الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
لقد تبيَّن من دراسة التاريخ أن العالم الإسلامي تفتك به مؤامرات تُدَبَّرُ في الخارج بذكاء، ويُصنَعُ بعد ذلك الرجال العملاء في العالم العربي والإسلامي لتنفيذِ مخطَّطاتٍ صهيونيةٍ وصليبيةٍ وشيوعيةٍ؛ المهم، أنها جميعاً تتلاقى على سحق الإسلام، وتمزيق أمته. وقد نجحت -بلا ريب- هذه المؤامرات، وأصبح المسلمون الآن موزَّعين على نحو سبعين جنسية ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن الإسلام هو الصبغة الإلهية الثابتة، وهو الرباط الأوحد الأعظم بين المسلمين في المشارق والمغارب، وأخوة الإسلام عاطفة شريفة جعلها رب العالمين أساساً لوحدة كاملة، وأمة متماسكة، هذه العلاقة توجب حقوقاً مختلفة، منها التناصر والتكافؤ، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " رواه البخاري. لا يظلمه: لا يجور عليه، ولا يسلمه: لا يخذله في مجال، ولا يتركه وحده في ميدان، بل يكون ظهيراً له حيث كان. ولو أن شخصاً اعتنق الإسلام في أبعد قارات الأرض لنشأت له حقوق على كتلة الأمة الإسلامية في أرضها هذه التي تعيش عليها الآن!.
والمسلمون، بهذه الوحدة وبهذه الأخوة أمة واحدة، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. رباط التوحيد، عقيدة الإيمان بالله الواحد هي المحور الذي يتلاقى عليه المسلمون وإن اختلفت أجناسهم، من عرب إلى ترك إلى زنوج إلى هنود، إلى بيض إلى سود، إلى أي دم أو لون أو عرق مما يتصور في الطبيعة البشرية.
الأمة الإسلامية أمة واحدة، هذه الوحدة عرفت في تاريخها الطويل، فدولة الخلافة بعد دولة النبوة، ودولة الأمويين بعد دولة الخلافة، ودولة العباسين بعد الأمويين، ودولة الأتراك العثمانيين بعد العباسيين، كانت تعتبر المسلمين الموزعين في القارات الخمس، كانت تعتبرهم أمة واحدة.
هذه الوحدة كانت -بلا ريب- أساس بقاء الأمة، وكانت سلاحاً حاداً يمنع أعداءها من أن يفتكوا بها، أو ينالوا نيلاً جسيماً منها، فلما أراد أعداء الإسلام أن يمزقوا هذه الأمة، وأن يجهزوا على دينها؛ قرروا أن يقسموها إلى دويلات شتى، وإلي شعوب مختلفة.
وبدأ هذا التقسيم في الحقيقة عندما بدأت جمعية سرية في تركيا، أسمت نفسها جمعية الاتحاد والترقي، تقاوم السلطان عبد الحميد، والسلطان عبد الحميد رجل كذَب عليه كثير من أرخوا له، فإن الأمة الإسلامية على عهده كانت أكثر تماسكاً، وأبعد عن ضرب الأعداء، فلما عُزل الرجل، وبدأت النزعة الطورانية، وهي جزء من مخطط عالمي ضد الإسلام، يحيي الطورانية في تركيا، ويحيي الفرعونية في مصر، ويحيي الفينيقية في سوريا، ويحيي الآشورية في العراق، ويحيي الفارسية في إيران وهكذا، وهكذا.
المهم هو أن الرباط الأوحد -وهو الإسلام- يتمزق، أن الصبغة الثابتة يبهت لونها وتخف صبغتها، أن عاطفة الأخوة الإسلامية تؤخر وتتقدم عليها نزعات أخرى، وعواطف أخرى. وكان المقصد تمزيق الأمة الإسلامية، وأخَذ هذا التمزيق شكله الأول في أول ضربة وقعت إثر أول انقلاب عسكري خطير في تاريخ الأمة الإسلامية، وهو انقلاب "مصطفى كمال أتاتورك"، ومصطفى كمال أتاتورك -كما ذكر التاريخ- رجل عميل، صنع له الاستعمار نصراً على اليونان حتى يجعل منه شخصية مهمة! وعن طريق تكوين شخصية مهمة يمكن أن يُضرب الإسلام ضربات موجعة على يد شخص أُمكن أن يتوج ببعض الهالات من نصر برَّاق، ومن أمور تجعله زعيماً، وما هو في الزعامة بقليل ولا كثير!.
