، لماذا يُتركون يطلبون من أمم الأرض لقمةً وكساءً، وخيمةً وغطاءً، وفي المسلمين أغنياء وموسرون؟!.
أيها الإخوة في الله: إن الابتهاج بالعيد نعمة لا يستحقها إلا الشاكرون، وما الشكر عليها إلا صمود لنوائب الدهر، ويقظة لدسائس العدو، وعمارة للأرض بنشر دين الله.
معاشر المسلمين: اتقوا الله واشكروه على ما أنعم به عليكم من إتمام الصيام والقيام، فإن ذلك من أكبر النعم، فاحذروه، واسألوه أن يتقبل ذلك منكم، ويتجاوز عما حصل من التفريط والإهمال، فإنه تعالى أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، واعلموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن صام رمضان، وأتبعه بست من شوال، كان كصيام الدهر". فصيام الستة فيها ما سمعتم من الفضل... تعادل مع صيام رمضان صيام الدهر، وهذا فضل كبير.
أيها الناس: تذكروا بجمعكم هذا يوم الجمع الأكبر حين تقومون يوم القيامة من قبوركم لرب العالمين، حافية أقدامكم، عارية أجسامكم، شاخصة أبصاركم: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:2].
يوم تفرق الصحف ذات اليمين وذات الشمال: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا) [الانشقاق:7-12].
يوم توضع الموازين: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) [المؤمنون:102-105].
يوم ينصب الصراط على جهنم فتمرون عليه على قدر أعمالكم ومسابقتكم في الخيرات، فمن كان سريعاً في الدنيا في مرضات الله كان سريعاً في مروره على الصراط، ومن كان بطيئاً في الدنيا في مرضاة الله ومتثاقلاً فيها كان بطيئاً على الصراط كذلك جزاءً وفاقاً. فاستبقوا الخيرات -أيها المسلمون- واعدوا لهذا اليوم عدته؛ لعلكم تفلحون.
واعلموا أن السُّنَّة لِمَن خرج إلى مصلى العيد من طريق أن يرجع من طريق أخرى، اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وإظهاراً لشعائر الله، وتعرفاً إلى عباد الله في كل طريق.
وقد جرت عادة الناس أن يتصافحوا ويهنئ بعضهم بعضاً في العيد، وهذه عادة حسنة تجلب المودة وتزيل البغضاء.
أما زيارة القبور في هذا اليوم بالذات فلم أعلم لها أصلاً من الشرع، فزيارة القبور مشروعة في كل وقت، ولم يرد تخصيص يوم العيد لزيارتها.
أيها الناس: قبل انتهاء الخطبة أحب أن أوجه موعظة للنساء كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعظهن في صلاة يوم العيد بعد الرجال، فأقول: أيتها النساء، إن عليكن أن تتقين الله في أنفسكن، وإن تحفظن حدوده، وترعين حقوق الأزواج والأولاد، (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) [النساء:34].
أيتها النساء: لا يغركن ما يفعله بعض النساء من الخروج إلى الأسواق بالتبرج والطيب وكشف الوجه واليدين، أو وضع ستر رقيق لا يستر، أو لثام فاتن، أو نقاب صارخ، فلقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد"، وذكَر "نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها".
وإذا مشيتن في الأسواق فعليكن بالسكينة، ولا تزاحمن الرجال، ولا ترفعن أصواتكن، ولا تُلبسن بناتكن ألبسة مكروهة، ولا تتشبهن بالرجال، فـإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن المتشبهات من النساء بالرجال، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "رأيتكن أكثر أهل النار؛ لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير".
ولا يغركن ما وصلت إليه الموضة في هذا العصر من ألبسة كاشفة، وقنوات هدامة فاضحة، وخمارٍ مزيف، وجولات تجر النساء إلى الهاوية، ورسائل حب وغرام وهيام، فكل ذلك حرام حرام حرام، فاتقي الله أيتها المسلمة، ولا تكوني سبباً لفساد المجتمع، وكوني صالحةً مصلحة، فأنتِ أمّ المجاهدين، وأنت أم العلماء العاملين، وأم الفقهاء الربانيين، فلا تكوني عربية الأصل، غربية الفكر.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد على آل محمد، كما باركتك على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم ارحم المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا ربنا قريب مجيب الدعوات.
اللهم إنك قلتَ: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60]، فهذا ربنا الدعاء، ومنك وحدك الإجابة.
اللهم ارحمنا واسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، اللهم لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين أو أقل من ذلك فنهلك، اللهم اغفر لحاضرنا وغائبنا، حينا وميتنا، كبيرنا وصغيرنا، اللهم هذه الوجوه المتوضئة ترجو مغفرتك وعفوك فاغفر لها، وثبِّتْها على دينك، واعْصِمْها من كيد الشياطين، اللهم أصرف عنا كيد الشياطين، شياطين الأنس والجن؛ فإنك وحدك القادر على ذلك.
والحمد لله رب العالمين، وتقبل الله منا ومنكم أجمعين، وكل عام وأنتم بخير.