الحيي
كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - أركان الإيمان |
وسميت سورة لقمان لاشتمالها على قصة "لقمان الحكيم"، والتي تضمنت قضية الحكمة، وسر معرفة الله تعالى وصفاته، وذم الشرك، والأمر بمكارم الأخلاق، والنهي عن القبائح والمنكرات، وما تضمنته كذلك من الوصايا الثمينة التي أنطقه الله بها، وكانت من الحكمة والرشاد بمكان ..
الحمد لله مُنزل الكتاب بالحق هدى ورحمة للمحسنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلَّى اللهُ عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: سورة لقمان هي السورة الحادية والثلاثون في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها أربع وثلاثون آية، وهي من السور المكية التي تعالج موضوع العقيدة، وتعني بالتركيز على الأصول الثلاثة لعقيدة الإيمان وهي: الوحدانية، والنبوة، والبعث والنشور؛ كما هو الحال في السور المكية.
وسميت سورة لقمان لاشتمالها على قصة "لقمان الحكيم"، والتي تضمنت قضية الحكمة، وسر معرفة الله تعالى وصفاته، وذم الشرك، والأمر بمكارم الأخلاق، والنهي عن القبائح والمنكرات، وما تضمنته كذلك من الوصايا الثمينة التي أنطقه الله بها، وكانت من الحكمة والرشاد بمكان.
ابتدأت السورة الكريمة بذكر الكتاب الحكيم معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- الخالدة الباقية الدائمة على مدى الزمان، وإقامة الحجج والبراهين على وحدانية رب العالمين، ذكرت دلائل القدرة الباهرة والإبداع العجيب في هذا الكون الفسيح المحكم النظام، المتناسق في التقويم في سمائه وأرضه، وشمسه وقمره، ونهاره وليله، وفي جباله وبحاره وأمواجه وأمطاره، ونباته وأشجاره، وفي سائر ما يشاهده المرء من دلائل القدرة والوحدانية مما يأخذ القلب، ويبهر العقل، ويواجه الإنسان مواجهة جاهزة لا يملك معها إلا التسليم بقدرة الخالق العظيم.
وبدأت السورة بقوله تعالى: (الم) [لقمان:1]، الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وللإشارة إلى أن هذا الكتاب المعجز إنما هو منظور من أمثال هذه الحروف الهجائية، وقيل: الله أعلم بالمراد منها.
(تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) [2]، أي: هذه آيات الكتاب البديع الذي فاق كل كتاب في بيانه وتشريعه وأحكامه، ذي الحكمة الفائقة، والعجائب الرائعة، الناطق بالحكمة والبيان، (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) [3]، أي: هداية ورحمة للمحسنين الذين أحسنوا العمل في الدنيا، وإنما خُصّوا بالذكر لأنهم المنتفعون بما فيه.
ثم ذكر الله تعالى صفاتهم فقال: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ)، أي: في أوقاتها بأركانها وخشوعها، وآدابها وشروطها، (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، أي: يدفعونها إلى مستحقيها طيِّبة بها نفوسهم؛ ابتغاء مرضاة الله، (وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [4]، أي: يصدقون بالدار الآخرة ويعتقدون بها اعتقاداً جازماً لا يخالطه شك ولا ريب، (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ)، أي: على نور وبصيرة ومنهج واضح سديد من الله العزيز الحميد، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [5]، أي: هم الفائزون السعداء في الدنيا والآخرة.
ولما ذكر الله تعالى حال الأشقياء قال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)، أي: ومن الناس من يشتري ما يشغل عن طاعة الله ويصد عن سبيله ممالا خير فيه ولا فائدة، سئل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن الآية فقال: والله الذي لا إله إلا هو! يكررها ثلاثا، إنما هو الغناء، (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)، أي: ليضل الناس عن طريق الهدى ويبعدهم عن دينه القويم بغير حجة ولا برهان، (وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا)، أي: ويتخذ آيات الكتاب المجيد سخرية واستهزاء، (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [6]، أي: لهم عذاب شديد مع الذلة والهوان.
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)، أي: إذا قرئت عليه آيات القرآن أعرض وأدبر متكبراً عنها كأنه لم يسمعها، شأن المتكبر الذي لا يلتفت للكلام، ويجعل نفسه كأنها غافلة عنه (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا)، أي: كأن في أذنيه ثقلاً وصمما يمنعانه من استماع آيات الله، (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [7]، أي: مفرط في الشدة والإيلام. ووضع البشارة مكان الإنذار تهكما وسخرية.