لقد تبيَّن من دراسة التاريخ أن العالم الإسلامي تفتك به مؤامرات تُدَبَّرُ في الخارج بذكاء، ويُصنَعُ بعد ذلك الرجال العملاء في العالم العربي والإسلامي لتنفيذِ مخطَّطاتٍ صهيونيةٍ وصليبيةٍ وشيوعيةٍ؛ المهم، أنها جميعاً تتلاقى على سحق الإسلام، وتمزيق أمته. وقد نجحت -بلا ريب- هذه المؤامرات، وأصبح المسلمون الآن موزعين على نحو سبعين جنسية، كما قلت فيما مضى.
أول ما ظهر في العالم الإسلامي النزعة الوطنية، ولا شك أن كل امرئ يحب وطنه، ومحبة الوطن غريزة في دماء البشر، ولكن من قال إن حب الوطن يعني أن نعبد التراب وننسى خالق التراب؟ من قال هذا؟ إن النشيد الوطني الذي صنع لنا، كما يقول فيه قائله وهو يناجي مصر:
حَديثُكِ أوَّلُ مَا في الفُؤاد | ونَجْوَاكِ آخِرَ مَا فِي فَمِي |
وإذا كان حديث مصر أول ما في الفؤاد وآخر ما في الفم، فماذا يبقى لله أولاً وآخراً؟ لن يبقى له شيء! لقد كتبت هذا في كتابي "ليس من الإسلام" من عشرين سنة.
النزعة الوطنية إذا كانت أغرت المصريين بعبادة مصر، فقد أغرت كل بلد بأن بعبد تربته، ويتعصب لوطنيته، ويجعل منها شيئاً يقدم على الدين ومنطقه، وعلى العقيدة ووحيها، وعلى الأخوة الإسلامية وحقوقها، وأفهَمَ المسلم في السودان أن ليست له صلة بأخيه في مصر، بل الزنجي الوثني أو الذي نصَّره المبشِّرون في جنوب السودان أولى به وأوثق! وأقرب إليه وأقوى من صلته بأي مسلم في أي مكان آخر!.
وبهذه الفلسفات الجديدة أُكلت أراضي الإسلام، لأن كل جزء من هذه الأرض شغل أهله بأنفسهم فقط.
فلما أحس المسلمون بأن النزعات الوطنية توشك أن تأتي عليهم فرادى وجماعات أخذوا يتجهون إلى النزعة العامة، إلى الإخوة الجامعة، إلى الأمة الواحدة، إلى الإسلام الكبير، إلى عالمه الرحب، ولكن قبل أن تبدأ الدعوة الإسلامية تأخذ مداها، كان التآمر العالمي قد اتفق مع "ميشيل عفلق" و "عبد المسيح فلان" و... و... من العرب السوريين أن يؤلفوا نهضة عربية أخرى تغني عن الإسلام، وجاءت القومية العربية لتغني عن الإسلام.
ونحن ما فهمنا القومية العربية على هذا النحو، نحن نعتبر العروبة وعاء الإسلام، ونعتبر العربية لغة القرآن الكريم، فيجب أن تبقى، وأن يكون لها من ينطق بها ويرعاها، ومن تزدهر آداب العربية في مجتمعهم وحضارتهم وقوميتهم، فتكون القومية قومية لسان لا قومية دم أو جنس أو عرق؛ فإن الإسلام لا يعرف التعصب لجنس، ولا يعرف أن يقدم دما على دم، أو لونا على لون، فإن أخوة الإسلام محت كل هاتيك الفوارق بين الخلق.
لكن الذي حدث ونفذ أن العروبة أسبق من الإسلام، وبالتالي تمحى الآن في بطاقة تحقيق الشخصية، تمحى الديانة فلا يكتب مسلم أو مسيحي أو درزي، أو كذا، أو كذا في البطاقة في سوريا أو في العراق، لم؟ لأن المقصود فعلاً أن تكون العروبة أهم من الإسلام. ونشأ عن هذا طبعاً أن العالم الإسلامي مُزِّق، وأن قضية فلسطين اعتبرت قضية عربية لا قضية إسلامية، واعتبر العرب مسؤولين عن أنفسهم.
وهكذا ازدادت جراحات الإسلام عمقاً، وازداد نزيفه غزارة، وشعر أعداء الإسلام بأن الإسلام يوشك أن يلقى حتفه، وأن ينتهي أجله، لأن المؤامرات التي حبكوها وأحكموا صنعها بدأت تؤتي ثمارها.
لكن دين الله كان أغلب، والمنتمين إليه كانوا أكثر، وكانت العقيدة أعز على أنفسهم من الاستعمار الثقافي والقانوني والاجتماعي الذي غلب عليها؛ وبدأت صيحات الدعوة إلى الإسلام تنطلق بقوة، وتوجب على الأمة أن تعود إلى دينها وأن تتمسك به. وهنا أخذت المؤامرات ضد الإسلام طريقاً آخر.
ونحن نريد أن نكشف أبعاد المؤامرة الجديدة على الإسلام حتى إذا افتضحت في أوانها، وانكشف المشتركون فيها -وهم يؤدون دورهم- بطلت حيلهم، وافتضحت عقباهم، وعرف ما يريدون؛ فأخذت الأمة حذرها من هؤلاء.
المؤامرة الجديدة: إنه لا بأس من العودة إلى الإسلام، لكن الإسلام الذي نعود إليه إسلام يمكن للحاكم أو للدولة أن تتخلص من نصوصه. دين بلا نصوص ما يكون؟ وما هي النصوص التي يمكن أن نتخلص منها؟ أطراف المؤامرة الجديدة كشفوا عن أنفسهم، وأنا تابعت هذه المؤامرة في بلاد إسلامية كثيرة، وعرفت أنه ليس من الصدف أن يكون هناك هيجان في وقت واحد ضد النصوص الإسلامية في أقصى الشرق في أندونيسيا أو باكستان، وفي أقصى الغرب في تونس والجزائر، وفي وسط العالم الإسلامي في مصر!.
لا بد أن أطراف المؤامرة تحركهم قوى واحدة، وتدفعهم رغبة واحدة في القضاء على هذا الدين. المؤامرة الجديدة تتحدث عن إسلام بلا نصوص، إسلام يستطيع أي إنسان أن يلغي أحكامه كما يريد. وقد سمعنا فعلاً أن حاكماً قال: صوم رمضان يعطل الإنتاج! إذاً فلا ضرورة لصيام رمضان... أنا مسلم، ولكني مسلم متقدم، مسلم متطور، مسلم ينظر إلى النصوص نظرة مرنة!... الحج يضيع العملة الصعبة. قبَّح الله وجوهكم! وما الذي جعل العملة صعبة وسهلة؟ إذن لا حج. لكن لا حج مشكلة خطيرة، إذن يذهب الحُجَّاج بالقرعة؛ وطُبِّق هذا! طبقه رجل شرعي في إندونيسيا، وانتقلت العدوى إلينا، لكنها ستنتهي إن شاء الله.
الحج يضيع، الصوم يضيع، الصلاة، ما المقصود منها؟ تقويم الأخلاق؟ نحن أخلاقنا حسنة، فلا ضرورة للصلاة! وهكذا، وبدأت حركة المتآمرين، تنكشف في إلحاح بعض الرجال وبعض النساء على أن يكون هناك إسلام بلا نصوص.
إسلام بلا نصوص هي البدعة الجديدة, تتبعت البدعة الجديدة فوجدت أن هناك نسوة يعلمن أن القانون القائم المستورد من فرنسا، وكذلك القانون القائم في السودان المستورد من انجلترا، هذه القوانين لا تعتبر الالتقاء الجنسي الحرام جريمة! بل إذا كان الرجل متزوجاً ورأي أن يترك امرأته بعد أن فعلت ما فعلت فلا حرج! ليس لله في هذا القانون حق يقام، وليس هناك في هذا القانون دين يرعى.