ثم عاد سبحانه فذكر ما وعد به المؤمنين فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [8-9]، ثم نبه تعالى إلى دلائل وحدانيته وقدرته فقال: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)، أي: خلق السماوات على سعتها وعظمتها وإحكامها بدون دعائم ترتكز عليها حال كونكم تشاهدنها.
(وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)، أي: جعل فيها جبالاً ثوابت لئلا تتحرك وتضطرب بكم فتهلككم بأن تقلبكم على ظهرها، أو تهدم بيوتكم بتزلزلها، (وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ)، أي: ونشر وفرَّق في أرجاء الأرض من كل أنواع الحيوانات والدواب من مأكول ومركوب مما لا يعلم عدد أشكاله وألوانه إلا الذي خلقه. (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [10]، أي: أنزلنا المطر من السحاب فأنبتنا في الأرض من كل نوع من النبات، ومن كل صنف من الأغذية كثير المنافع، بديع الخلق والتكوين.
(هَذَا خَلْقُ اللَّهِ)، أي: الذي تشاهدونه مما ذُكر وتعاينوه، (فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)؟ أي: أيّ شيء خلقَته آلهتكم التي تعبدونها "أيها المشركون"من دون الله من الأصنام والأوثان؟ (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [11]، أي: بل المشركون في خسران ظاهر، وضلال واضح ما بعده ضلال.
ثم ذكر الله سبحانه وصايا لقمان الحكيم، وهي وصايا ثمينة في غاية الحكمة والدعوة إلى طريق الرشاد، ولقمان الحكيم قيل إنه كان حكيماً ولم يكن نبياً، فقد آتاه الله الحكمة، والحكمة التي أوتيها هي الإصابة في القول، والسداد في الرأي والنطق بما يوافق الحق.
وأمره الله سبحانه أن يشكر الله على أفضاله وإنعامه عليه، حيث خصه بالحكمة وجعلها على لسانه، ومن يشكر ربه فثواب شكره راجع لنفسه، وفائدته تعود عليه؛ لأن الله لا ينفعه شكر مَن شكر، ولا يضره كفر من كفر؛ لأنه سبحانه مستغن عن العباد، محمود على كل حال.
ثم ذكر الله سبحانه وصايا لقمان لابنه وهو يعظه وينصحه ويرشده، فأوصاه بما يلي:
أولا: يا بني كن عاقلاً ولا تشرك بالله أحداً، بشراً او صنماً، فإن الشرك قبيح، وظلم صارخ للنفس؛ لأنه وضع الشيء في غير موضعه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [13].
ثانيا ً: توصية الأبناء ببر الوالدين والإحسان إليهما، لاسيما الوالدة؛ لأنها حملته جنيناً في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفاً على ضعف من حين الحمل إلى الولادة؛ لأن الحمل كلما ازداد وعظم ازدادت به ثقلا وضعفاً، وفطامه في تمام عامين.
واشكر ربك على نعمة الإيمان والإحسان إليك، واشكر والدَيْك على نعمة التربية، إلى الله المرجع والمآب فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وإن بذَلا جهدهما ليحملاك على الكفر والإشراك بالله فلا تطعمها، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وصاحِبْهما في الحياة بالمعروف والإحسان إليهما ولو كانا مشركين؛ لأن كفرهما بالله لا يستدعي ضياع المتاعب التي تحمَّلاها في تربية الولد، ولا التنكُّر للجميل، واسلك طريق مَن رجع إلى الله بالتوحيد والطاعة والعمل الصالح، ثم مرجع الخلق إلى الله فيجازيهم على أعمالهم.
ثالثا: يا ولدي، إن الخطيئة والمعصية مهما كانت صغيرة، حتى ولو كانت وزن حبة الخردل في الصغر، فتكن تلك السيئة -مع كونها في أقصى غايات الصغر- في أخفى مكان وأحرزه، كجوف الصخرة الصماء، أو في أعلى مكان في السماء، أو في الأرض، يُحضرها الله سبحانه ويحاسب عليها، لا يخفى عليه خافية من أعمال العباد، فهو سبحانه لطيف بالعباد، خبير بمواطن الأمور.