ولو أن النسوة المشتغلات بالنهضة النسائية كما يردن التعبير عن أنفسهن، لو كن صاحبات شرف، لو كن صاحبات مكانة خلقية، لو كن صاحبات غيرة على الأعراض والأسرة؛ لهاجمن هذه القوانين، ولقلن يجب أن تغير، ولو أنهن بدأن الحركة من هذا المبدأ لاستمعنا إليهن في كثير، لكن الذي حدث أنهن أطبقن شفاههن على هذا المنكر القانوني، وسكتن عنه سكوتاً تاماً، وبدأ الكلام عن أن المرأة مظلومة في الإسلام؛ لأنها دون الرجل في نصاب الميراث وفي نصاب الشهادة.
عجباً! المرأة التي كرمها الإسلام طفلة، وجعل الإنفاق عليها ستراً من النار، وطريقاً إلى الجنة، وكرَّمها زوجة، وجعل أفضل الرجال الذين يكرمون نساءهم، وكرَّمها أماً، وجعل الجنة تحت قدميها، هذا الإسلام يُتهم بأنه أهان المرأة! والقانون الذي افترش المرأة لكل كلب والغ في الأعراض يسكت عنه ويعتبر قانوناً مقدساً! يُهاجَم الإسلام، ويُسكت عن هذا القانون!.
عندما أتيح الكلام لإحدى المتحدثات عن النهضة النسائية قالت كلاماً، لا أدري كيف قيل؟ امرأة تقول: إن "مصر" لا حرج عليها ولا تعاب إذا كانت منفتحة للسُّيَّاح ترضي أمزجتهم! هذا الكلام ينقل في الخارج فيعلم منه في الشام وفي ليبيا وفي السعودية وفي كل بلد أن النساء في مصر سلعة تباع وتشترى! هل هذا هو الحال في مصر؟ وهل النساء في مصر هكذا؟ إن مصر مليئة بالأسر الشريفة، مليئة بأصحاب الغيرة على الأعراض، مليئة بناس يفضلون الموت على العار!.
لكن امرأة فقدت الدين والشرف والخلق تتحدث عن نساء مصر بهذا الأسلوب، وتعطي فكرة عن مصر كلها بأن مصر بلد منفتحة ترضي أمزجة السائحين! هذه المرأة تنطلق مسعورة عندما ترى الطالبات في الجامعة ارتدين ملابس الحشمة، وتسكت سكوت القبر على فساد القانون، وتدافع عن "شارع الهرم" وما يقع فيه من فضائح! ما هذا؟ لاحظوا أن المتكلمات في هذا الموضوع يحرصن على القول بأنهن مسلمات حريصات على الإسلام، ولكن الإسلام الذي يطلبنه إسلام متطور، إسلام لا يعرف التطبيق الحرفي للنصوص، إسلام بلا نصوص!.
ثم أشعر بشيء من الكآبة وأنا أرى مَن لا يحسن الحديث يتكلم في الأمور العلمية بجهل غليظ! قال أحد الناس: إن قطع يد السارق كان قديماً؛ لأنه لم يكن هناك سجون. وهذا جهل صبياني؛ لأن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان له سجن في المدينة، ومعروف أن الحطيئة الشاعر كان شديد التطاول على الناس، وأراد عمر أن يمنع بذاءته وفحشه فحكم عليه بالسجن، وفي السجن أرسل الشاعر إلى عمر -رضي الله عنه- أبياتاً يستعطفه فيها؛ ويطلب منه أن يعفو عنه، وأن يطلق سراحه، وفي هذه الأبيات:
مَاذَا تقولُ لِأَفْراخٍ بذي مَرَخٍ | زُغْبِ الحوَاصِلِ، لا ماءٌ ولا شَجَرُ |
أَلْقَيْتَ كاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ | فاغْفِرْ، عليكَ سلامُ اللهِ يا عُمَرُ |
لكن متحدث القرن العشرين في الصحافة ظن أن السجن اختراع أوربي أو اختراع أمريكي فقال إن المسلمين إنما حكموا بالقطع؛ لأنهم لا يعرفون نظام السجون. عجباً لهذا الجهل! ثم تسمع كلاماً آخر امتدادا لهذا الجهل في موضوعين: الموضوع الأول في قطع يد السارق؛ لأن صحافتنا وأدباءنا كثير منهم شديدو الحنو على السكارى والزناة واللصوص! سبحان الله! أهناك قرابة؟ ما هذه العاطفة الحارة ضد الإسلام؟ وهذا الدفاع المستميت عن اللصوص وعن الزناة وعن السكارى؟.
قال المدافع الجهول: إن الإسلام أمر بأن يدرأ الحد بالشبهة. وهل درء الحد بالشبهة معناه عدم إقامة الحدود، وأن يعطَّل النص؟ شيء عجيب! إن عمر -رضي الله عنه- قطع حين وجد القطع لابد منه، ومنع كأي قاض تعرض عليه قضية فيتأمل، فإذا وجد المتهم جديراً بأن يحكم عليه حكم عليه وقطع، وإذا كان جديراً بأن يترك أنفذ أمر الله وتركه دون حكم.
في الأمر الأول جيء بلص، ونظر إليه عمر فوجده رجلاً جلداً قوياً، وجاءت أمه تستعطف عمر وتقول له: ابني سرق، وهذه أول مرة له. فقال لها عمر: كذبتِ! إن الله لا يفضح عبده لأول مرة. ثم أقيم الحد. وروي ابن حزم في "المحلي" أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ذهب إلى الرجل وقال له: أنشدك الله! كم سرقت من مرة؟ قال له: إحدى وعشرين مرة!.
وفي قصة أخرى أن غلماناً لابن حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة ونحروها وأكلوها، وجيء بهم إلى عمر -رضي الله عنه- فرأى وجوهاً مصفرة، وناساً متعبين، فتحقق الأمر، وقال لابن حاطب بن أبي بلتعة: أما إني أعلم أنكم تُدئبونهم في العمل وتنقصونهم الأجر، أما إذ فعلوا ذلك لأنك ظلمتهم. فلَأُغَرِمَنَّكَ غرامة توجعك؛ ثم قال للــ"مزني" صاحب الناقة: بكم كنت تبيع ناقتك؟ قال كنت أمنعها من أربعمائة درهم، فأمر ابن حاطب أن يدفع ثمانمائة درهم. وفي رواية ضعيفة، قال عمر لابن حاطب: إن سرقوا مرة أخرى قطعتك أنت.
معنى هذا أن الإسلام دين لا يقطع إلا اليد الظالمة الآثمة، أما الجائع، أو المظلوم، أو من هناك شبهة في إقامة الحد عليه، فإن الحد يسقط تلقائياً، وعمر -رضي الله عنه- يتبع في موقفه من غلمان ابن حاطب سيده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسيدنا جميعاً، فإنه في قصة معروفة أن لصاً ضبط في بستان أكل وملأ جيوبه، وذهبوا به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن ضربوه ضرباً موجعاً، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-، واللص متألم، قال لصاحب البستان: "ما علَّمْتَ، إذ كان جاهلاً؛ ولا أطعَمْتَ، إذ كان جائعاً " واعتبره الرسول -صلى الله عليه وسلم- جاهلاً، ولم يقم عليه الحد.
لكن ما نقول؟ إذا كان الإسلام لم يتحدث فيه فقهاؤه، وإنما يتحدث فيه سماسرة الاستعمار، يتحدث فيه عملاء الشيوعية والصليبية، يتحدث فيه الجهلة الذين لا يعرفون كتاباً ولا سنة ولا فقهاً، وبعد أن يكتبوا جهلهم يأخذون جائزة تشجيعية! ما هذا؟ يقول المدافع عن السرقة وأن حد السرقة لا يجوز أن يقام، يقول كلاماً غريباً امتداداً للجهل، بعد أن قال: إن الحد يسقط بالشبهة، كأن كل حد في الدنيا يسقط بالشبهة! أي جهل هذا؟ يقول: إن الإسلام ترك الإماء والجواري والعبيد والرقيق، ونسخ كلام القرآن في هذا، وكما نسخ كلام القرآن في السرقة. هذا الكلام أفزعني! لأنه جهل صفيق جداً!.