رابعاً: يا ولدي، حافظ على الصلاة في أوقاتها، وأْمُر الناس بالمعروف، وهو كل خير وفضيلة، وانههم عن المنكر، وهي النهي عن كل شر ورذيلة، واصبر على المحن والبلايا؛ لأن الداعي إلى الحق معرَّض لإيصال الأذى إليه؛ فإن ذلك من الأمور الواجبة المعزومة، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: من حقيقة الإيمان الصبر على المكاره، (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [17].
خامساً: يا بني، لا تمل وجهك عن الناس تكبراً عليهم، أو تحقيراً لهم، ولا تمشِ متبختراً متكبراً؛ فإن الله يكره المتكبر الذي يرى العظمة لنفسه، ويتكبر على عباده، المتبختر في مشيته.
سادساً: يا بني، توسَّط في مشيك، واعتدل فيه بين الإسراع والبطء، وخفض الصوت فلا ترفعه عالياً، فإنه لا يجمل بالعاقل أن يرفع صوته؛ لأن أوحش الأصوات وأنكرها صوت الحمير، فمَن رفع صوته كان مماثلاً لهم. قال قتادة: أقبح الأصوات صوت الحمير، أوله زفير وأخره شهيق.
عباد الله: هذه لمحة عن معاني الجزء الأول من سورة لقمان، أسأل الله أن ينفعنا بها، وبهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم المرسلين، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلَّى اللهُ عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه.
عباد الله: استكمالاً لإيضاح معاني بعض آيات سورة لقمان فإن الله سبحانه بعد أن حذر من الشرك وأكده بوصايا لقمان الحكيم في الإيمان ومكارم الأخلاق ذكر الأدلة الساطعة، والبراهين القاطعة على وحدانيته تعالى، ونبه بالصنعة والصانع، وما له من نعم لا تُحْصَى من تسخير السماوات، وما فيها والشمس والقمر والنجوم والسحاب، وتسخير الأرض، وما فيها من الحيوان والنبات والمعادن والبحار، وغير ذلك من الأدلة الشاهدة بوحدانيته.
ومما ذكر سبحانه أن من نعمته أن السفن العظيمة تسير في البحر بقدرة الله؛ ليريكم من عجائب صنعه، وما في ذلك من الآيات الباهرة لكل صبَّارٍ في الضَّرَّاء، شكور في الرخاء.
وبيَّن سبحانه أن المشركين إذا غطاهم وعَلَاهم وهُم في البحر موجٌ كثيف كالجبال أخلصوا دعاءهم لله حين علموا أنه لا مُنجي لهم غيره، فلا يدعون لخلاصهم سواه، فلما أنقذهم من شدائد البحر، وأخرجهم إلى شاطئ النجاة في البر، فمنهم مقتصد، أي: متوسط في العمل، ومنهم جاحد، وما يكذب بآيات الله إلا كل غدَّار مبالغ في كفران نعم الله تعالى.
ثم دعا الله الناس إلى تقواه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ)، أي: وخافوا يوماً عصيباً لا ينفع والد ولده، (وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)، أي: ولا ولد يغني أو يدفع عن والده شيئاً، (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، أي: وعده بالثواب والعقاب والبعث والجزاء حق لا يتخلف، (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، أي: لا يخدعنكم بمفاتنها ولذاتها فتركنوا إليها (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [33]، أي: لا يخدعنكم الشيطان الماكر الذي غر الخلق بأباطيله، ويلهيهم عن الآخرة.
وختمت السورة ببيان المغيَّبات الخمس، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [34]، فهذه هي مفاتيح الغيب التي اختص الله بعلمها، وهي خمس، كما جاء في الحديث الصحيح: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله" وتلا هذه الآية.
فعند الله تعالى معرفة وقت الساعة التي تقوم فيها القيامة، وعنده معرفة وقت نزول المطر ومحل نزوله، ويعلم ما في الأرحام من ذكر أو أنثى شقي أو سعيد، وما يدري أحد ماذا يكسب غداً، وماذا يحدث له وما يفعل من خير أو شر، كما لا يدري أحد في أي أرض يموت، ولا في أي مكان يقبر، إن الله يعلم كل الأمور، خبير بظواهر الأشياء وبواطنها.
اللهم انفعنا بما سمعنا، وأهدنا إلى سبيل الرشاد، يا سميع الدعاء اغفر لنا وارحمنا.
وصَلُّوا وسلِّموا -عباد الله- على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.