أولاً: الفرق شاسع بين حد السرقة الذي جاء فيه أمر إلهي، وبين قصة الرقيق التي نتحدى الإنس والجن أن يأتوا بنص في القرآن يأمر بالاسترقاق! القول بأن في القرآن نصاً يأمر بالاسترقاق غلط، ولكن الجهل المركب جعل المدافع يقول بأن في القرآن نصاً نسخة المسلمون. هكذا!. وليس في القرآن نص بالاسترقاق، ولكن الأمر بالاسترقاق موجود في العهد القديم، وموجود تطبيقاً له في العهد الجديد!.
ومن جهل المتعلمين المسلمين -وهو جهل غليظ- أنهم يضعون الإسلام في سجن الاتهام في قضية الرقيق، مع أن الذي يوضع في سجن الاتهام أيُّ مبدأ أو دين آخر إلا الإسلام! لأن الإسلام جاء والرقيق موجود في القانون الروماني والإغريقي والهندي واليهودي والنصراني! جاء الإسلام -وهو الدين الأوحد الذي جاء- فمنع الاختطاف، واعتبر الاختطاف جريمة منكرة، وكان الاختطاف أساس الاستعباد، وظلت أوربا تشتغل بالخطف إلى القرن التاسع عشر، وكان لملكة انجلترا "اليزابيث" سفينة اسمها يسوع تشتغل بخطف العبيد في غرب إفريقيا! نعم ، تخطف الأحرار، وأفتى لها القساوسة بحِلٍّ هذا اعتماداً على نصوص التوراة!.
الإسلام ليس فيه شيء من هذا، الإسلام قال في حديث قدسي عن الله: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفي منه، ولم يعطه أجره " رواه البخاري.
هذا هو الإسلام، صحيح أن الإسلام استبقى نظام العبودية كما يسمى، وجعل الأَسْر هو المنبع الوحيد للرق، ورفض ما عداه من مبادئ، واستبقى هذا من قبيل المعاملة بالمثل، لأنه يستحيل أن يحرم الرق إلا بالمعاهدة دولياً، ومن الجنون أن أحرم الرقيق فأحرر الآخرين، بينما أترك أولادي يؤسرون ويسترقون.
هذه هي القضية، لكن الجهل الذي أتاح للكثيرين أن يتبجحوا، جعل بعض الناس يقول: إن الإسلام دعا إلى الرق، ونحن نسخنا الرق؛ إذن تنسخ الحدود، وتوقف النصوص! المؤامرة الجديدة التي يعمل لها كثيرون في وسائل الإعلام، وأولها الصحافة، ثم الروايات والمسارح، دعوة إلى إسلام بلا نصوص، ومعنى إسلام بلا نصوص أنْ يستطيع أي تافه أن يقول: لا داعي لهذا النص. لا داعي لهذه الآية. لا داعي لهذا الحديث. ومعنى ذلك أن يضيع الإسلام كله.
ورداً على هؤلاء أريد أن أقول: إن القرآن مائة وأربعة عشرة سورة،ـ من كفر بآية واحدة من سورة واحدة فهو كافر بالمائة والأربع عشرة سورة جميعاً. وإن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- له سُنَّة درسها العلماء الثقات، ورتبوا أحاديثه بين متواتر وصحيح، وإن الذي يكفر بأتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- هو كافر بالأنبياء جميعاً وبمن أرسلهم، رب العالمين -جل شأنه-.
إن الإسلام واضح، أريد أن يعلم الناس أننا لن نسكت على ضياع ديننا. إن الجراءة الفاجرة التي مكنت امرأة أن تزين الفجور دون حرج، والتي زينت لغيرها أن يبيح الخمر أو يبيح السرقة أو يرفض بصفاقة أمر الله بقطع يد السارق، إن هذه الجراءة يجب أن تعلم خواتيمها، وخواتيمها أننا ندرك أبعاد المؤامرة ونتائجها، أبعاد المؤامرة ونتائجها أن يزول الإسلام، وكما دخل اليهود سيناء، والجولان، والمسجد الأقصى على أيدي هؤلاء المتآمرين، وفي ظل مؤامراتهم، سيدخلون بقية العالم العربي.
ونحن لا أرب لنا في حياة يضيع فيها الإسلام، وتضيع فيها أوطان الإسلام، نريد أن تعلموا أنه لا بقاء لنا ولا رغبة لنا أن نبقى إذا ضاع الإسلام، وسنشتبك مع هؤلاء الكلاب والذئاب الذين ينبحون ديننا، ونسمع عواءهم في دور الصحف وفي شتى المنتديات، سنشتبك معهم يقيناً، ونتابع أخبارهم، ونفضحها خبراً خبراً، ونتابع إفكهم على الإسلام، ونكشف ضلالهم كلمة بعد أخرى، إننا لن نسكت، ويجب على المسلمين في كل مكان أن يُشعروا هؤلاء بأن كلمة إسلام بلا نصوص لابد أن تختفي، لابد أن يعود الإسلام بنصوصه كلها، وموتنا هو أول ما نقدمه في سبيل هذا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25–26]. وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واعلموا -أيها المسلمون- أن قطع يد السارق، أو جلد الزاني، أو رجمه، أو ما إلى ذلك من نصوص، هي في تعبير علماء الشريعة فروع إسلامية مهمة، لكن الأصل الإسلامي الأول هو الإيمان بالله، والسمع والطاعة له، وتولية حكام يقولون للأمة كما قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني".
ومعنى ذلك فإن الأصل في الحكومة الإسلامية ليس قطع يد السارق كما يريد أن يلغط عدد كبير من الناس، هذه فروع في الشجرة الإسلامية، أما جذع الشجرة فحكم يؤمن بالله ويدين بالسمع والطاعة، ويستشير الأمة، ولا ينال منها، ولا يذلها.
ولذلك فإن أي حاكم يفكر في أن يجعل هواه قانوناً فيعتقل من يريد متى يريد، هذا ليس حاكماً إسلامياً، بل هو سمسار للاستعمار العالمي كي يذل الأمة، ويوطئ ظهرها لكل محتل يجيء من الخارج.
إن أساس الحكم الإسلامي إعطاء الناس حق الحرية، كما قال عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه-: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟"؛ ولذلك فإن سيادة القانون مبدأ يجب أن يحترم، على أن يكون هذا القانون -بداهة- في إطار الشريعة، منها يُستمد، وعليها يَعتمد.
إننا نرفض أن يصور الإسلام بصورة مشوهة. ممَّن تؤخذ صور الإسلام؟ من رجاله، من علمائه. إن الأدعياء ليس لهم أن ينطلقوا فيتحدثوا عن الإسلام بما يريدون أو كيف يريدون. إننا نؤكد: لن نخون الإسلام. وإذا كان أصحاب الجراءة على دين الله قد أُتيحت لهم فرص يكذبون فيها على الإسلام، فإنه لا يجوز أن نترك لهم الفرصة لنجاح المؤامرة الأخيرة على الإسلام، إنها المؤامرة الأخيرة، لن تكون بعدها مؤامرة إن شاء الله.
إن المؤامرة الأخيرة التي يعمل لها بعض الرجال أو بعض النساء مهمتهم أن يظهروا أنفسهم مسلمين متحمسين للإسلام! لكن إسلام بلا نصوص. يراد أن يكون شهوات تحكم، وأهواء تمشي الأمة وراءها. وما يمكن أن يترك الجو لهؤلاء أبداً.
كما قلت، سنتعقَّبُهم، سنفضحهم؛ لأنهم -كما استيقنت- أسباب هزيمتنا، وأسباب ارتدادنا. إن الخطة التي وضعها الاستعمار العالمي صليبياً أو شيوعياً هي أن يقال للمسلمين: يجب أن ترتدوا عن دينكم، وأن تتنازلوا عن بلادكم؛ لا خيار أمامنا! مطلوب منا أن نرتد عن ديننا، وأن نتنازل عن بلادنا.
أما الارتداد عن الدين فلأنهم يحاربوننا على هذا الدين منذ أربعة عشر قرناً! وأما التنازل عن البلاد فلأن خيراتها كثيرة، وكنوزها موفورة، والطاقات فيها لا تنتهي. نحن بين أمرين: إما أن نتشبث بالإسلام فننجو وننجح، وإما ألا نتشبث بالإسلام فينالنا خسار الدنيا والآخرة جميعاً.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر". رواه مسلم والنسائي.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر:10].
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].